كنت قد ذكرتُ في تقديمي لكتابي المترجم ( تطور الرواية الحديثة ) الصادر عام 2016 عن دار المدى عدداً من الخصائص الفريدة التي تجعل من الرواية فناً إبداعياً لايكاد يبلغه أي فن إبداعي آخر ربما باستثناء الفن السينمائي ؛ ولكن تبقى الغلبة تميل لصالح الرواية لكون السينما فناً متطلباً يستلزم قاعدة مالية ولوجستية مكلفة ، ثم دعمتُ تلك الخصائص لاحقاً بأربع مقالات بعنوان ( ظلال السرد المهمشة : مقاربات في الفن الروائي ) تمثل إستكمالاً للتقديم السابق وإضاءة لخصائص مميزة مسكوت عنها في الفن الروائي ، وأحسب أن هذه الخصائص الفريدة هي ماجعل الرواية – والمعاصرة منها بتحديد أدق – قادرة على قول كلّ شيء وأي شيء في حياتنا المعاصرة .
إنه لأمر يسرّني أن أستكمل هذه المقاربات في أهمية الفن الروائي وأسبقيته على الألوان الإبداعية الأخرى بأن أقدّم ترجمة للفصل الأول المعنون ( قول كلّ شيء ) من كتاب ( الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جداً ) لمؤلفه البروفسور ( روبرت إيغلستون ، وقد صدر الكتاب عن جامعة أكسفورد المرموقة عام 2013 .
قول كلّ شيء – تتمّة
هذه الحرية غير المقيّدة للرواية المعاصرة مقرونةً بالعدد الهائل من الروايات التي تُنشرُ سنوياً ( كثيرة إلى حدّ أنّ مايُنشَرُ في السنة الواحدة يستلزم أكثر من حياة المرء ليقرأها كلّها ) تعني أيضاً عدم إمكانية وجود خبراء حقيقيين ( بالمعنى التقليدي للخبرة المتداولة ) في ميدان الرواية المعاصرة ؛ إذ من ذا الذي يمكنه أن يكون خبيراً في هذا السيل الزئبقي من المنشورات التي يمكن أن تبلغ أنّى شاءت ؟ ، ولكنّ التفكير بشأن الطريقة التي تكون بها الرواية المعاصرة أداة للأفكار والتفكير معاً يمكن أن يوفّر طرقاً لتجنّب المثالب الشائعة ( في تقييم الأعمال الروائية ) : مثلاً ، إن الفكرة التي تبتغيها الرواية ليست الفكرة ذاتها التي يعتقد بها الكاتب ؛ إذ يقترح بعض مراجعي الأعمال الروائية والصحفيين ، وربما بطريقة غير مقصودة ، أننا لانستطيع تذوّق العمل الروائي إلا في سياق حياة الكاتب ذاته ( وقد يأنس بعض الكتّاب لهذه المغالطة ويتماهون معها ) ، وفي العادة فإن هذا الأمر يعني أننا ( أي القرّاء ) سنحصر إنتباهنا للعلاقة المتوقّعة بين حكايتين : حكاية الرواية ( أو الخلاصة السيئة لها في الصحف ) والحكاية الخاصة بحياة الكاتب ذاته ، والأمر ذاته يحصل ( في حالة الرواية المعاصرة حصراً ) عندما نستمع للمؤلف ( أو المؤلفة ) وهو يحكي ( أو تحكي ) عمّا تعنيه ثيمة كتابه ( أو كتابها ) . إنّ هذين المثلين يكشفان بكل وضوح أنّنا ماعُدنا نولع بالرواية الحقيقية ذاتها وهي مصدر شغفنا في المقام الأول . إن واحداً من الأسباب القابلة لتكون عذراً مسوّغاً لهذه الظاهرة هو أن من الصعوبة البالغة معرفة المقصود بما ينبغي أن نعلمه بشأن الرواية في المقام الأول وقبل كل شيء آخر : هل ينبغي أن نعلم الحِبكة ؟ هل ينبغي أن نعلم ماالذي تبتغيه الرواية ونحن نعرف أنها تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين ؟ هل ينبغي معرفة إلامَ ستقودنا الرواية : هل ستؤنِسُنا أم ستُشجينا ؟ ، وفي مواجهة هذه اللايقينيات فإن لجوء القارئ إلى حكاية حياة الكاتب ذاته إلى جانب آرائه المتداولة تمنح القارئ إحساساً بالأمان والطمأنينة وأنه يعرف ( في أقل تقدير ) بعض الحقائق الواقعية التي يمكنه الإرتكان إليها لتقييم طبيعة الرواية التي يروم قراءتها . يبدو لي هذا الأمر خاطئاً ومُضللاً للغاية : إن معرفة قدرة كتابٍ ما على جعلك تبكي أو تُصابُ بالضجر يبدو لي نوعاً من المعرفة المرتبطة بالخبرة الذاتية ، وإن معرفة الكيفية التي تسعى فيها الرواية أن تكون متناغمة مع صورة أكبر وأن تجد لها مكاناً في هيكل إنساني أكبر يبدو لي شكلاً أفضل من المعرفة وإن كان مؤقتاً أو مشروطاً باعتبارات الزمان والمكان ، وإن الإنتباه لما تقوله الرواية ذاتها ( وليس النتف المتداولة عنها ) يبدو لي الطريقة الأفضل والأكثر مثاليةً لمعرفة الرواية المعاصرة ، ولكن تبقى كل أشكال المعرفة أعلاه غير جديرة بوصف المعرفة ( الخبيرة ) تبعاً للمفهوم السياقيّ المتداول للخبرة .
إن الحرية المقترنة بالرواية تجعل من أمر السؤال ( كيف نكتشف من نحن؟ ) معضلة متطلّبة ومرهقة ؛ إذ أن مفردة ( نحن ) معقدة للغاية ، وليس أقل مظاهر ذلك التعقيد أن تلك المفردة تفيد معنى الإحتواء والإستبعاد معاً في الوقت ذاته . إن عبارة ( من نحن ؟ ) هي فكرة مركزية لفهم الرواية المعاصرة إذا مافهمنا أن كلاً منّا يشعر بذاته جزءً من جماعة بشرية ، وهنا يُثارُ السؤال : ماهي تلك ال ( نحنُ ) التي يُرادُ جعلها محسوسة من خلال التفكير الروائي ؟ جرت العادة التقليدية أن يُنظر إلى الرواية بأنها مكان يتمّ فيه الكشف عن التقاليد القومية وبما يعزّز روابط الجماعة البشرية التي تمثلها ال ( نحن ) ، ولكن الروايات الحديثة غدت معولمة على نحوً مضطرد ؛ فهي تعبر الحدود الفاصلة بين التقاليد والثقافات وتمازج بينها ، كما أن الروايات المعاصرة تسافر من غير حواجز ويتمّ ترجمتها من غير إبطاء ، وعلى هذا الأساس فإن فكرة التقاليد القومية المضمّنة في الرواية الإنكليزية أو الأمريكية أو الكينية تجاوزتها العولمة وتخطّتها بأشواط بعيدة ، وإنّ ممّا يبعث على التفاؤل أن الرواية ( مابعد القومية ) يمكنها أن تجعل القرّاء يتعلّمون الكثير بشأن إختلافات وآمال المجتمعات الأخرى ومخاوفها وعلى نحو يجعل من مفردة ( نحن ) تتضخّم لتبلغ آفاقاً لانهائية بحيث يغدو كل فرد في الجماعة البشرية محسوساً ومعروفاً من قبل نظرائه البشر ، ولكن في الوقت ذاته يوجد مايبعث على شيء من التشاؤم إذا ماعرفنا أنّ بعض الروايات يكون نصيبها الإنكار وسوء الفهم ، أو قد يتمّ تسويقها ببساطة على أنها روايات شاذة غريبة ولاتتفق مع المعايير السائدة ؛ وفي مواجهة هذا الإنفتاح العالمي قد تصبح بعض الجماعات البشرية أكثر تحفظاً وعدوانية وأقل تكيفاً مع ركب المسيرة المعولمة ، وفي الحالتين التفاؤلية والتشاؤمية فإن الرواية – كما النوع البشري – قد غدت معولمة وباتت أشكالها متلائمة كل التلاؤم مع المفردات التي تؤكّد التغيّر العولميّ العميق في عالمنا المعاصر .
عَرَضٌ آخر من أعراض التخوم اللامحدودة و” العولمة ” المقترنة بالرواية المعاصرة يختصُّ بعدم توفّر إتفاق حقيقي ومُجمَعٍ عليه بشأن التأريخ الذي يجوز معه وصم الرواية بسمة المُعاصَرة . نحن نعلم أن اللحظة المعاصرة تنتهي في الزمن الحاضر ، ولكن متى بدأت ؟ من المعروف تقليدياً أن الفترات الأدبية تستمدّ تواريخها المعلنة من نقاط التحوّل التأريخية المفصلية : في أوربا الغربية ، على سبيل المثال ، قد يجوز بدء تأريخ الحقبة المعاصرة مع عام 1945 ( إشارة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية ، المترجمة ) ، ولكن مع هذا ثمة إختلافات حتى بين أجزاء القارة الأوربية ذاتها ؛ في إسبانيا يمكن القول أن بدء الحقبة المعاصرة جاء مع موت فرانكو عام 1975 ، وفي ألمانيا حلّت حقبة المعاصرة مع نهاية الحرب الباردة عام 1989 أو مع إعادة توحيد الألمانيتين عام 1990 ، أما خارج أوربا فإن الأمور ليست بأقلّ غرابة عمّا جرى في أوربا : قد تعني المعاصرة بالنسبة للروس نهاية جمهوريات الإتحاد السوفييتي عام 1991 ، أو قد تعني بالنسبة للهنود الإستقلال عن التاج البريطاني عام 1947 . إن المجتمعات المختلفة تمتلك حساً مختلفاً بشأن اللحظة المُعاشة ذاتها وبشأن بداية اللحظة الحاضرة ، وثمة أمر آخر في غاية الأهمية كذلك : ساهمت التغيرات التأريخية والتقنية المتسارعة التي نحيا وسط لجّتها في جعل الماضي يتراجع بسرعة أكبر من ذي قبل ، كما ساهمت أيضاً في إضعاف الجماعات التأريخية التي دأبت على تعريف هويتها بالإستناد إلى نوع خاص من التواريخ المرتبطة بها وبحيث لايكون للتواريخ المفصلية – ربما – أي تأثير عليها . في كل الأحوال يبدو أمراً شاذاً للغاية توصيف فترة أدبية بواسطة حادثة غير أدبية بصرف النظر عن الزخم والتأثير المترافقين مع تلك الحادثة ، ومن الواضح تماماً أن الحوادث التأريخية تستلزم بعض الوقت لكي تخترق تخوم مملكة الأدب ولكي يمكن للأدب أن يجعل تلك الحوادث التأريخية محسوسة للقارئ ( من خلال النصوص الأدبية ) ، وعلى العكس ممّا ذكرناه أعلاه قد تؤشّرُ لحظةٌ معاصرة نهاية عصر أدبي سابق : المعاصرة التي جاءت في أعقاب الحداثة ، أو مابعد الحداثة على سبيل المثال. لكن هنا يمكن أن نتساءل ثانية : هل كان ثمة حداثة في كلّ بقاع العالم لكي تحلّ المعاصرة في اعقابها ؟ ومن أي العناصر تشكّلت الحداثة في الأمكنة المختلفة ؟ يبتغي هذا الكتاب ببساطة تفكيك العقدة المستعصية في مثل هذا النوع من المجادلات من خلال التأكيد بأن الحقبة المعاصرة تعني السنوات العشر الأخيرة أو شيئاً قريباً من هذا الحدّ ، وهذا التحديد لايمنع الرواية المعاصرة من التعامل مع الماضي ، أو الحاضر ، أو المستقبل ( وعلى النحو الذي سأكشف عنه في ثنايا الكتاب لاحقاً ) ، ولكنّ التحديد الذي أعنيه هو أن هذا الكتاب سيكون قد إستنفد أغراضه وبات خارج نطاق التداول خلال عشر سنوات من يومنا هذا ، ولكني لاأرى في الإندثار مآلاً سيئاً متى مااختصّ الأمر بكتاب يتناول الرواية المعاصرة .