أليس مونرو: لن أكتب رواية حقيقية أبدا «4»

حوار جيني ماكولوتش ـ مونا سيمسن /ترجمة: أحمد شافعي

* وما رأيك في الواقعية السحرية؟
أحببت مائة عام من العزلة. أحببتها، لكن لا يمكن تقليدها. قد يبدو تقليدها يسيرا لكنه ليس كذلك. فيها لحظات رائعة، كلحظة يحمل النمل الرضيع، ولحظة ترتفع العذراء في السماء، ولحظة يموت البطريرك وتمطر السماء زهورا. ولكن في مثل صعوبة إيقافها، وفي مثل روعتها أيضا، رواية مثل «So Long, See You Tomorrow» لوليم ماكسول، حيث الكلب هو البطل. يتعامل الكاتب مع موضوع شديد التفاهة فيجعله فذًّا.
* يبدو أن في بعض قصصك الأحدث تغييرا في الاتجاه.
منذ قرابة خمس سنوات، حينما كنت لا أزال أعمل على قصص مجموعة «صديق شبابي»، أردت أن أكتب قصة فيها واقع بديل. وكنت أقاوم ذلك تخوفا من أن أنتهي إلى شيء من نوعية [مسلسل وفيلم]Twilight Zone. أي أن أنتهي بكتابة تافهة، كما تعرفان. لكنني كتبت Carried Away، وظللت ألف وأدور حولها إلى أن كتبت نهايتها الغريبة. ربما يكون هذا أمرا له علاقة بالعمر. تغير الإدراك لما هو ممكن، ولما جرى، وليس فقط لما يمكن أن يجري، بل لما جرى نفسه. لدي في حياتي أنا كل هذه الواقعات المنفصلة، وأرى أمثالها في حياة الناس. تلك كانت إحدى المشكلات ـ لماذا لم أستطع كتابة الروايات، لأنني لم أر قط الأشياء تترابط فيحسن ترابطها.

• ماذا عن ثقتك؟ هل تغيرت بمرور السنين؟
في الكتابة طالما كان لدي الكثير من الثقة، ممزوجة برعب من أن تكون هذه الثقة في غير موضعها تماما. أعتقد بطريقة ما أن ثقتي نابعة من غبائي. لأنني عشت بعيدة عن أي نوع من المتن الرئيسي، لم أدرك أن النساء لا يصبحن كاتبات ببساطة الأمر لدى الرجال، ولا أبناء الطبقات الدنيا. فلو أنك تعرفين أنك تكتبين بشكل معقول في بلدة لا تكادين تصادفين فيها من يقرأ، فبديهي أن تعتبري أن ما لديك هبة نادرة.

* طالما برعت في اجتناب الوسط الأدبي. هل كان هذا عمديا أم فرضته الظروف؟
مؤكد أن الظروف فرضته لوقت طويل، ثم أصبح خيارا. أعتقد أنني شخص ودود لكن يتصادف أنني غير اجتماعية. وبسبب كوني امرأة وربة بيت وأما لأطفال، فإنني أريد الحفاظ على وقتي. وهو ما يتحول عند ترجمته إلى فزع. وفقدان للثقة. كان يمكن أن أسمع أشياء كثيرة فلا أفهمها.

* كنت سعيدة إذن ببعدك عن المتن؟
لعل هذا ما أحاول أن أقوله. ربما ما كنت لأنجو فعلا بطريقة أخرى. ربما كنت لأفقد ثقتي في صحبة من يفهمون ما يفعلونه أكثر مني. ويكثرون من الكلام عنه. ويكونون واثقين بطريقة أعترف أنها أصلب أساسا من ثقتي أنا. ولكن في النهاية، يصعب الحديث عن الكتّاب، فمن هذا الذي يمتلك الثقة؟

• هل كان المجتمع الذي نشأت فيه راضيا عن مسيرتك المهنية؟
كان معروفا أن قصصا تنشر هنا وهناك، ولكن قصصي لم تكن آسرة. لم تكن تلقى أصداء طيبة في بلدتي. الجنس، واللغة المبتذلة، والغموض … نشرت الصحيفة المحلية افتتاحية عني: رؤية استبطانية كريهة للحياة … وشخصية ضالة يجري إسقاطها على … كان أبي قد مات بالفعل حينما فعلوا ذلك. ما كانوا ليفعلوا ذلك وهي حي، فقد كان الجميع يحبونه. كان محبوبا للغاية ومحترما من الجميع، لدرجة تخرس أي صوت. لكن بعد أن مات، اختلف الحال.

• لكنه كان معجبا بعملك؟
لكنه كان معجبا بعملي، نعم، وكان فخورا به جدا. قرأ كثيرا، لكنه كان دائما يستشعر بعض الحرج مما يقرأ. ثم كتب كتابا في آخر حياته ونشر بعد وفاته. كان رواية عن العائلات الأولى في الغرب الأوسط، تجري أحداثها في الفترة السابقة على حياته، وتنتهي وهو طفل. كانت لديه مواهب حقيقية ككاتب.

* هل تتذكرين مقطعا منها؟
في أحد الفصول يصف كيف كانت تبدو المدرسة لصبي عاش قبيل مجيء أبي إلى الحياة: «كان على الجدران الأخرى بعض الخرائط الباهتة. عليها أماكن مثيرة مثل منغوليا، وسكان هنا وهناك يرتدون معاطف من جلود الماشية ويمتطون جيادا صغيرة. وسط أفريقيا كان خاويا إلا من علامات تماسيح فاغرة أفواهها وسباع تقبض بمخالبها الضخمة على بشر سمر. وفي المنتصف بالضبط كان مستر ستانلي يصافح مستر ليفنجستن، وكلاهما يرتدي قبعة قديمة».

* هل تعرَّفتِ على شيء من حياتك في الرواية؟
ليس من حياتي، لكنني تعرفت على قدر كبير من أسلوبي. زاوية الرؤية، وهذا لا يدهشني لأنني كنت أعلم أننا مشتركان في هذا.
* هل قرأت لك والدتك قبل وفاتها؟
ما كانت أمي لتحب كتاباتي. لا أعتقد، الجنس والكلمات النابية. لو كانت بصحة جيدة، لكان عليّ أن أخوض قتالا هائلا وأن أنقطع عن الأسرة لأنشر أي شيء.
•وفي رأيك هل كنت لتفعلي هذا؟
أعتقد هذا، نعم، لأنني ـ كما سبق أن قلت ـ كنت جامدة القلب آنذاك. الحنان الذي أستشعره الآن تجاه أمي، لم أشعر به لوقت طويل. لا أعرف ما الذي قد أشعر به لو كتبت إحدى بناتي عني. هن الآن تقريبا في السن الذي ينبغي أن يأتين فيه برواية أولى كلها عن الطفولة. لا بد أنها تجربة رهيبة، أن أصبح شخصية في رواية بناتي. يكتب الناس بلا مبالاة في العروض النقدية فيجترحون أمورا من قبيل أن أبي كان صاحب مزرعة ثعالب وضيعا وأشياء من هذا القبيل، بما يدل على الفقر. حتى أن كاتبة نسوية فسَّرت شخصية «أبي» في «حيوات البنات والنساء» باعتباره تمثيلا سيريا مباشرا لأبي فعلا. جعلتني ذلك الشخص الخارج من هذه الخلفية المزرية لأن أبي أنا كان «أبا عاجزا». كانت أكاديمية في جامعة كندية، وغضبت غضبت شديدا، وبحثت عن طريقة لمقاضاتها. كنت في غضب هائل. ولم أدر ماذا أفعل لأنني فكرت أن الأمر لا يعنيني، فقد حققت أنا كل ذلك النجاح، أما أبي فكل ما حققه هو أنه أبي. هو الآن ميت، فهل سيبقى معروفا بوصفه أبا عاجزا لأن هذا ما فعلته أنا به؟ ثم أدركت أنها تمثل جيلا أصغر ممن نشأوا في كوكب اقتصادي مختلف تمام الاختلاف. فهم يعيشون في دولة رفاه إلى حد ما ـ فيها رعاية صحية. لا يعرفون الدمار الذي يمكن أن يلحقه مرض بأسرة. لم يمروا بمآزق مالية من أي نوع. ينظرون إلى أسرة فقيرة فيتصورن أن فقرها كان اختيارها الشخصي. وعدم رغبة المرء في تحسين وضعه عجز، أو غباء، أو ما شابه. لقد نشأت في بيت بلا حمام داخلي، وهذا بالنسبة لهذا الجيل أمر مرعب، وقذر تماما. والحقيقة أنه لم يكن قذرا، بل كان فاتنا.

• لم نطرح عليك أسئلة تتعلق بيومك في الكتابة. كم يوما في الأسبوع تقضينها في الكتابة الفعلية؟
أكتب صباح كل يوم، لسبعة أيام في الأسبوع. أكتب بداية من الثامنة وأنتهي قرابة الحادية عشرة. ثم أفعل أشياء أخرى في بقية اليوم، ما لم أكن منهمكة في العمل على مسودة نهائية أو شيء من هذا القبيل فأستمر في العمل طول النهار مع استراحات قصيرة.

• وهل أنت صارمة في هذا الجدول، حتى لو أن هناك زفافا أو أي حدث مماثل؟
أنا ملتزمة التزاما قهريا بعدد معين من الصفحات. فإذا كنت أعلم أنني ذاهبة إلى مكان ما في يوم ما، فإنني أحاول أن أنتهي من هذه الصفحات الإضافية مسبقا. هذه مسألة قهرية، ورهيبة. لا أستطيع أن أتأخر كثيرا، وكأن هناك شيئا أخشى أن أفقده بطريقة ما. هذه مسألة متعلقة بالشيخوخة. فالناس تلتزم التزامات قهرية تجاه أشياء مثل هذا. أنا أيضا ملتزمة التزاما قهريا بالمسافة التي أمشيها يوميا.
•وما المسافة التي تمشينها كل يوم؟
ثلاثة أميال في اليوم، فلو علمت أن يوما ما سوف يضيع بلا مشي، يكون عليَّ أن أعوِّض. وكنت أرى أبي يمرُّ بمثل هذا. لعلك تحمين نفسك بتفكيرك أنه ما دامت لديك كل هذه الطقوس وهذا الروتين فلن ينال منك أي شيء

• بعدما تقضين خمسة أشهر أو نحو ذلك في كتابة قصة، هل تأخذين استراحة؟
أبدأ مباشرة في القصة التالية. لم أكن أفعل ذلك حين كان لديّ البنات والمسؤوليات، أما في هذه الأيام فلديّ ذعر من فكرة التوقف، وكأنني لو توقفت فقد أتوقف إلى الأبد. عندي ركام من الأفكار. لكن ليست الأفكار هي ما أحتاج إليه، وليس التكنيك أو المهارة. هناك من الإثارة والإيمان ما لا يمكنني العمل بغيره. مررت بوقت لم أكن أفقد فيه هذا قط، كان لا ينفد. الآن يحدث لي تحولٌ في بعض الأحيان، حينما أشعر أنني سوف أفقد هذا الشيء، بدون أن أقدر على أن أصف بدقة ماذا يكون هذا الشيء. أعتقد أنه شيء يتعلق بالحياة بشكل كامل في القصة. ليست له علاقة كبيرة حتى بما إذا كانت القصة ستنجح أم ستفشل. ما يحدث في الشيخوخة قد لا يعدو تبدد الاهتمام بطريقة أو بأخرى لم يكن لك أن تستشرفيها مسبقا، لأن هذا ما يحدث لمن كان لديهم اهتمام بالحياة والتزام بها. هو أمر يتعلق بالاستمرار في الحياة حتى الوجبة التالية. حينما تسافرين ترين الكثير من هذا في وجوه مرتادي المطاعم ممن بلغوا منتصف العمر، وممن هم في مثل سني، أي في نهاية منتصف العمر وعلى أعتاب الشيخوخة. ترين هذا، أو تشعرين به كالحلزون، هذا الضحك من كل ما ترينه. إحساس أشبه بأن القدرة على الاستجابة للأشياء قد انطفأت بطريقة أو بأخرى. أشعر الآن أن هذا محتمل. أشعر أنه أشبه باحتمال الإصابة بآلام المفاصل، لذلك تلجئين إلى الرياضة تجنبا له. أنا الآن أكثر وعيا باحتمال أن يضيع كل شيء، باحتمال أن يضيع منك كل ما كان يملأ حياتك من قبل. لعل الاستمرار، لعل مواصلة الحركات، هو ما يتحتم عليك القيام به للحيلولة دون ذلك. هناك أجزاء من القصة تفشل فيها القصة. هذا ما أتكلم عنه. تفشل القصة لكن إيمانك بأهمية كتابة القصة لا يفشل. ولعل هذا هو الخطر. لعل هذا هو الوحش الرابض في خزانة الشيخوخة، فقدان الشعور بأن الأشياء جديرة بعملها.

• ومع ذلك أتعجب، لأنه يبدو أن الفنانين يعملون حتى النهاية.
أعتقد أن من الممكن أن تفعلي هذا. ربما عليك أن تكوني أكثر حذرا. وهو شيء ما كنت لأقدر على التفكير بفقدانه قبل عشرين عاما ـ الإيمان، الرغبة. أعتقد أن الأمر أشبه بأن تتوقفي عن الوقوع في الحب. ولكنك يمكن أن تتوافقي مع ذلك لأن الحب في الحقيقة ليس ضروريا كهذا الشيء. وأعتقد أن هذا ما يجعلني مستمرة في ممارسته. نعم، لا أتوقف عنه ولو يوما واحدا. هو كالمشي كل يوم. جسمي بات يفقد التناغم الآن في أسبوع واجد إذا توقفت عن السير. يجب أن يكون الحذر موجودا طول الوقت. بالطبع ليس مهما أن تتوقفي عن الكتابة. ليس التوقف عن الكتابة ما أخشاه. بل فقدان الإثارة، أو فقدان ذلك الشيء الذي يدفعك إلى الكتابة مهما يكن. وهذا ما يحيرني: ما الذي يفعله أغلب الناس بمجرد أن تنتفي ضرورة العمل طول الوقت؟ حتى المتقاعدون الذين يدرسون أو تكون لهم هوايات يبحثون عن شيء يملأون به الفراغ، وأنا ينتابني الفزع أن أكون كذلك وتكون لي مثل هذه الحياة. الشيء الوحيد الذي تهيأ لي أن أملأ به حياتي هو الكتابة، فلم أتعلم كيف أعيش حياة فيها الكثير من التنوع. الحياة الوحيدة التي يمكن أن أتخيلها هي الحياة البحثية، ربما لأني أضفي عليها طابعا مثاليا

• هما أيضا حياتان مختلفتان، حياة الهدف الفردي، في مقابل الأهداف المتسلسلة
تذهبين فتلعبين الجولف وتستمتعين بذلك، ثم تهتمين بحديقتك، ثم يكون لديك مدعوون على العشاء. ولكنني أحيانا أتساءل ماذا لو توقفت الكتابة؟ ماذا لو نضبت؟ حسن، في هذه الحالة سأبدأ في تعلم شيء ما. لا يمكن الانتقال من الأدب إلى الكتابة غير الخيالية، لا أظن. الكتابة غير الخيالية شاقة للغاية في ذاتها بحيث أن تعلمها هو تعلم شيء جديد تماما، ولكنني ربما أجرب. لقد بذلت بضع محاولات للتخطيط لكتاب، ذلك الكتاب الذي يكتبه الجميع عن العائلة. ولكنني لم أتوصل إلى أي إطار له، أو أي مركز.

• ماذا عن مقالة «العمل من أجل العيش» المنشورة في ذي جراند ستريت ريدر؟ هذه تبدو سيرية.
نعم، أود أو أنشر كتاب مقالات وأدرجها فيه.

• حسن، وليم ماكسول كتب عن عائلته في «أسلاف».
نعم، وأحب هذا الكتاب. وسألته عنه. كانت لديه مادة وفيرة يعتمد عليها. وفعل ما ينبغي القيام به، ربط تاريخ العائلة بشيء أكبر كان يجري في ذلك الوقت، وفي حالته، كان ذلك الشيء هو الصحوة الدينية الكبرى في مطلع القرن التاسع عشر، ولم أكن أعرف عنها أي شيء. لم أكن أعرف أن أمريكا كانت عمليا بلدا ملحدا، وأن الناس في شتى أرجاء البلد بدأوا يصابون بنوبات. كان ذلك رائعا. لو أن لديك شيئا مثل هذا، فإن لديك الكتاب. سوف يستغرق بعض الوقت. لقد ظللت أفكر أنني سوف أفعل شيئا كهذا، ثم تخطر لي فكرة قصة أخرى، ودائما تبدو هذه القصة الأخرى أهم بلا حدود من العمل الآخر، برغم أنها لا تعدو قصة. قرأت ذلك الحوار مع وليم تريفور في ذي نيويوركر حيث قال، وتأتي قصة بسيطة أخرى فتحل المشكلة ويتبين كيف ينبغي أن تكون الحياة.
انتهى
________

نشر هذا الحوار في عدد 131 من باريس رفيو، صيف 1994، وهو الحوار رقم 137 في سلسلة «فن القص»

المصدر: جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *