المعطى المعرفي في “مفكك الرسائل القابالية” *

خاص- ثقافات

*كريم ناصر

 

 يبدو وكأنَّ المنطق صار يدحض المعايير الاستهلاكية التي تروّجها المكينة الثقافية بغية فرض أدب مضلّل يخلو من قيم الجمال، إن تفعيل مناهج أو نظريات أو سرديات غير أدبية ليست إلّا محاولة لإعاقة عملية التطوّر في بنية القصّة الجديدة لإخضاعها قهراً لمفهوم الجوقة أو لغرض نفيها واستحالتها وتقويضها..

فليس من السهل الحديث عن القاص البصْري “عبد الله طاهر” في إطار تقليدي يندرج ضمن نمطية خطابية معهودة، إنّنا لا نرى صيرورةً تضاهي صيرورة القاص لا سيما في معالجة قضايا التأويل في بيئته.

لا تنتمي قصص عبد الله طاهر إجمالاً إلى المحليّة، ولا يمكن أن نخرج بتفسير يضع القصص في إطار مرتبط بتفاصيل زمكانية، أو بإدراجها ضمن نظام إيديولوجي يستقي منه نهجه، وبهذا المعنى لا يمكن تحليل البنية القصصيّة دون احترام للمنظور العلمي، لأنّ مثل هذه المعالجة يمكن أن تقودنا إلى تقليدية نمطية.

إذاً فهناك منطقٌ خاص يعتور المحتوى الكلّي، وعلينا ألّا نغفل هذا النسق الجديد مع أنّنا نفتقر بداهة إلى رؤية نقدية متكاملة الملامح لتساعدنا على اجتلاب الرؤى الدلالية، وما يصعب اكتشافه من منظورنا، وقد دحضَ المنطق الكثير من النظريات التي تشير إلى صبغة المحلية وجماليات المكان وارتباطها بالبيئات المستهلكة، مع ما أنَّ لجماليات المكان في المنظور الأدبي شروطها المعروفة، إنَّ تحويل المحلّي إلى عالمي في أدب ماركيز، يظلّ فعلاً استثنائياً بحتاً يرجع إلى قدرة الكاتب الخارقة فضلاً عن عبقريته واحترافه في الرواية.. أمّا في الحالة البَصْرية فتظل القصّة أقل تألّقاً لكثرة استغراقها في المحلية، وكان ممكناً أن تلمس حدود بنيتها الجمالية.

karim nasser-

فالتعبير عن المحلية يظلّ موضوعاً جديراً بالتحليل، ولكي تكون القصّة دلاليةً يجب أن تحتفظ بتميّزها عن القصّة المعيارية ويكون الانزياح مرجعاً لها، وتكون أحدى شروطها أن تنزع إلى المعرفة وتسمح بالتعبير عن الجمال المطلق، فهل تنطبق مثلاً لفظة قصّة على بنية حكائية لا تتوفّر على تقنيات القص وبلاغة التعبير؟ أليس ثمّة شروطٌ لفن القصّة بمعنى من المعاني؟ أيجوز لنا في هذه الحالة أن نسمّي جزافاً حكايةً نمطية ساذَجة قصة قصيرة؟

فلو دقّقنا بالمعنى الحرفي الأدبي في تفاصيل بعض الوقائع البارزة، لاكتشفنا حينئذ فرقاً دلالياً يجسم جغرافية القص، ويحتم عليها اتيان شخوص معرفيين يضطلعون بأدوار فاعلة ضمن بنية فاعلة أيضاً تضع الأُسلوبية موضوعاً لها، شريطة ألّا تعدو متشابهة في خطوطها العريضة.

لا توجد معطيات محدّدة تشير إلى الوصف المحض في تلافيف القصص لتنتهجه وتجعله موضوعاً أساسياً لها، فما يشغل القاص إنّما يتجسّد في انجذابه إلى فلسفات تتوفّر على لغة عليا، وهكذا يقدّم لنا في هذا الشأن أُنموذجات نوعية يمكن أن نقول عنها إنّها سوسيولوجية أو سايكولوجية أو فينومينولوجية ترمي إلى إشاعة أُسلوبية لسانية ليس للوصف البنيوي مكان فيها إلّا لتجلٍّ جمالي أو درامي أو تاريخي يفرضه المُعطى القصصي نفسه، ويسمح بإثارته في جزئياته.

يشيع الكاتب أُسلوباً استهلالياً يرمي من ورائه إلى الإقرار في فكّ الارتباط بالبنى النمطية التي لا قيمة لها في مقابل تنمية أشكال شديدة الصرامة تخترق صيرورة التقليد لتفرض علينا قراءة تامّة في نطاق جمالي أو معرفي، وأي عمل يحمل قيمة عليا لا بدَّ من أن يترك أثراً جمالياً كنتيجة لفعل الشخصيات وتمفصلاتها الاجتماعية لتعادل ظاهرة معرفية مطّردة المعرفة..

 

إستعارات معرفية:

 

تتمثّل صفة الاستعارة في خرق قانون ما، أيّ قانون، واستبداله بصيغة جمالية أو أدبية أو فلسفية تقوم على علوم معرفية لخلق اختلاف مطلق في جلّ سياقاته، إذا افترضنا أنَّ الكاتب المتمرّس لا يبوح باستفاضةٍ بما يملك من بديهياتٍ سردية، بل إنّه يؤوّله برويّة ترقى إلى مستوى الخطاب بشرط ألّا يخرج من حقل المعرفة، ولا من نطاق توصيفاته، وعلى الخصوص حقل تحليل الخطاب الذي يندرج ضمن التحليل النفسي. 

 

علينا الاعتراف سلفاً بوجود ثغرة في النقد إلى حدّ أنّها أصبحت في ثقافتنا ظاهرةً معمّمة، إنّها لمفارقة كبيرة أن يفقد عمل أدبي سمته المميزة في ظلّ تعمية ثقافية، في حين أن عملاً أدبياً رفيعاً مستوفياً شروطه الأدبية والسردية في وسعه أن يحفّزنا على تحليل وحداته ضمن آلية نقدية، فذلك يكفي لإعادة الهيبة إليه بوصفه من صلب السرد..

نحن لا نعطي لأنفسنا الحق في تعرية النقد ليكون محل اتهام، فليس النقد القصصي من مجال اختصاصنا إلّا من منظور القراءة الأدبية. إنَّ من المؤسف حقاً أن يروّج نقادٌ لأعمال زخرفية لا هيبة لها من حيث القيمة الأدبية، وتكاد تكون أقلّ مقبولية في السرديات العربية الحديثة التي تحمل سمات الأدب.

 

الجمالية السردية وظاهرة الخيال:

 

لن يتّسع خيال السارد إلّا بمقدار استقلالية ـ خارجة من سياق الوصف ـ كأنْ تجعل من الخيال معياراً وصيرورة متواصلة، ومن التأمّلات المعرفية مرجعاً وآلية، فزمنية الخيال المعرفي لا تخضع للحوافز بالمعنى الشكلي، فالخيال الواسع هو ما يضع دوماً صور الأحداث في حدود منيعة، ويلخّصها في نظام جمالي بغية تصوير ظواهر معرفية أو فلسفية أو كونية، وقد يمثّل الخطاب الثقافي الفكري أبجديات المعرفة لدى (بورخيس) في (قصة مفكّك الرسائل القابالية) ومن الحقائق الطريفة على سبيل المثال يلجأ السارد إلى وضع صورة مناقضة للأديب الأعمى، ولهذه اللعبة الفنية دلالة تجعل البصير باصراً يسبر غور الأغوار بطريقة جمالية تعادل ظاهرة الخيال نفسها..

إنطلاقاً من هذا المعيار يبني القاص قصّته على وفق رؤية خيالية أو بصرية.

 

فلنتأمّل التجلّيات الخيالية، فمن المهم أن نعرف أن ما وراء هذه الآفاق لاعب محترف يجيد الصنعة ويعرف اللغة:

 

“قلت لنفسي متسائلاً إن كان هو يتصوّر الفردوس على هيأة مكتبة والعمى أُسلوباً في الحياة كغيره من الأساليب، فما ذلك الشيء النفيس الذي أغوى “ملتن” لإعماء نفسه طوعاً ونظم سونيتة الفردوس المفقود” ص15

 

لنتأمّل أيضاً:

“شرعت أتذكر على الفور إشارته في نص من نصوصه لديموقريطس الذي سمل عينيه أيضاً في حديقة، لكيلا يترك لمشهد الواقع الخارجي أن يشغله” ص15

 

