*يوسف عبد العزيز
انطلاقة (ثورة الشعر الحديث)، أواخر أربعينيّات القرن الماضي، استقبلتها الحركة النقدية العربية بمزيد من الفرح. كتابات كثيرة احتفت بهذا النّوع الجديد من الشعر، الذي خرج من إسار الشّكل العمودي، باتّجاه ما سُمّيَ في حينه بقصيدة التفعيلة. سنوات قليلة واجترح الشعراء الجدد فضاءات جديدة للكتابة. في العام 1958 ولدت قصيدة النّثر، وأحدثت انطلاقتها دويّاً كبيراً في السّاحة الشعرية العربية. في هذه الأثناء كان الشعر ينهض ويتطوّر، بينما بقي النّقد حائراً وعاجزاً عن متابعة النماذج الجديدة. وأستطيع أن أقول إنّ النّقد العربي قد توقّف عن متابعة الشّعر منذ أوائل السّبعينيّات حتى الوقت الحاضر، باستثناءات قليلة ونادرة.
استفادت الدّراسات النقدية التي قاربت الشّعر الحديث، من عدد من المدارس النّقدية العالميّة كالواقعية والوجودية والبنيوية، بالإضافة إلى التّراث النّقدي العربي. لقد كانت تلك الدراسات خليطاً عجيباً من كل تلك المذاهب، لكنّها في غالبيتها العظمى كانت مشغولةً باستقصاء أبعاد الشّكل والمضمون في النّصوص الشعرية. في الواقع كان الشّعر يُدرس بالأدوات النقدية نفسها التي تتناول الأجناس الأدبية الأخرى، كالقصّة والرواية والمسرحيّة، والتي يسعى النّاقد فيها عادةً إلى تبيان أفكار النّصّ، والرسالة التي يتوجّه بها الشاعر إلى الجمهور.
أخيراً كان الناقد يحاكم النّص فيصنّفه إمّا في خدمة قضايا الجماهير، أو ضمن الكتابة الغامضة الهاذية، التي هي صدى لمذهب الفنّ للفنّ، كما كان يُشاع.
أكثر الكتابات التي درست الشعر بعد ذلك كانت كتابات انطباعية، ومن خلالها كان الكاتب يقوم بتقديم عدد من الرّؤى والملاحظات بخصوص النّصّ الذي يدرسه، بناء على ما تمّ تلمّسه واستنتاجه. النّاقد في هذه الحالة ليس بالضرورة أن يكون ناقداً متخصّصاً، فقد يكون شاعراً أو روائياً أو متذوّقاً للشّعر.
الآن، ومع دخولنا الألفيّة الجديدة، وانتقال النّشر من طابعه الورقي إلى الطّابع الإلكتروني، حدثت هزّة عظيمة في عالم الكتابة أدّت إلى ظهور تغيّرات جديدة على صعيد النصوص المنشورة، وعلى صعيد مقارباتها النقدية. هنا أصبح (النّقد) متاحاً أمام جمهور عريض ومتعدّد المستويات. وبدلاً من وجود تلك الدراسات السّابرة للنّصوص، أصبحنا أمام ملاحظات صغيرة وأفكار يبثّها القرّاء.
خلاصة الأمر أنّ التّباعد الذي كان قائماً فيما مضى بين الشّعر والنّقد، قد تعمّق الآن، وأنّ الشعر أصبح عمليّاً دون متابعة نقدية تُذكَر. وبسبب الصعوبة التي يجدها النّقّاد في دراسة الشعر، فقد حوّلوا جهودهم باتّجاه الأجناس الأدبية الأخرى كالقصّة والرواية. هنا ثمّة سؤال يطفو على السّطح: تُرى ما الذي أحدث مثل هذه القطيعة بين الشّعر والنّقد؟ بكلام آخر، لماذا فشل النّقد عن مواكبة الشّعر؟
للإجابة على السّؤال السّابق، لا بدّ لنا من معاينة الدراسات النقدية، والأدوات التي استخدمها النّقّاد في مقاربة النّصوص الشعرية. إنّ نظرةً فاحصة إلى هذه الدراسات لتشير إلى عدم انسجامها مع طبيعة الشّعر الخاصّة، القائمة على التّحوّل والتّأويل. وفي هذا المجال لا بد من القول، إنّ الشّعر يتمتّع بمجموعة من الخواص، التي تفترق به عن سائر الأجناس الأدبية. إنّه جنس أدبي مستقل عنها جميعاً، وربّما يكون أقرب إلى الموسيقى منه إلى الرواية والمسرحية. كيف يمكن لنا أن نقارب الموسيقى مثلاً، بأصواتها السائلة المتّقدة وهي ترشح في الخلايا، وتطيّر أجسادنا في هبوبها المباغت؟
الشّعر قائم على تلمّس العالم والحياة من خلال الحدوس.
والشعر يبثّ رؤاه من خلال الحدوس أيضاً،
أرضه هي أرض القلق، والأسئلة، وهي أرض الحيرة الكبرى.
من هنا كان لا بدّ لنا من مقاربة أخرى للشّعر، مقاربة تأخذ بعين الاعتبار وحشة الكلمات وهي تتطاير من فم الشاعر خرساء وذاهلة مثل رتل فراش ممسوس.
(لوحة للفنان المصري عادل السيوي)
__
*ضفة ثالثة