نذكر دائما أن التقاطعات والخلاف في الدين والسياسة والتاريخ وتجدّدها كلّ مرة عالميا أو اقليميا أو محليا يأتي من مصدر صراع أوحد هو المعرفة، فالصراع على المعرفة هو صراع على القوة..وبالتالي التحكم فيها، وهذه هي المعركة الحضارية الكونيه الكبرى التي تدير كل المعارك الأخرى الصغرى وتشهد على الدوام أكبر عمليات تضليل عرفتها البشرية قديما وحديثا في مختلف العلوم والمعارف بما يضمن التحكم في كلّ شيء، ويمكن ملاحظة أن أمما في عالمنا المعاصر لم تحرك قوة مادية بل فقط امتلكت شكلا من أشكال (المعرفة)، ومجرد الامتلاك هذا مكنها من بعض الاستحقاقات !!
عندما أصدر الشيخ النيل عبد القادر أبوقرون كتابه القيّم ( نبيّ من بلاد السودان ) في العام 2011 وكأني به قد استبصر مقبل الأحداث وهو ما يشغل الساحه الآن محليا واقليميا ودوليا، والذي ذكر فيه معلومات تاريخية (جديدة) عن تاريخ السودان القديم، وكان من ضمن ما سطر معلومة تمثل حدثاً في غاية الأهمية وهي هيمنة كوش على مصر والسودان فيما يعرف بعصر الانتقال الثاني بمصر 1786ق.م.-1567ق.م.- الاسرات13-17 والتي لم يسبق لأي باحث في التاريخ القديم لوادي النيل أن ذكر أو توصل لمثل هذه المعلومة فقد ساد الاعتقاد بأنّ الهيمنة الكوشية لبلاد مصر كانت فقط في القرن الثامن ق.م متمثلاً في الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر لأكثر من قرن تقريبا، أما قبل ذلك وفيما يعرف بعصر الانتقال الثاني وهي فترة هيمنة الهكسوس على منطقة الدلتا بمصر فيأتي فيها ذكر كوش بمثابة المهدد لأمن جنوب مصر حيث لم يتعد الحدود الجنوبية لأسوان، وهكذا يكون ما ذكره الشيخ النيل ابوقرون في كتابه المشار إليه معلومة جديدة، وهي هيمنة كوش على مصر خلال هذه الفترة التاريخية. وقد بدأت الإرهاصات التي تؤكد ما ذهب إليه الشيخ ابوقرون من المختصين في الظهور من علماء آخرين لهم وزن ودرجة عاليه من الثقه أمثال عالم الآثار البريطاني فيفيان ديفيذ المتخصص في علم المصريات الذي نشر مقالا علميا في مجلة Sudan & Nubia .
وحفريات الشيخ النيل ابوقرون في منتجها (نبيّ من بلاد السودان) تجد فيها الاستدلال القرآني والقراءة الزمانية والمكانية في بلاد السودان الجغرافية الحالية أوفق وأكمل من كل ما تم تقديمه من تفاسير تحكي عن ترابط قصة سيدنا موسى عليه السلام ورحلته ودلالاتها مولدا وهجرة وعودة الى الوطن ولقاء الخضر عليه السلام وتستمر فصول المبحث في سلاسة بحثية لتشمل مقابلة فرعون ثم مناظرة السحرة ومؤمن ال فرعون وعبور البحر وبعد العبور.
انتباهة الفصل الأول للكتاب عن مملكة كوش والتي استهلها بالتاريخ الفرعوني الذي يتكون من ثلاثين أسرة حكمت مصر (من 3100 ق م ، الى 341 ق م) والتي فيها اجناس أجنبيه عديدة من بينهم الهكسوس والليبيون والكوشيين والفرس والرومان والبطالمة والإغريق ، كما أن لقب فرعون لا يعني أنه مصري الأصول انما هو لقب شاع مع الاسم الشخصي لكل ملك حكم مصر في التاريخ المصري القديم، مثلما شاع لقب قيصر علي كل حاكم اعلي للرومان والبيزنطيين.
وأورد كتاب “نبيّ من بلاد السودان” كذلك أدلة اخرى عديدة (كنص بوهين) وهو اقدم نقش تم العثور عليه وذكرت فيه بلاد كوش الي العام الثامن عشر من حكم الملك سنوسرت الاول والذي حكم مصر (1971-1921 ق م) ويوجد في نص آخر للملك نفسه ذكر لاسم كوش مرتين في جزيرة فيلة، وفي نصوص اللعنة في المملكة المصرية الوسطى، وفي الدولة الحديثة في معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحري وغيرها من المصادر الأثرية الأخرى.
أما في الكتاب المقدس-العهد القديم- فقد تم ذكرها في “أخبار الأيام الثاني 14” حيث ذكر فيه سيطرة الكوشيين علي منطقة تسمي جرار جنوب فلسطين ، وكذلك في “سفر الملوك الاول 14:5” ، “اخبار الايام الثاني 12:2″، “الملوك الثاني 23:9: ، “اخبار الايام الثاني 35:2” ، “ارميا 46” وقد كان احتلال الكوشيين لمدينة جرار تلك في عهد الملك اسا ملك يهوذا والذي توفي قبل ظهور اسرة الفراعنة الخامسة والعشرين بمصر بحوالي قرن ونصف القرن، وكما هو معلوم بأن الكوشيين في نبتة هم المؤسسون للأسرة الفرعونية الخامسة والعشرين التي حكمت مصر كما ذكرنا آنفا.
الاهتمام الكبير المستحق بالموضوع وبحضارة السودان محليا وإقليميا ودوليا ليس هو وليد الصدفة وإنما هو نتاج (حفريات معرفية) ككتاب نبيّ من بلاد السودان، وقديما ما تحدث عنه بروفسور عبد الله الطيب في محاضرته المشهورة عن الثقافة السودانية والعديد من علماء بلادي الذين نفاخر بهم جميعا ، أو أيضا نتاج لجهود أثرية كالاكتشافات الأثرية العلمية الأخيرة ، واهتمام (سلطة المعرفة) بالأمر يعكسه اهتمام كبريات قنوات الإعلام العالميه كقناة الجزيرة او سكاي نيوز وما بثته محطة (سي ان ان) الامريكية قبل أيام عن أن السودان هو العاصمة الدينية لفرعون موسى ليس دقيقا بما فيه الكفاية رغم اتفاق التقرير مع كتاب (نبي من بلاد السودان ) في ان جبل البركل هو الجبل المقدس والتقديس كما يقول الشيخ النيل ابوقرون نابع من إقامة الاله امون رع فيه وصار اسمه الجبل المبارك أو جبل البركة او الطاهر وهي مكانة اكتسبها من تاريخ أقدم من ظهور موسى عليه السلام فقد ذكر في التوراة في سفر (الخروج 3:2) اسم الجبل (حريب) وحسب اللغه المصرية القديمة التي كانت مستعملة في نبتة يقال للجبل المبارك (Imn Rc hr ib wcb ) وتنطق الصيغة كالاتي (امون رع حريب وعب جو ) ومعناها (الاله امون المقيم في الجبل المقدس) وهي أهم منطقة مقدسة للكوشيين والمصريين على السواء وقد تكون كلمة البركل محرفة عن البركة ، كما أثبتت الأبحاث أن سيناء لا يوجد فيها جبل بهذا الاسم، كما لم يذكر القرآن تقديسا لجبل بل ذكر واديا مقدسا وتكليم الله لموسى عليه السلام كان من شاطئ الوادي الايمن ولا يوجد شاطئ في سيناء والصياغ يدل على أن الجبل بقرب الشاطئ ، وعدم الدقة في تقرير (سي ان ان ) هو إعادة التكرار لما هو سائد الان ومرجح بأن رمسيس الثاني هو فرعون موسي وتصحيح الشيخ النيل ابوقرون لذلك في كتابه القيم في أن ما ظنه البعض في بعض الفراعنه الذين سبقوا تهرقا أن احدهم هو فرعون موسى لا تؤيده القرائن حيث ذكر القرآن الكريم (…ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) فلم يحدث بعد حكم أي منهم خراب أو دمار بل على العكس تماما فقد ظلت آثارهم باقية ومنها آثار رمسيس الثاني حتى اليوم وهي من أهم الآثار في معبد أبوسمبل الذي لم يهدد إلا في العصر الحديث عند بناء السد العالي وتم نقله بسائر عناصره المعمارية بينما أصاب اثار تهرقا دمار وخراب شديد بواسطة الملك بسماتيك الثاني أحد ملوك الاسرة 26 (591 ق م).
ان الحفريات المعرفية والربط المحكم لآيات القرآن بجغرافيا المكان مع الادلة الاثرية الاخرى عن فرعون موسي ومكان الغرق والدمار الذي تم كما ذكر القران الكريم والطور والبركل والوادي المقدس والهبوط وغيرها من الاحداث وهي من المساهمات البحثية القيمة التي قام بها الشيخ النيل ابوقرون، وإن مثل هذا المنهج البحثي في كل العلوم هو المطلب الأكثر الحاحا والذي ينبغي أن توفر له الأجواء والإمكانيات والمعينات المثلي والاحتفاء اللازم، وقد أتيح لي أن اضطلع على خطاب الشكر الذي وجهته المكتبة الوطنية بجمهورية السودان للشيخ النيل ابوقرون بمناسبة ايداعه لديها نسخ من كتاب “نبي من بلاد السودان” ، فطريق البحث وحفريات المعرفة هو الطريق الوحيد الأمثل لإعادة الارتباط مع الأصول ومع حضارة أهل السودان وكل المنطقة التي انقطع الوصل بها وممسكاتها الحضارية ردحا من الزمان.