*لانا المجالي
“تكتسب أتفه الأشياء حين تستعيدها عين الذكريات تلك الحيوية والرهافة والأهميّة التي تكتسبها الحشرات أثناء النظر إليها عبر زجاجةٍ مكبِّرة؛ لا حدّ للبهاء والتنوّع”
وليم هازلت[1]
( 1)
إذا كان الماضي جَنَّة، فمرور الزمن معصية لا تَنْفَكّ تطردنا منها، أمّا الذاكرة أو مسرَّاتها، فهي ضربة الحظّ التي تتيح لنا، بين فترةٍ وأخرى، أن نتجوَّل في فردوسنا المفقود.
( 2)
المشهَد الافتتاحيّ للفيلم الكوريّ Remember You”/2016 “[2]، يجيب عن السؤال: ماذا سنكون بدون ذاكرة؟ ببساطةٍ وعمق، إذ نشاهد رجلًا يعاني من فقدان الذاكرة يدخل إلى قسم الشرطة للتَّبليغ عن شخصٍ مفقود،وعندما يسأله الشرطيّ عن علاقته به، يردُّ موضحًا: هو أنا؛ أريد الإبلاغ عن فقداني.
أمّا تشاتوبريان Chateaubriand في الفصل الثالث من “مذكرات ما وراء القبر”[3]، فيجيب عن السؤال نفسه، قائلا: سيُختَزَل وجودنا إلى لحظاتٍ متعاقبة من حاضرٍ يتلاشى أبدًا، ويضيف بأسف: أيّ مخلوقات مسكينة نحن؛ فحياتنا من الخواء بحيث أنها ليست أكثر من انعكاس ذاكرتنا.
(3)
نستعيد الماضي عندما تُستَثار الذاكرة اللاإراديّة بالمنبّهات الحِسّيّة وغيرها، أو عبر السعي لخلق العمل الفنيّ بأشكاله المتعدِّدة، كما خلق مارسيل بروست روايته العظيمة “البحث عن الزمن المفقود” أثناء محاولته القبض على الذكريات الهاربة، ورغبته في فهم العلاقة التي تربط الزمن بالوعي.
(4)
نرسل الماضي إلى حتفهِ بطريقةٍ واحدة، هي النسيان، وقد تَعمَد الذاكرة- في حالاتٍ نادرة- إلى محو الماضي بمعزلٍ عن إرادة صاحبها، كي تحميه من الألم الناتج عن عمليّة التذكّر.
ففي الفيلم الكوريّ Remember You”/2016 “، مثلا،يفقد بطل الفيلم سيوك وون (جونغ وو سونغ)، عشرةَ أعوام من ذاكرته بعد تعرضه لحادث سير، لأنّه كان يخشى مواجهة حقيقة مقتل ابنه في الحادث.
(5)
أثارَت الذاكرة، أو- كما عرّفها ابن سينا- ” القوَّة التي تحفظ ما تدركه القوّة الوهميّة من المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة [4]“، الجدل بين الفلاسفة منذ أفلاطون[5] الذي تكلَّمَ عن التصوّر الحاضر لشيءٍ غائب، وأرسطو[6] صاحب مقولة “الذاكرة هي الزمان”، مرورًا بعدد كبير من المفكِّرين (لوك، هوبز،ديفيد هيوم، برتراند رسل، توماس ريد، جلبرت رايل، فتجنشيتن،.. الخ) حتّى وقتنا الحاضر؛ فهناك المعضلة التي يطرحها التشابك بين الذاكرة والخيال، ومقدار صدقيتها، والخلاف حول طبيعة الذكريات المحفوظة؛ إذ اعتبرها بعض الفلاسفة سلسلة من الصور، فيما اعتبرها آخرون نوعًا فريدًا من المعرفة،وكذلك الأمر حول طرق استعادتها، وعلاقتها بموضوع الهويّة الشخصيّة، وغيرها من القضايا التي تؤكِّد- رغم ما وصلت إليه البشريّة علميًّا وفكريًّا- على محدوديّة معرفتنا.
في كل الأحوال، لا أستطيع تجاهل إغراء الإشارة إلى الرأي الذي تبنّاه هنري برغسون[7] حول طبيعة الذكريات الروحانيّة، ووجودها في حالة اللاوعي بشكلٍ مجرّد من المادَّة، أو
كما يقول: “حياتنا الماضية هناك، في موضعٍ غير ماديّ، ولكنها محفوظة بكامل تفاصيلها”، نافيًا وجودها في عضوٍ محدّد من الجسد، إذ تقتصر وظيفة هذا الأخير على تأمين وسيلة لإظهارها مرّة أخرى في حالة الوعي.
(6)
في رواية “لا تزال أليس”[8] للكاتبة ليزا جينوفا، تكتشف أستاذة علم النّفس في جامعة هارفرد وهي أمّ لثلاثة أولاد بالغين؛ أليس هولاند،وقبل أن تتجاوز الخمسين من عمرها، إصابتها بالبوادر المبكّرة من مرض الألزهايمر، ما يحيل حياتها وعائلتها إلى مأساةٍ حقيقيّة، بعد أن تفقد عملها ومواهبها وطموحاتها وأحلامها.
خلال أحداث الرّواية التي تصدّرت قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا، وحوّلت إلى فيلمٍ دراميّ ناجح تحت عنوان ” “Still Alice 2014[9]، نالت عليه، القديرة جوليان مور، عدّة جوائز، آخرها الأوسكار لأفضل ممثلة في العام 2015، نشهد مراحل تدهور حالة “أليس” الصحيّة، نتيجة تسارع تطوّر المرض من تراجعٍ طفيف للقدرة على معرفة أسماء الأشياء والكلمات إلى مرحلةٍ تذوي فيه ذاكرتها بشكلٍ كليّ، فنراها تصارع لتتمسَّك بحياتها، قبل أن تدوِّن لنفسها تعليمات تساعدها على الانتحار تحسُّبًا للمستقبل، بينما تزداد ذاكرتها تشوّشًا فلا ترى في ابنتيها إلا الممثِّلة ليديا والأمّ آنا، أمّا زوجها فهو الأب أو الرجل؛ بحسب وصفها، رغم كفاحها المستميت ضدّ شراسة المرض وعدم إنسانيته.
ثمَّة شيء وحيد لم يتمكَّن الألزهايمر من الاستيلاء عليه؛ فقد احتفظت أليس هولاند بإيمانها الراسخ، أنّها تستحقّ كلّ ما حقّقته في حياتها من إنجازات وحبّ؛ لأن ذاك الجزء من ذاكرتها المسؤول عن هويّتها الفريدة يفوق نطاق العصبونات والبروتينات والجينات الدفاعيَّة والحمض النووي في جسدها، وأنّها، كما أكّدت في خطابها الأخير: ” … وفي يومٍ قريب سأنسى أنّني وقفت هنا أمامكم، ولكن، لمجرد أنّني سأنسى هذا يومًا ما، فهذا لا يعني أنّني لم أعِش هذا اليوم بكل ثانية فيه. سأنسى غدًا، ولكن هذا لا يعني أنَّ هذا اليوم لم يشكِّل أهميَّة في حياتي”.
(7)