من هو مثقف المستقبل؟

*محمد إسماعيل زاهر

من هو المثقف؟، سؤال ينتمي إلى دائرة البديهيات والمسلمات إذا طرحته بصورة سريعة، بل ربما لا يلتفت إليه معظمنا، فجميعنا نملك الرد، وجميعنا في الوقت نفسه لا نستطيع تقديم إجابة واضحة ومحددة وحاسمة لهذا المصطلح الإشكالي الذي يحيل إلى فضاءات يتقاطع فيها المعرفي بالإيديولوجي، و الاقتصادي بالاجتماعي، والآني بالتاريخي، فكل العلوم حاضرة عند الاقتراب من تعريف المثقف، وكل الأزمنة راهنة عند التعاطي مع ما نعنيه بمصطلح «المثقفين»، وحتى اللغة تبدو سيالة ومنفلتة من عقالها فنحن نستخدم حزمة من المفردات للتعبير عن كلمة مثقف.

من هو المثقف؟، سؤال يكتسب أهميته الآن، والآن تحديداً، من عاملين أساسيين، الأول: تلك العطالة الفكرية التي انتابت الساحة الثقافية العربية منذ عدة سنوات بحيث لم نعد نعثر على أدبيات تطرح المفهوم وتناقشه، بل لقد توقفت تلك الدعوات التي كانت تنتقد المثقفين بعمق وتبشر بنهايتهم، من قبل مثقفين آخرين، أو ما يعرف بأدبيات نقد الذات، وحتى هوايات المابعد لم تنتج تصوراتها لما بعد المثقف. العامل الثاني يتمثل في تلك المصطلحات التي باتت تطل علينا بقوة وتتعلق بتأثير مواقع التكنولوجيا الحديثة، فهناك الرواية الإلكترونية، وقصيدة المحمول، والنص التواصلي..الخ، ونتوقع أنه لن تمر فترة طويلة حتى نجد أنفسنا أمام تواجد قوي ومكرس للمفكر «التويتري»، والمثقف «الفيسبوكي».
أمام هذين المصطلحين الأخيرين لابد أن يتوقف الجميع ليتأمل، لا ليصرخ، فهيمنة ثقافة تلك المواقع قادمة لا محالة وسيتغير معها شكل الثقافة التي عهدناها لقرون طويلة وما الحديث عن أشكال إبداعية إلكترونية جنينية إلا مجرد البداية في فيلم خيال علمي كنا نشاهده منذ سنوات من باب التسلية، و سيفرز هذا التغيير أطره المرجعية وقواه الفاعلة، و سينتج أساليبه في النقاش و طرائقه في الجدل ورؤيته المعرفية والثقافية، هي مسألة وقت لا أكثر، ويجب هنا ألا ننسى أن أبرز أدبيات نقد المثقف/‏‏‏‏التقليدي/‏‏‏‏ المعروف، وهل حقاً نعرفه؟، و تصوير سقوطه والتنبؤ بنهايته انطلقت من فرضيات تتعلق بصعود الثقافة التليفزيونية، وبروز الشعبي على حساب النخبوي، و أولوية المبصور على المقروء، واقتران الثقافة بصناعة الترفيه والنزوع نحو الاستهلاك.. الخ.
من هو مثقف المستقبل؟ سؤال تتطلب الإجابة عنه التوقف طويلا أمام طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك الواقع الافتراضي العصي على الإمساك والإحاطة والمنهجة، والانتظام في أطر ومقولات واضحة، لقد تحددت فضاءات المثقف/‏‏‏‏ التقليدي غالباً في ثلاث دوائر، كان هناك من يبحثون بلا ملل في علاقته الإشكالية بالسلطة، ومن يحللون رؤيته لجدل الأنا/‏‏‏‏ الآخر، ومن يرصدون دوره وتأثيره في الجمهور، وانطلاقا من كل دائرة تم تعريف المثقفين وصُنفوا في جماعات، ووضُعوا في قوالب، ورُسمت للجميع صور ذهنية، وحددت لهم أدوار يلعبونها ومهاماً يجب أن يقوموا بها، وإزاء هذه الدوائر التي أصبحت متكلسة في التعاطي مع تعريف المثقف وأدواره، ومرة ثانية إزاء المراوحة الاجترارية للأفكار والقضايا المطروحة في تلك الدوائر، كنا قد وصلنا إلى طريق مسدود، بحيث انهالت الأدبيات الناقدة للمثقف المبشرة بسقوطه.

المفارقة التي لم ينتبه إليها أحد أن إعلان نهاية المثقف التقليدي، لم يصاحبه الإعلان عن نهاية قضاياه المزمنة، بمعنى أن مفكرين مثل علي حرب و عبد الله الغذامي وتركي علي الربيعو..الخ، وكلهم ينقدون المثقف من حيث المفهوم والدور والرؤية، و يعلنون عن نهايته لأسباب تتعلق بمناخ العصر وأيضاً ترتبط بخطايا مزمنة ارتكبها المثقفون، لم يطرحوا أو يشيروا إلى نهاية تلك القضايا التي لم يمل ذلك المثقف من طرحها في دوائره الثلاث، برغم طبيعتها التكرارية، وبرغم مسؤولية تلك الطبيعة عن وصول المثقف إلى طريقه المسدود.
من هو مثقف المستقبل؟، سؤال مهم يطرح نفسه ليس نتيجة صعود ثقافة الصورة مصحوبة بقوة مواقع التواصل الاجتماعي وحسب، ولكنه أيضا يكتسب مشروعيته، من قضايا تلك الدوائر التي أشرنا لها سابقا، والتي لم تحسم، فهل سيستطيع مفكر «التويتر» أو مثقف «الفيسبوك» التعامل مثلا مع مسألة الأنا/‏‏‏‏ الآخر في الثقافة العربية، أو ما عُرف دوماً بالمسألة الحضارية؟، بكل تشابكاتها ومفاصلها، وهل ستسمح الطبيعة اللحظية لتلك التكنولوجيا بوجود ثقافة تراوح حول نفسها أو فكر ساكن يقف في محله، أو حتى تشكيل جمهور يهتم بمثل هذه القضايا، أو ببساطة هل سيكون هناك فسحة لتلك الثقافة النخبوية، في تلك المواقع؟، وهل ستتحول هذه الثقافة الأخيرة إلى تاريخ؟، تقرأه الأجيال المقبلة؟، ولكن القضية، أي قضية، لا يمكن إحالتها إلى التاريخ إلا نتيجة الشعور الحقيقي بماضويتها وعدم الحاجة إليها، والمفارقة أننا لا زلنا في حاجة إلى حسم كل قضايا الخطاب الثقافي العربي خلال القرنين الماضيين على الأقل؟، فلا زالت طروحاته راهنة ومصيرية.

هل سيشهد المستقبل تأسيس مجموعة من المثقفين الجدد في تلك المواقع ما يشبه المنابر الفكرية المفتوحة يدلي فيها الجميع برأيه حول احتياجاتنا من التراث مثلا؟، هل سيتجاوز أحدهم كل المطروح في إشكالياتنا عن التراث ويقوم بكتابته كنصوص مقروءة بلغة عصرية؟، هل ستحدث ثقافة تلك المواقع نقلة تاريخية وتتحول إلى إيديولوجيا، كما أشار بعض المفكرين في استبصاراتهم النادرة للمقبل؟، و الأهم هل ستؤثر تلك التكنولوجيا/‏‏‏‏ الإيديولوجيا في التكوين الاجتماعي لبلداننا العربية بحيث نستطيع الانخراط في العصر فعلاً و التخلي عن كل ما راوحنا حوله لقرون طويلة؟، أي هل ستؤثر تلك «الإيديولوجيا الجديدة»في البنية الاجتماعية بما يسمح لها بحسم قضاياها المزمنة؟.

