غاري ساول مورسون: هل يمكن لقراءة الأدب أن تجعلنا أكثر أخلاقية؟

*ترجمة: عبدالله الزمّاي

لقد طرح هذا التساؤل منذ العصور القديمة. كان الكثيرون يشكون في أن للأدب القدرة على تعليم الأخلاق السيئة. اعتقد أفلاطون أن الخيال خطر وأعرب عن أسفه،على سبيل المثال، لتصور الآلهة على نحو يدعو إلى الضحك. خلال الإصلاح دُمر الكثير من الفن الكاثوليكي، وسعت الثورة الثقافية الصينية لتخليص العالم من الأعمال الفنية الرجعية. وحين استولى السوفييت على السلطة، واجهوا خيار حظر أدب ما قبل الثورة، أو إعادة تفسيره كما قرروا في نهاية المطاف. إن الأدب أساسي جدًا للصورة الذاتية الروسية – فهو يشكل مساهمة روسيا العظيمة في الثقافة العالمية – ولا يمكن لتولستوي وبوشكين ببساطة أن يكونا محظورين. لقد قُرئت أعمالهما، بدلًا من ذلك، بوصفهما سلفًا للأدب البلشفي العظيم الذي ينوي السوفييت إنتاجه.

للأدب وسائله بالارتقاء بنا عن وجهة النظر التي نراها أمرًا مسلمًا به. حينما نقرأ الإلياذة أو(تاو تي تشينغ) أو جلجامش أو سفر التكوين أو الفردوس المفقود أو الجريمة والعقاب، نتعرف على وجهات النظر التي قد تختلف بشكل ملحوظ عن تلك التي تفترضها ثقافتنا. إن قراءة الأدب ستبدو وسيلة لاكتساب الحكمة، إلى الحد الذي سينظر فيه المرء إلى هذه التجربة بوصفها تنويرية، فالأدب يخرجنا من جزيرتنا الصغيرة في الزمان والمكان ويبين لنا كيف يمكن للقيم الخاصة بنا أن تظهر للآخرين. نحن لم نعد نقبل قيمنا كأنها الوحيدة الممكنة اللائقة، سيدرك ذلك الأذكياء.

قد يرى البعض هذا التوسع خطرًا، ففي الحد الأعلى قد يرى المرء المنظورات المختلفة شرًا أو غباء بالضرورة، وفي الحد الأدنى يريد المرء للآخرين أن يتمرنوا على رؤية العالم من عدة زوايا. سيعتبر الأدب، في هذه الحالة، خطرًا من الناحية الأخلاقية. يدرك المتعلمون عمومًا أن السوفييت حظروا علم الوراثة والتحليل النفسي وحتى بعض المذاهب في الكيمياء باعتبارها تتعارض مع الماركسية اللينينية، لكنهم لا يدركون في كثير من الأحيان أن جميع الأجناس الأدبية قد نُدد بها كما لو أنها محض كذب. كانت التراجيديا، مثلًا، تعتبر مضرة لسببين على الأقل. الأول أنها تتعارض مع التفاؤل الرسمي للفلسفة الشيوعية، التي ترى أنه لابد من بلوغ الناس السعادة الشاملة. ثانيًا أن التراجيديا تؤكد على أن العقل البشري ليس كافيًا  لفهم الكون الغريب، في حين أن الفلسفة الشيوعية، مسترشدة بالماركسية اللينينية، ترى أن الناس قد لا يفهمون قوانين الطبيعة والمجتمع، إلا أن بإمكانهم أيضا تغييرها كيفما شاؤوا.

لذا، فإن السؤال عما إذا كان بإمكان الأدب أن يعلمنا أن نكون أخلاقيين أكثر يثير تساؤلًا ذا صلة، هل من الجيد أو السيء أخلاقيًا أن يعتمد الناس ولو مؤقتًا على وجهات نظر غير متوافقة؟

أعتقد أن الرواية الواقعية هي أكثر جنس أدبي يمهد طرقًا خاصة للقارئ بأن يجرب كيف سيكون الأمر إن كان شخصًا آخر. حين يقرأ المرء رواية يمر مباشرة بتجربة الأشخاص الآخرين. في نظريته المشاعر الأخلاقية، يشير آدم سميث، الذي يعتبر التعاطف مع الآخرين سمة بشرية عالمية وضرورية للأخلاق، إلى أننا ممنوعون مطلقًا من تجربة فكر شخص آخر ومشاعره، وكل ما يمكننا فعله هو أن نستشفها فقط. ابتكرت جين أوستن، بعد خمسين عامًا من ذلك, تقنية تتيح لنا فرصة الدخول في عملية تفكير شخص آخر، وبذلك فقد ابتكرت في الواقع الرواية الواقعية النفسية.

يسمي الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين هذه التقنية بـ”كلمات الصوت المزدوج”. وإليك كيف يعمل: يعيد المؤلف صياغة تسلسل أفكار البطل أو البطلة من الداخل. فتفترض إعادة الصياغة نبرة كلمات الشخصية وطريقتها واختيارها النموذجي، فنسمع كيف تحدث نفسها. وهكذا، حينما تحتاج أن تبرر نفسها لنفسها، نسمع كلمتها وحكمها غير المرئي، حينما تهم بفعل أمر تشعر أنها يجب ألا تفعله، نسمعها تحدث نفسها بذلك، تطرد الحجج المعارضة، تنحرف بعيدًا عند أول علامة وهي على وشك أن تعثر على اعتبار قوي للغاية للتهرب. نشاهد كيف ومتى تنطلق أجراس الإنذار الداخلية فورًا، فهي تتأكد من عدم التفكير في شيء، وندرك بمسؤوليتها الأخلاقية عما لا تفعله، لكن كانت لتعرفه بسهولة. ربما تؤكد لنفسها لاحقًا أن الحجة المضادة المقدمة لم تحدث لها، ولكن هناك فرق كبير بين ألا تفكر بشيء ببساطة وأن تتجنب التفكير في الشيء ذاته. يرى هذا الفرق فقط أولئك الذين يمكنهم تتبع عملية تفكيرها، وهذا ما يفعله قراء جين أوستن وجورج إليوت وليو تولستوي وهنري جيمس عادة. إن أردنا أن نفهم كيف يمكن للناس اتخاذ قرارات أخلاقية – وكيف يمكن أن نتخذ نحن أنفسنا قرارات أفضل-  فما هي المعرفة التي يمكن أن تكون أكثر أهمية؟

دعوني أقدم مثالًا موجزًا حول كيف تدخلنا الرواية الواقعية إلى عقول الآخرين. سأختصر فيه حديثًا طويلًا من رواية ليو تولستوي (آنا كارنينا)، حيث أن آنا، التي لا تنسى أبدًا أنها امرأة متزوجة، تركب القطار إلى موطنها في سان بطرسبرغ بعد علاقة غرامية عارمة مع الجذاب أليكسي فرونيسكي. فيخبرنا الراوي أن آنا:

” فجأة شعرت أنه يجب أن يشعر بالخجل، وأنها يجب أن تشعر بالخجل من الأمر ذاته. لكن مم عليه أن يخجل؟ “مم علي أن أخجل؟” تساءلت في دهشة مغبونة …. لم يكن هناك شيء. طافت بذكرياتها موسكو…لم يكن ثمة شيء مخجل. ولكل ذلك، في نفس النقطة من ذكرياتها أخذ شعورها بالعار يتكثف، كما لو أن صوتًا داخليًا، في اللحظة التي  فكرت فيها بفرونيسكي تمامًا، كان يقول لها: ” إنه دافئ، دافئ جدًا، حار”.

لاحظ أن هذا المقطع قد كتب من الناحية النحوية بلسان الراوي العليم “تساءلت في مفاجأة جارحة”، في حين أن تسلسل الأفكار واختيار الكلمات ونبرة الصوت ليست للمؤلف بل للشخصية. نعرف فورًا أنها أفكار آنا باعتبار أن الضمير “هو” لم يذكر: امرأة تحدث نفسها تعرف مسبقًا على من يعود الضمير. تشعر آنا بالعار، لكنها تسعى إلى إقناع نفسها بأنه “لم يكن هناك شيء…لم يكن هناك شيء مخجل”، تأكيدًا يفضح العار الذي تنكره. إذا ما اقتبسنا هذا المقطع كاملًا، صفحة كاملة تقريبًا، فسيتبين كيف يمكننا سماع الخطوات التي تحاول بها آنا إبعاد الحقيقة التي تعرف، ولكن الشعور يعود إليها رغمًا عنها.

قد يتساءل المرء: لماذا لا نستخدم تيار الوعي فحسب ونعطي التسلسل الكامل للأفكار بلسان الشخصية، كما هو الحال في جملة “مم علي أن أخجل؟” ذلك لسبب واحد، وهو أن المؤلف قادر على إخبارنا بالأشياء التي لا تلاحظها آنا نفسها، مثل هيئة بدنها، ولهجتها في الدهشة المغبونة، واستمرار الشعور المزعج  أنها تريد التظاهر أن ليس ثمة ما يستدعي التعليق عليه. لا يقول الناس لأنفسهم ما يرفضون قوله لأنفسهم. إنهم يلوذون بسياسة الإنكار حيال أي فحص أخلاقي ذاتي قد يجرونه لاحقًا. يمكن للمنظور الخارجي فقط الكشف عن أثر فكرة يتجنب المرء الاستمتاع بها. وثمة سبب آخر لكوننا نحتاج إلى الإفصاح المزدوج, بدلًا من تيار الوعي، يعود إلى أن التعقيد الأخلاقي لتسلسل الأفكار يعتمد على الإصغاء لكل من أفكار الشخصية ووجهة النظر الأخرى التي قد تسمعها في وقت واحد. يمكن أن يعرض المؤلف الجواب ضمنيًا والذي يمكن أن يقدمه المحيط الاجتماعي للشخصية أو شخص آخر.

حينما نتلبس شخصًا آخر بهذه الطريقة لمئات الصفحات، يمكننا أن نقدر مباشرة كيف يبدو الأمر إن كنت شخصًا آخر: شخصًا من ثقافة أخرى أو طبقة اجتماعية أخرى أو جنس آخر أو نوع نفسي آخر. يمكننا أن نتعاطف مع الشخص الذي يملك قيمًا ومكانة اجتماعية نراها عادة غير مقبولة. غالبًا ما يشعر القراء أن آنا كارنينا وليلي بارت في (بيت الفرح) على سبيل المثال، تمثلان قيمًا تتحسران عليها. وحتى أولئك القراء – إذا ما اعتبرت نفسي مثالًا لهم – لا يزالون يشعرون بالتعاطف العميق مع آنا وليلي وهما تقرران الانتحار.

لا نتعاطف في بعض الأجناس الأدبية كثيرًا مع الأفراد، وإنما مع وجهات نظر مختلفة عن آرائنا كليًا. يأتي العمل بحد ذاته من عالم أخلاقي مختلف تمامًا. أن تقرأ الإلياذة أو الفردوس المفقود، كما ذكر أعلاه، يعني أن تتشارك لفترة وجيزة وجهة النظر الملحمية للأحداث، فضلًا عن تبني القيم المسلّم بها في الثقافة اليونانية أو الإنجليزية القديمة إبان عصر النهضة. كلما زادت غربة الثقافة، كان من المرجح أكثر أن نواجه المؤلفين أو الأبطال الذين لا يشاركوننا قيمنا. إذا ما تعلمنا أن نتعاطف معها، ونعتبرها تمسكًا بوجهات نظرهم لدوافع لا تقل صدقًا عن قيمنا، فهل يمكننا أن نفعل الشيء نفسه إذًا بالنسبة للناس في ثقافتنا، على سبيل المثال، الذين ليسوا من حزبنا السياسي أو طبقتنا الاجتماعية؟ قد تكون الفكرة مزعجة للأنصار أو طبقة المتعلمين الذين يفترضون تفوقهم الأخلاقي.

حاول بعض النقاد وأساتذة الأدب أن “يزيلوا أدبية” الأدب. حاولوا أن يزيلوا الحدث الأدبي الرئيسي الذي يحمل وجهات النظر الأخرى من خلال معاملة الأدب بوصفه دعاية تؤيد ما يؤمن به المرء مسبقًا، أو من خلال تحديد أعمال بعينها لكتّاب مستحسنين ذات رسالة معتمدة، وكلما كان العمل أبسط وأقل غموضًا كان أفضل. هذا هو ما يفعله الكثير من معلمي اللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية والكليات، لا لأنه من المبهج جعل الطلاب يتقاسمون معتقدات المرء الخاصة فحسب، بل أيضًا لأنه من السهل جدًا عليهم تدريس مثل هذه الأعمال. يمكن للمرء أن يفعل ذلك دون أن يحب العمل الأدبي على الإطلاق. قد يكون أحد أسباب الأزمة الحالية في العلوم الإنسانية والانخفاض الكبير في معدلات الالتحاق بفصول الأدب أن الطلاب يتساءلون بلا شك لم عليهم أن يخضعوا لعمل مضنٍ في قراءة الأعمال الطويلة، ليعرفوا فقط ما يعرفونه بالفعل.

أشاد باختين بالأعمال العظيمة التي تخرجنا من (الكون البطليموسي) إلى (الكون الغاليلوي)، التي تأخذنا من عالم تكون فيه وجهة نظرنا مركز كل شيء – كالأرض في نموذج بطليموس القديم في النظام الشمسي – إلى عالم تكون فيه وجهة نظرنا مجرد واحدة من احتمالات عدة، مثل كوكب من عدة كواكب أخرى تدور حول الشمس. تعتمد القيمة التي قد يفرضها المرء على الأدب العظيم على رؤيته بمدى أخلاقية/ لا أخلاقية الهروب من سجن المجموعة الاجتماعية للمرء في ثقافة المرء الخاصة في لحظة معينة من الزمن. كلما أرادت الثقافة حماية مواطنيها من وجهات النظر التي يمكن أن تكون ضارة،  فأنها ستؤدب الأدب. في الأنظمة الاستبدادية والأديان غير المتسامحة والمحاربين للعدالة الاجتماعية المتفوقين أخلاقيًا، قد يبدو الطريقة التي يجعلنا بها الأدب أخلاقيين تهديدًا لكل ما يعدونه مقدسًا.

_______

*تكوين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *