*سامر مختار
يبدو أن الإحساس بالفقد، من الصعب أن يتبدد أو يزول، مع تقدم الإنسان العمر، وأسبابه تلح على صاحبه في كل مرحلة من الوعي والنضج للمزيد من التأمل. فكيف لو كان هذا الفقد مرتبطًا بمسألة الأمومة؟ امرأة عانت في طفولتها من فقد الأمومة، كيف ستكون مهمة “العطاء” في عالم “أمومتها” عندما تصبح أمًا؟
فقدت الشاعرة المصرية إيمان مرسال، أمها، بعد شهرين فقط من التقاط صورة فوتوغرافية معها في أحد استوديوهات مصر، منتصف السبعينات. في كتابها “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها”(*)، نجد محاولة جادَّة لتناول موضوع الأمومة من أكثر من زاوية. تبدأ الكاتبة في تحليل الصراعات الداخلية التي تحدث أثناء الحمل وتكوين الجنين والولادة، لما يعتلي هذا المخاض من مشاعر متناقضة وانعكاسها على نفسية المرأة في تلك المرحلة. ليأتي الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان “عن الأمومة والعنف”، تسعى إيمان من خلاله تقديم صورة مغايرة للأمومة، عكس الصورة المثالية التي يقدمها “المتن الثقافي العام”، والذي يتسبّب حسب قول الكاتبة، في “المزيد من الشعور بالذنب عند هؤلاء الذين يشكون في كنه هذه المثالية داخل خبرتهم الشخصية. إنها تُقابل التعبير عن كل خبرة مختلفة بإدانة أخلاقية واجتماعية، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه”(ص9). كما تأخذ من الشاعرة البولندية أنّا سوير (1909 – 1984)، والشاعرة السورية سنية صالح (1935 – 19855) نموذجاً للشاعرة، الكاتبة/ الأم، عبَّرن من خلال قصائدهن عن الصراع الذي يحدث داخل الأم مع مولودِها. ففي مقطع من قصيدة “أمومة” لأنّا سوير تقول مخاطبةً مولودتها: “أنت لن تهزميني/ لن أكون بيضة لتشرخيها/ في هرولتك نحو العالم / جسر مشاة تعبرينه / في الطريق إلى حياتك/ أنا سأدافع عن نفسي”.
يظهر هذا المقطع من قصيدة “أمومة” لسوير، صورة منافية تمامًا، للصورة العامة التي ينظر إليها للأم وعلاقتها بمولدها أو بمولودتها، هناك إصرار من قبل الأم بأن لا تكون هذا الشخصية المعطاءة بالمطلق، إضافة بأنها غير مستعدة بأن تضحي بحياتها من أجل حياة المولود الجديد. تقول مرسال في هذا الصدد “كأن قصيدة سوير تجعلنا نفكر في أمومتين: أمومة المتن- الذي تكوّن عبر الخطابات الدينية والفلسفات والأخلاق والقيم الاجتماعية المقبولة – حيث يُنظر إلى الأمومة كفطرة إنسانية محمية بشكل طبيعي من الصراعات والتوتر، وأمومة في الهامش قد تجد شظاياها السردية في بعض كتب الطب والنصوص الأدبية وقصص الجرائم الأسريّة، وحيث هناك أصوات متفرقة تحاول التعبير عن المرض النفسي أو الكتابة أو الجريمة عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها”.
أما صورة الأمومة التي تقدمها الشاعرة السورية سنية صالح من خلال نصوصها، فتختلف من ناحية شكل العنف والحيز الذي يشغله في حياة كل شاعرة على حدا. ففي مقطع من قصيدة لصالح تقول فيه: “أيتها اللؤلؤة/ نمتِ في جوفي عصورًا/ استمعتِ إلى ضجيج الأحشاء/ وهدير الدماء/ حجبتك طويلًا. طويلًا/ ريثما ينهي التاريخ حزنه/ ريثما ينهي المحاربون العظماء حروبهم/ والجلادون جلد ضحاياهم/ ريثما يأتي عصر من نور/ فيخرج واحدنا من جوف الآخر”.
تناول مرسال بعضًا من نصوص سنية صالح، يأتي في معرض حديثها عن “رعب الفطام”، فتقول: “إذا قارنا بين قصيدتيّ سوير وصالح، فقد نجد أن الولادة لحظة عنف أصيلة وداخلية عند سوير، بينما العنف عند صالح يخص الخارج، مصدره التاريخ ومحاربوه وجلادوه”.
وفي فصل بعنوان ” كيف تجد أمك في صورتها؟ الأمومة والفوتوغرافيا” تنطلق الكاتبة من علاقتها الشخصية مع الصورة الفوتوغرافية الوحيدة التي التقطت لها مع أمها: “لم اشعر قطّ أن المرأة في هذه الصورة أمي. ربما نظرتها المتوترة أمام العدسة، كأنها تركت مملكتها في البيت وتقف الآن بلا سلطة(…) لم تكن الصورة مختلفة فقط عمّا أتذكره عنها، أو عمّا أريد أن أتذكره، بل كانت شبحًا”. انشغالها بما أخفته تلك الصورة من تفاصيل يدفعها لتحلّل ما يمكن أن تُظهره وتُخفيه في الوقت نفسه الصورة الفوتوغرافية، من خلال الرجوع لدراسات عن فوتوغرافيا القرن التاسع عشر، وكتب فوتوغرافيا “يتم تصنيفها حسب الطبقة (العليا أو الوسطى أو المناطق الصناعية. إلخ) أو بحسب ثيمة محددة: (الحرب العالمية الثانية أو الأمهات في التطهير العرقي في راوندا. إلخ) أو بحسب المصور: (آني ليبوفيتس أو دايان آربوس أو هيلين ليفيت. وغيرهن)”، ليظهر تعدد أشكال حضور وغياب الأم في الصورة الفوتوغرافية، مثل فكرة “الأم المخفية” التي ظهرت في بعض الدراسات عن فوتوغرافيا القرن التاسع عشر حسب ما تشير الكاتبة “بأنه كان على المصور الفيكتوريّ أن يوفر مقعدًا خاصًا لجلوس الصغير، ولكن كانت هناك وسيلة أخرى أكثر سهولة ونجاحًا؛ أن تختفي الأم خلف المقعد أو تحت شرشف أو ستارة وهي تحمل طفلها أو تسنده من خلف حجاب حتى يأخذ الوضع المأمول في اللقطة”…
في فصل “يوميات” نتعرف أكثر على تجربة الكاتبة ذاتها كأم. يوميات بعضها قصيرة تصف فيها موقف أو حادثة عابرة، وبعضها الآخر تسرد من خلال مواقف وأحداث وقصص من تجربة إيمان مرسال مع ولديها مراد ويوسف، ويوسف على وجه الخصوص، كونه يعاني من مشاكل نفسية. بعد ظهور تقرير الطبيب من” الفحوص اللانهائية ليوسف”، يظهر أنه يعاني من اكتئاب. تكتب إيمان في إحدى اليوميات “هذا هو الكتاب الثالث الذي أقرأه عن اكتئاب الأطفال. أحاول أن أتخيّل العذابات التي يعيشها وكأنني لم أعشها من قبل. يصيبني ألم في المعدة كلما تطرق الكاتب إلى دور الوراثة”…
الكتاب هو الإصدار الرابع من سلسلة كيف تـ. كيف تـ هي مبادرة نشر مستقلة أسستها مها مأمون وآلاء يونس. “كتاب كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها” صادر عن تعاون بين كيف تـ وجمعية مفردات.