كي ندخل في تلافيف دماغ الطاغية، لا بدّ لنا أولاً من تحليل نظرته إلى الزمن. كثيرة هي الدراسات الفلسفية والأدبية التي تناولت الزمن بالتحليل، منذ ديموكريت وهنري برغسون؛ وعديدة هي الحِكَم المرتبطة بالزمن والنصائح التي تدعو إلى عدم إضاعة الوقت وإلى الاستفادة قدر الإمكان من سنوات العمر القصير، في منظور الزمان الفلسفي. ومن الطريف بمكان أن نتابع كيف يبدأ الطفل استعمال الصيغ الزمنية في اللغة، وكيف يوظّف الكتَّاب هذه الصيغ. ومنهم من برع في تحليل مقولة الزمن، كمارسيل بروست، الذي بدأ سباعيته الشهيرة بكلمة “زمن” وأنهاها – بعد 3500 صفحة – بالعبارة التالية: “يدركون [الناس] كلّ بدوره، شأنهم شأن العمالقة الغارقين في السنوات، أن الأزمنة التي عاشوها متباينة جداً، وتخللتها أيام وأيام عبر الزمان” (“الزمن المُستعاد”، ترجمة جمال شحيّد، القاهرة، دار شرقيات، 2005، ص 296).
وفي رواية “الجبل السحري” (1924) لتوماس مان، يظهر الزمان وكأنه البطل الحقيقي في النص. فيبدو في جو المصحة القائمة في دافوس على ارتفاع 2000 م زماناً جبليًا له إيقاع خاص يختلف عن زمن السهول، زماناً ينشطر إلى زمانين: زمن المصحة الزائل وزمن الجبل السحري الدائم المكسو بالثلج. وكأني بتوماس مان يريد أن يقول لنا إن هانس كاستورب الذي أمضى في المصحة سبع سنوات – وهو الذي أتاها لثلاثة أسابيع فقط – شعر أنه يغازل الخلود في ربوع هذه المصحة الشاهقة والمنعزلة. والزمن الذي عاشه فيها دفعه إلى عدم إصلاح ساعة يده وإلى التوقف عن نزع أوراق الروزنامة التي كانت في غرفته، كأنه بذلك تجاوز مفاهيم الزمن البشري وخضع لسحر الزمن في المصحة. ووحده إعلان الحرب العالمية الأولى أيقظه من هذا الزمن السحري، فعاد إلى زمن البشر البائس، زمن الحرب والدم.
ويرى الفلاسفة أن ثمّة ثلاثة أزمنة: الزمن المعيش، المرتبط بالواقع البيولوجي (عمر الإنسان منوط بعمر شرايينه وقلبه وغدده)، والحالة النفسية (كيف نشعر بحركات الزمن). وهنا لا بدّ من العودة إلى كتاب “الطاقة الروحية” لهنري برغسون، الذي مايز فيه الزمنَ الآلي المرتبط بالساعات التي نحملها في أيدينا والمستقر على وضع دائم مكرور تك تاك تك تاك، والزمنَ الإنساني الخاضع لظروف حياته: كيف يُمضي أوقاته، هل يشعر بالملل وبفقدان الصبر، كيف يتفاعل مع الانتظار وعدم الدقة في المواعيد… وهناك الزمن الاجتماعي المرتبط بالبدايات والنهايات والتقاويم (اليولي، الغريغوري، الهجري…) حسبما تعيشها المجتمعات البشرية. هو زمن له إيقاعات متعددة (بطيء في الأرياف، متوسط السرعة في المدن الصغرى، سريع وصاروخي في المدن الكبرى المكتظة). هو زمن دائري متكرر حسب تعاقب الفصول وكرّ السنين. وهنالك الزمن الثالث وهو الزمن التاريخي أو زمن التدوين، زمن الأخباريين والمؤرخين، زمن الحوليات. فعندما حلّ شامبوليون رموز حجر الرشيد الهيروغليفية، انفتحت أمامه عصور وحضارات. وهذا ما حصل بالنسبة للأبجدية المسمارية في رأس شمرا وبرسيبوليس وغيرهما التي كشفت النقاب عن الحضارات البابلية والسومرية والأكادية والعيلامية.
وإذا كان الطغاة في العالم قد سيطروا على الأرض والبشر، إلا أنهم سعوا للسيطرة على التاريخ والزمن. فبدل أن يكون الإنسان سيد التاريخ، شاء الطاغية أن يجيّر التاريخ لحسابه ويضع يده على الزمن ويسرق الذاكرة الجمعية للمجتمعات، ولو توهّماً. فهذا مثلاً سابامراد نيازوف، رئيس جمهورية تركمانستان مدى الحياة، الذي غيّر أسماء أشهر السنة وأيام الأسبوع بأسماء أفراد عائلته، وباسمه في رأس القائمة. فشهر كانون الثاني/ يناير الذي نبدأ به السنة صار شهر “تركمان باشي” [أبو التركمان]، وهو لقب نيازوف. واستبدل شهر نيسان/ إبريل باسم والدته قربان سلطان، وشهر تشرين الأول/ أكتوبر صار شهر “روحاما” [إحياء روحي] وهو الكتاب الذي ألّفه نيازوف وصار أشبه بـ”الكتاب الأحمر” لماوتسي تونغ و”الكتاب الأخضر” لمعمر القذافي. وبالمناسبة أطلق نيازوف اسمه على أكثر من 2000 مؤسسة ومبنى ومشروع في البلاد، وصارت مصانع السجاد في تركمانستان تنسج صورته على أفخم السجاد. وذهب به الأمر إلى أن أطلق اسمه على بعض النجوم.
ويسعى الطاغية إلى الربط بين الزمن والوقت وبين شخصه. رأيت في دمشق ذات مرة عند أحد الساعاتية ساعة تتوسطها صورة موسوليني؛ وهذه الظاهرة دفعت بالعديد من رؤساء الدول والفنانين إلى تطويب ضابط الوقت بأسمائهم ليَظهروا أسياد الزمن. ولكن الطغاة يقولبون أحقاب الزمن كما يطيب لهم. تاريخ استلامهم الحكم هو التاريخ الأهم في الماضي، وبعده تأتي الفترة الذهبية التي يحكمون فيها، ويشيّعون أنها لن تنتهي. ويطلقون أسماءهم على القرون: قرن لويس الرابع عشر (الذي امتد حسب المؤرخين من عام 1662 حتى وفاته عام 1715، ويبدأ القرن الثامن عشر ليس عام 1700 بل عام 1715) سقوط نابوليون بونابرت؛ يذكر المؤرخون عصر أوغسطس قيصر (63 ق م – 14 ب م)، وهو لقب أطلقه عليه الشاعر فيرجيليوس في ملحمته “الأنياذة” التي تشيد بأمجاده. وهناك طغاة اعتقدوا أن تاريخ البلاد التي يحكمونها يبدأ بهم، ويلغون بالتالي قروناً وألفيات عاشتها بلادهم وازدهرت فيها حضارات وحضارات. الماريشال عيدي أمين بابا، الذي استولى على الحكم في أوغندا بانقلاب عسكري وفرض نفسه رئيساً مدى الحياة، كما فعل نابوليون بونابرت، فرض على تماسيح البلاد أن تسمع كلمته. ونيكولاي تشاوتشيسكو (1918 – 1989)، الذي حكم رومانيا بالحديد والنار واعتبر أن الأمة الرومانية مدينة له ولزوجته بالنهضة والتقدّم، مع أنه أنهك مواردها ببناء القصور وبالبذخ الفاحش واعتبر نفسه باني رومانيا الحديثة؛ وهكذا فعل معمر القذافي الذي اعتبر نفسه أبا الأمة الليبية، ومصطفى كمال الذي لُقّب بأتاتورك (أبو الأتراك). هذا من دون أن ننسى ستالين (1879 – 1953)، الذي اشتهر بمجازره [35000 ضابط من الجيش الأحمر، ومليون قتيل من المشتبه بولائهم، وتسعة ملايين ممن اعتبروا مخربين وأعداء للشعب وأنصاراً لتروتسكي، بالإضافة إلى مئات الآلاف الذين نفاهم إلى سيبيريا، وبينهم عدد من الكتّاب والفنانين والنقاد والعلماء: سولجينتسين، باختين…]؛ وهو الذي فرض عبادة الفرد على الروس وزرع تماثيله في كل مكان معتبراً أن الثورة الروسية تحققت على يديه. أما الرئيس الألباني أنور خجا، الذي اقتفى خطى ستالين، فأقام نظاماً مخابراتيًا يشبه نظام الـK.G.B.، وأغلق المساجد والكنائس ومنع صوم رمضان وقتل عدداً كبيراً من رجال الدين، فلم يبق في ألبانيا في نهاية حكمه إلا 30 كاهناً من أصل 3000. وهو الذي أجبر الكتاب والمثقفين والصحافيين على العمل في المصانع والأرض شهراً في السنة. كل هؤلاء الطغاة وغيرهم حاولوا مصادرة الزمن وتوظيفه لصالحهم، ظناً منهم أنهم يطوّعونه ويروّضونه ويتلاعبون به كما يشاؤون، ولكن الزمن تجاوزهم، لأنه مستدام أكثر منهم. لقد حاولوا التعدي عليه واحتكاره، ولكنهم بعد أن صالوا وجالوا، رفسهم وزج بهم في مزبلة التاريخ، كما يقال.
غالباً ما نربط الزمان بالمكان، في الدراسات الأدبية، وهذا ما يسمى بالزمكانية أو الـchronotope، الذي ركز عليه ميخائيل باختين وتزفيتان تودوروف. الطاغية الذي يمتطي ظهر الزمان ويطوّعه لصالحه، يروم فعل ذلك أيضاً بالمكان، فتصبح البلاد كلها ممهورة باسمه ويلتصق بها اسمه فتصير مثل الاسم والشهرة في أسماء العلم. وتزخر الشعارات التي تماهي بين الطاغية والزمكان فتغطي جدران البلاد وأعمدة كهربائها وواجهات محلاتها التجارية، كأن الطاغية بحاجة إلى كل هذه الصور والتماثيل ليثبت أنه سيد الزمان والمكان.
الدول المتقدمة تسخر من حكام العالم الثالث لتركيزهم على هذا الوهم وانفصالهم عن الواقع. فلا يقال مثلاً فرنسا هولاند ولا ألمانيا ميركل ولا إنكلترا إليزابيث… ولا شك أن عصر التنوير والثورات الأوروبية قد لعبت دوراً في إنشاء النظام الديمقراطي الذي ألغى الملَكية المطلقة والحكم التسلطي وأقام دولة القانون ورفع عالياً شرعة حقوق الإنسان وعزّز مقولة المواطنة والعلمانية والدولة المدنية، وأرسى العلاقات الدولية على أساس القوانين الدولية.
في جو تنويري كهذا لا يستطيع الطغاة أن يحكموا كما يطيب لهم، بل يضطرون – إن بقوا على قيد الحياة – إلى التنحي أو تغيير منهجهم بحيث يتماشى حكمهم مع بنود الدستور، فلا يستطيعون من ثمّ أن يطرحوا شعار التأبيد أو الاستحواذ على الزمان والمكان، فيعودون بعد انتهاء ولايتهم مواطنين عاديين يمشون في الشارع من دون حراسة ويركبون وسائل النقل العام كما يفعل الآن رئيس أستراليا أو يركبون درّاجاتهم كما تفعل ملكة هولندا.