من هو مثقف المستقبل؟، أو ما هي ملامح نخبة المقبل؟، وهل توجد نخبة أصلًا في مواقع التواصل الاجتماعي؟. لقد كان مفهوم المثقف أو النخبة يتحددان سلفاً بامتلاك المعرفة، ومن هذا المنطلق كان يتأسس دائما نقيض القضية، ونعني الجمهور المنتظر دائما لتوجيهات من لديه المعلومة، ثنائية النخبة والعوام، كان المثقف آنذاك بأشكاله المتعددة ومسمياته المختلفة يشبه الساحر، ومن هنا نشأت سلطته، التي أفرزت بنيتها الخاصة ورموزها التاريخية المرجعية، ولكن هل يتكرر الأمر في فضاء تتوافر فيه المعلومات على قارعة الطريق؟، وتتميز الحوارات والنقاشات فيه بالطابع الأفقي لا الرأسي، ويستطيع الكثيرون تدوير أطروحاتهم المختلفة، ويؤسسون لحظياً لأفكارهم ورموزهم التي تتبدل باستمرار، أي هل يصلح المحتوى الجديد للثقافة في التعامل مع مضمونها القديم؟، وهنا لا نود الإحالة التكرارية المملة في ثقافتنا إلى الجدل بين الشكل والمضمون، فالمحتوى الجديد، التكنولوجيا، وإن كان لا يزال يتمثل المضمون القديم حتى الآن، فإنه لن يلبث أن يفرز جوهره الجديد بدوره، هنا، هل يمكننا أن نحلم بمثقفين مغايرين لكل الأنماط التي شهدناها في السابق، وما مدى قدرة إيديولوجيا التكنولوجيا على القيام بذلك؟، و ما هي سمات ذلك المثقف؟، و خاصة ونحن لا نعرف شيئاً عن الأجيال الصاعدة، التي تفكر بطريقة مختلفة تماماً، و التي لابد أنها ستصوغ ثقافتها كما تراها، فهل ستستطيع أن تجعلنا ننخرط في العالم؟، وأن نعيش لحظتنا الحقيقية من دون العودة المستمرة إلى الماضي؟، وكيف ستبتكر قضاياها؟، و إلى أي مدى ستتمكن من الخروج بمركبات مثمرة من القضية ونقيضها، كبديل عن تلك المركبات العقيمة التي أنتجها المثقف التقليدي.
إن سؤال من هو المثقف؟، إذا كان مخادعاً في ما يتعلق بالمثقف التقليدي، فأنه أكثر إشكالية في حالة مثقف المستقبل، فحتى هذه اللحظة، لم نتعلم التفكير في المقبل، و نحن مصابون بداء معاداة الجديد، ولا نشعر براحة إلا عندما يتحول ذلك الجديد المجهول إلى قديم معروف، وهو ما يتناقض تماما مع طبيعة التكنولوجيا المتحولة باستمرار، ومن هنا كل هذا الجدل الراهن حول طبيعة التكنولوجيا وذلك القلق المؤرق بخصوص علاقتها بالثقافة، أو قدرتها على إنتاج مثقفين مختلفين، خاصة في ظل ظاهرة لن نمل من الإشارة إليها ونعني بذلك العطالة الفكرية التي تميز المثقف التقليدي، والذي لا يزال ينظر غالبا إلى التكنولوجيا بوصفها مجرد وعاء يستوعب ما نضعه فيه.
إن المثقف التقليدي يعيش مأزق صنعه بنفسه، وكان لابد أن يسقط نظريا في أدبيات أنتجتها رؤى نقدية تنتمي إلى شرائح هذا المثقف، وإن يعيش لاحقا وفي ظرف سنوات قصيرة مرارة السقوط الفعلي بفعل صعود الصورة و بروز الشعبي..الخ. والآن لابد أن يتشارك الجميع في التفكير في مستقبل المثقف، أو مثقف المستقبل: في نوعية التعليم الذي تتلقاه الأجيال الجديدة، والجامعي على وجه الخصوص، في طبيعة تكوينه الاجتماعي والمعرفي، في أدواته الجديدة بفضاءاتها المختلفة، وقدرتها اللامحدودة على التأثير، في أجندة الأولويات، والأكثر أهمية في قدرة هذا المثقف على تقديم قراءة معبرة لواقعه هو، ومرة ثانية في قدرته على أن يعيش لحظته الزمنية الحقيقية، من دون مراوحة أو الوقوع أسيراً في ظلال الماضي.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *