أستعيد الآن ذكرى تعود إلى نحو عشرين عاما مضت، حين كنت في زيارة لمنزل أصدقاء بالعاصمة الأردنية عمان. وكعادة المرضى بالكتب رحتُ أتأمل العناوين في مكتبة من كنتُ في زيارتهم. بين عشرات، لا بل مئات العناوين في المكتبة لفت نظري اسم محمد الماغوط. استللت الكتاب من مكانه، فإذا به ديوان «حزن في ضوء القمر».
كان غلاف الديوان أقرب إلى الاهتراء، وثمة آثار ماء سال عليه يوماً أو مطرٍ تسرب إلى صفحاته، فبدت صفراء. كان للكتاب رائحة عجيبة، رائحة القدم، رائحة العتق إن شئتم، فللأشياء العتيقة مذاق آخر، بقايا ذاكرة، بقايا تاريخ كان. كان عليّ أن أتصور أن هذا الكتاب عبر بحراً وبراً وجواً قبل أن يستقر في مكانه بمكتبة المضيفين.
على الغلاف المهترئ طبع اسم الدار الناشرة: «دار مجلة شعر» – بيروت 1959. ما عنى حينها أن أربعة عقود مرت على صدور الديوان، أربعون عاماً بالتمام والكمال. عنوان الديوان هو عنوان أول قصيدة نشرها الماغوط في مجلة «شعر». في مقابلة لاحقة له معه قال الشاعر إن يوسف الخال طلب منه حينها قصيدة للمجلة، فقال له غداً تكون عندك».
على ماذا كان يراهن، وهو يقطع هذا الوعد على نفسه أمام يوسف الخال. هل لأن القصيدة كانت مستوية عنده، وبقي أن يضعها على دفتر الكتابة؟ لا نعلم، لكنه في ليلة واحدة كتب «حزن في ضوء القمر»، كانت تلك مفاجأة أذهلت الخال، أما القصيدة فستغدو عنوان ديوانه الأول الصادر عن مجلة «شعر» ذاتها، والذي كانت بيدي، لحظتها، النسخة المهترئة منه.
أتصفح الديوان ورائحة العتق فيه تأسرني، لكن شعوراً دهمني بأن قصائده قد كتبت للتو، كأنها خارجة في الساعة السادسة صباح اليوم، على وقع آخر نشرة للأخبار. قصائد مغموسة بمرارة الزمن. في الشعر العظيم شيء من النبوءة، لعل النبوءة شعر: «أيها العرب يا جبالاً من الطحين واللذة/ حقول الرصاص الأعمى». «تريدون قصيدة عن فلسطين؟! – يسأل الماغوط – ، وفي نهاية القصيدة بعد عدة مقاطع يجيب: «سأطلق الرصاص على حنجرتي».
في عام 1966، سيزور أنسي الحاج دمشق، وسيفتش عن الماغوط الذي غادر بيروت إلى دمشق. كان فضوله كبيراً ليرى ما إذا كان الماغوط في عنف وفي حدة ما كان يوم كان في بيروت. الجواب سيأتي على لسان الماغوط في عام 1999 في الحديث الذي أشرنا إليه: «أشعر أنني بعكازي في بلدي أقوى من كل صواريخ الأرض».
بعد ذلك بسنوات دعي محمد الماغوط لزيارة كندا بمناسبة صدور ترجمة لأشعاره فيها، ففضل تجاهل الدعوة ولبى دعوة أخرى أتته من النبطية، المدينة اللبنانية الجنوبية التي لا تبعد عن وطنه سوريا كثيرا. حين سألته مجلة عربية لماذا فعل ذلك وفضل النبطية على كندا، أجاب: «قيل لي إن في النبطية الكثير من الشهداء»، عندما دعوه قالوا له: تعال لترى مكاناً مرتفعاً. وكان الماغوط قد هتف مرة في احدى قصائده: «لا أرى في هذا الشرق مكاناً مرتفعاً لأنصب عليه راية استسلامي».
الماغوط الناقم، الساخر، اللمّاح الذي قال مرة إن لا شيء يربكه مثل المديح، مبدع لا يعرف سوى الكتابة، يتحاشى مجالس الأدباء ومقاهيهم لأنه يكره التنظير: «لا أحب أن أسمعه ولا أن أخوض فيه، لا أذكر انني جلست مع أدباء وتحدثت في الأدب، عالمي هو الكتابة، خارج دفاتري أضيع، إذا كان عندي رأي أفضِّل أن أكتبه على أن أحكيه».
كانت دفاتر الكتابة، إذاً، هي شاطئ الأمان بالنسبة اليه، والكتابة هي حصانته الأخيرة بوجه العسف واليأس والاحباط في عصر هو، برأيه، عصر ضد الموهبة، عصر لتفريغ العواطف لا شحنها.
الشاعر الذي هدد بأنه سيطلق الرصاص على حنجرته، لم يفعل ما فعله خليل حاوي. لم يطلق الرصاص على حنجرته أو صدغه، ظل حياً، يراقب النبوءة التي أطلقها في الخمسينات، وهي تتحقق أمام مرأى عينيه كاملة: قبل أن يغمض عينيه، ويرحل في هدوء، ليس بعيدا عن سجن مزة العسكري الذي خبر زنازينه الباردة في مطالع الشباب، وهو يفصح عن الروح المتمردة الناقمة التي لازمته حتى الرحيل.
ثمة صورة مكرسة عن محمد الماغوط بأنه رجل متعالٍ على السياسة اليومية، مزدر لها، وبأن مجاله الحيوي هو الإبداع وحده، وربما يعود ذلك إلى جرأته في نقد كل ما يتصل بهذه السياسة، خاصة عندما تكون عربية، لكن هذه الصورة، بشيء من التمحيص، لا تصمد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تجربته الحزبية التي أثرَّت في تشكيل مواقفه ورؤيته للأوضاع، ما انعكس في تجربته الشعرية، وبصورة أخص في نصوصه المسرحية، التي هي بحكم طبيعتها أكثر مباشرة وقرباً من التعاطي مع الشأن السياسي.
انتسب الماغوط في سني شبابه الأولى إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي استقطب في بداياته الكثير من الوجوه التي ستغدو فيما بعد معروفة في مجالي الابداع والثقافة. كان ذلك في عام 1950، ورغم أنه لم يمكث في الحزب أكثر من إثني عشر عاماً، غادره بعدها، وبدا في بعض تصريحاته التالية لذلك كمن يهجو الحزب الذي كان يوماً مناضلاً في صفوفه، لكن بعض هذا الهجاء يمكن أن يأتي في سياق الروح الساخرة المعروفة عنه، ما يجعله، في الكثير من الحالات يسخر من نفسه.
ومن ذلك قوله الساخر رداً على سؤال حول سبب انتمائه الحزبي إلى الحزب إنه لفقره كان خلال صباه في يلجأ إلى مقر الحزب في مسقط راسه: السلمية لأنه كانت تتوفر فيه «صوبيا» – المدفأة التي تقي من برد الشتاء لم تتوفر لغيره من الأحزاب فانتسب إليه بحثاً عن الدفء، لكن من عرفوا الشاعر يتذكرون أن حماسته المفرطة للحزب في أواخر خمسينات القرن الماضي قد ورّطت هذا الحزب في دعاوى قضائية وطلبات تعويضات مالية بسبب حملات الماغوط الشديدة السخرية على سياسيين من خصوم الحزب، كما أن السجلات الأدبية وذاكرة من عرفه في الحزب تذكر أن حماسته للحزب كانت كما قال أحدهم بحاجة «إلى ثلاجة» لا الى مدفأة. وقد هرب الماغوط إلى لبنان بعد مطاردة السوريين القوميين إثر اغتيال العقيد عدنان المالكي في دمشق عام 1954. وفي لبنان خاض أشرس المعارك القلمية مع خصوم الحزب وكتب ما يعتبره بعض النقاد من أفضل نتاجه الشعري وسخريته، إن لم يكن أفضله على الاطلاق.
للماغوط مقالة صحافية ساخرة، يحدد فيها التضاريس الجغرافية للعالم العربي، ويسمي معالمها من جبال وأنهار وسهول ومدن وقرى وأحراش، ثم يعرج على وصف الكائنات التي تعيش في هذا العالم العربي من الجمل إلى الحصان إلى الحمار وسواها من حيوانات، واصفاً كل واحد منها بما يميزه .وفي نهاية مقاله يصل إلى الإنسان العربي فيكتب: «وعاش هنا الإنسان العربي» .
الماغوط المعروف بسخريته اللاذعة المغموسة بالألم العربي، أراد من وضع الأمر في صيغة الماضي القول إن هذا الكائن من الخليقة المدعو المواطن العربي قد انقرض . هذا نوع من الكوميديا السوداء، ولكنها كوميديا مأخوذة من هذا الواقع، مترعة بمآسيه ومتشربة بطعم العلقم الذي ينضح به . إن ما فعلته التحولات العمياء التي شهدتها المجتمعات العربية على مدار عقود قد أدت إلى سحق هذا المواطن وتغييبه وإهدار كرامته، وتفريغ عالمه الروحي وتجويفه .
علينا بعد رؤية هذه التحولات أن نفهم هذا الحال من الخيبة واللامبالاة واليأس والحياد الواضح من قبل هذا المواطن تجاه ما يجري حوله من أحداث جسام . ما الذي يستطيع هذا المواطن العربي أن يفعله وقد فقد هو نفسه الإرادة والإحساس العالي بالكرامة الذي طبع مراحل سابقة من تاريخنا؟
الهزيمة ليست هي تلك التي تتكبدها الجيوش في معارك القتال . الهزيمة الحقيقية، الكبرى، إنما هي الهزيمة الداخلية، هزيمة الإنسان الفرد حين تنخر النفوس واحدة بعد الأخرى وتصيبها بالخراب وفساد المعنويات. جوهر كل ما يجري هو الوصول بهذا المواطن البسيط إلى هذا المآل البائس ليفقد الأمل في أي شيء، وإن تحقق ذلك، فإن الظلام سيطبق علينا من كل الجهات.