وقد نجد غالباً نزوعاً ضمنياً إلى التصوير الخارق لما هو أبعد من المحدّدات الفكرية لفهم العالم الخيالي، والتعبير عنه ضمن ما يُعرف بالخيال العلمي أو السحري أو الفكري بمعنى من المعاني لدعم مضمون القصّ بامتدادات معرفية يمكن أن نستدلّ بها لتحليل طبيعة الوظائف الدلالية اللفظية المتمثّلة في مفهوم الفينومينولوجية أو الوظائف المتجسّدة في الكوميديا الإلهية لدانتي، وتتمثّل الوظائف في إبراز الجانب المعرفي لمصطلحات لفظية مثل الإليغوريا، ويزوّدنا السارد تحديداً بما يتعلّق بالإغريقي من أنديانا بارنستون، وكذلك يأخذنا معه إلى عوالم الخيال والميتافيزيق والأسطورة من منظور أدبي، وهكذا يُخيّل لنا حالة الإسكندر واهتدائه إلى “ضوء من نار مشتعلة في حطب”..

كلّ هذا يفرض سياقاً يسمح تلقائياً باجتراح صورة حوارية عميقة ـ بين السارد والمسرود له ـ تتحقّق بفضل البنية السردية العميقة، ويصبح السارد الحقيقي فيها كاتباً يقنص الأحداث، ويشهد تطوّرها أي تطوّر البنية المعيارية..

 

“شرعت أتمعّن وأنا أصغي له، في ذلك المدرس الساخر وميتافيزيقي الوقت، ومفكك الرسائل القابالية وأنطمة الإشارة التي يرى فيها  الكون كتجسيد للغة” ص17

 

ومن هنا تأتي أولوية الكاتب الأساسية لتقريب القرّاء من وعي بورخيس الشهير ولفهمه، والصحيح للإمساك بثقافته المعرفية، أي نشر مبادئ التنوير فضلاً عن تحسين ذائقة المتلقين وتعريفهم بمفاهيم جديدة عن عالم الأدب بكلّ مستوياته، فضلاً عن تزويدهم بآليات معرفية وثقافية وعلمية، وتصوير أمكنة شهيرة وإبراز الأعلام من كتاب ومفكرين وشعراء وفلاسفة ليس إلّا كهدف تنويري ومعرفي وثقافي، ولإيصال معلومة طريفة للقراء عن ولع بورخيس بنثر ستيفنس، وطباعة القرن الثامن عشر فضلاً عن طعم القهوة، وفي سياق متصل نحصل عن معلوماتٍ عن رواية القلعة وعن كافكا وعن بيير مينار (مؤلف الكيخوتي) وعن بول ثيرو (قطار باتاكونيا).. وكذلك ملتن والإسكندر وجورج هربرت..

والحق أنَّ عملاً أدبياً كهذا يستدعي قراءةً تامّة لحل ألغازه، ولذلك ما يدفعنا للغوص في خضمّ هذه القصّىة، إنّما قيمتها الفريدة وصرامتها اللغوية:

 

“وأنا هنا بالتمام أقصد النظام، ولكنك اقتضيت الفكرة بأدق الكلام فهي الآن أفضل من صياغتي، ولأني أعرف التواضع الذي يظهره بورخس أمام غيره، فقد أشرت إلى أن صيغته هو لهي أنموذج لروح السرد القصصي المكتسي بالهندسة والحركية باعتباره قاصاً خارقاً وذلك بتحديده نقطتين (أ) و (ب) بدلاً من أخيل والسلحفاة  وإنّما وعلى نحو ما سيظل ذلك التصور الخاص بي ماثلاً في ذهني ـ وأنا ما فتئت أتكلّم هنا مع نفسي ـ وهو أنه أثر ترجمة بورخيس لـ (تحولات) كافكا، كتب (بيير مينار) ثم وبعد ثلاث سنوات من ذلك كتب الحديقة والدروب المتشعبة” ص11 وص 12

 

يدعو هذا العمل إلى شركة معرفية لتفكيك وحدات القصّ للحفاظ على مضمونها، ولتجسيد معياريتها وشيوعها على أساس أنَّ القارئ كاتب ضمني، والكاتب سارد ضمناً.. من هنا فقد تتخطّى القصّة حدود الاستنباط لتضع نفسها في موقع التأويل، ولكي تتحقّق المعاني يجب أن يسبقها مرجعٌ معرفي، وقارئ حصيف ـ متمرّس ـ قادر على حلّ الأُحجيّات المفقودة لدلالات عصيّة يمكن أن يقال عنها إنّها مستغلقة من منظور بنائي..

“في كل الأحوال فكما كان النضوج كريهاً كم يبدو الكمال مملاً.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من قصص المجموعة الموسومة “أفلاطوني كمبردج”

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *