فاسوخ الربيع

خاص- ثقافات

رضا نازه *

2492 م، لا ربيعٌ صادق حل هناك ولا حتى طيرُ سنونو يعلنُ عن ربيعٍ كاذب. منذ عقود. لا حياةٌ تنبضُ إلا على طريق قرضَتْ أسفلتها جرذانُ تنبعث مِن أكداسِ أزبال غبراءَ متكلسة محدودبة، كأنها تخفي أنقاض مُدنٍ غابرة. في الأفق يزولُ السرابُ بشبحٍ يدِبُّ كسحلية تهرول على عطش. لم يلبث أن أسفرَ عن شيخ كبير عَقور بيده صولجان عتيق وعنقه ذاتُ طولٍ غريب، كأنه يأكل بشفتيه من شيء مُعلَّقٍ بعيد. توقف لحظة. عن ضجر لا عن تعب. لا يتعب أبدا، كأنهُ من ذرية قومٍ جبابرة. تذكر كرسيَّه الوثير فأحس برغبة في الجلوس، فإذا بصُوَّةٍ مِن صوى الطريق تظهر مِنْ عَدَمٍ على مَقرُبة. اهتز لرؤيتها وارتعد ثم انحنى مترددا يتهجَّى بمشقة كأن لم يكن متعلما قبل قرون. “زقاق الربيع” ما إن قرأ حتى صرخَ تبًّا! كاد يُغشى عليه سبعين خريفا كآخر مرور هنا، فتمَالَك حائرا. هل يعود إلى نفس المكان أم نفس المكانُ يعود إليه. كأنه في مدار أو في شريط يُعاد بثه. كالعادة وعلى مسافة من الصُّوة سيخرج مِنْ صخرةٍ هناك قرب عمود المرور شبَحَا امرأةٍ وطفلِها يتتبعان تغير الأضواء العبثية، يتمتمان عبارة غامضة: “عائلة سو—مارية.. عائلة سو– ريالية.. عائلة سو– ريانية!”

استبق ظهورَهما المألوف واستغشى ثيابَه ومرَّ دون أن يلتفت.. تجاوز بسلام ثم استدار قليلا فإذا بشبح الأم يتبعه وطفلُها والصُّوَّةُ كذلك والصخرة والعمود والأضواء العبثية. حانقا قرفص مكانَه يحاول أن يتَبَرَّز عسى تختفي الأشباح استحياءً. لم يخرج شيء. لم يَأكل منذ عقود ولم يشرب، عصته أمعاؤُه كما عصاهُ الموت وقد حاولَ مرارا أن يُخرج نفسَه ويُزهِقها. سقط الصولجانُ العتيق وتجهَّم وعبس فبدت السحلية من جديد..

ليتها كانت الصُوَّةِ الأولى التي لقي عندها منذ حقبٍ رجلا طاعنا في الدَّهر سيق إليه. تَجَاذَبَا الحديثَ حينئذ فأخبره باسمه. عَزَابُليسْ. اقشعر لجَرْسِ الاسم أولَ الأمر فطمأنه أن لا علاقة له بإبليس، ربما. عزابليس تركيبٌ يوناني. مدينة العزة. تبسم الشيخ وقال له:

“- ذُقْ يا عزيزي!

– وما سأذوق؟

– أما تدري؟ لقد صرتَ مُنْظرًا، مكافأةً لانتصارك على قومك وسَحْقِهم!

– مُنْظَر؟

– نعم عزيزي، لقد نجوتَ ببدنك إلى الأبد؟”

كم كان يتوق أن يُعَمِّر ويمتدَّ مكثُه متربعا. لكن.. مُنظر؟! دفعة واحدة. والآخرون؟ الذين أعانوه على سحْق قومه؟ همَّ أن يسأل الشيخَ عنهم فأعرض. إلى الجحيم. تكفي فرحتُه بالإنظار، وفرحةٌ أخرى كطفلٍ أمام ساحر السيرك، حين أخرجَ الشيخُ من جيبه قماشا أخضر ورماه على الربوع المحروقة بالبراميل؛ أخذ يتسع حتى غطى الأفقَ بخُضرته. تبسم له ثم اختفى وقد وعده بربيع متجدد، شريطة أن يلقاه عند صُوَّة المزابل الأربعة. لكن.. اختفى من يومِها، وورث هُوَ صوَّة واحدةً تترقبه، وشبحان عند مفترقات “زقاق الربيع” المقفر يرددان عبارات غير واثقة كرَمْيَات نَرد..

هل يعود من حيث أتى. من أين أتى أصلا؟ منذ قرون لم يعد يأتي من مكان ولا زمان. فقط تلالُ قمامة تحجُب شمسا لم تعُدْ تدور بحسبان.

جلسَ على التراب، نصب ركبتيه وأسندَ ظهرَه إلى الصُّوَّة لاعنا صلادتها. رَكَلَ الصولجان البالي فتدحرج وانكسر عاجُه الوَسِخُ وتسَنَّن. تفحص أسمالَه وقد صارت سَدَى قماش رث تشدُّهُ أوساخٌ كدُهْن حِذاء. تلمَّس قدميه وجلدَه الخشنَ كاللِحاء. أغمض عينيه. كلما أغمضها استحالت جفونُه شاشة تستحضر شريط عمر سرمدي بطعم احتضار طويل لا يَعقُبُه موت. خمدَ شبقَ التسلط ولم ينل من شبقه. شاهد على جفنيه ألوف وجوه الحسناوات الفاتنات اللاتي ذبُلْنَ أمامهَ كأقحوان يومٍ وليلة. رقدن تحت الثرى بينما عَافه الرقاد. ما زال يذكر منهن الأسماء والفِراقاتِ المتقدة. ولم تنقص غلمتُه اللعينة. كان يُدفع دفعا للتزاوج والإنجاب. بكل قتيل من الذين سحَقهم كان يُرزق خمسين أو مائة أو ألفَ كَبِد تمشي على الأرض. صاروا شعوبا وقبائل. لم يتعارفوا، بل اقتتلت الأكبادُ في حضرته أشرسَ ما يكون. تقاصفوا بالبراميل وجرَّبوا في بعضهم أسلحة الأمم، رأى بعضًا منه يُفني بعضًا في حروب بلْهَاءْ. هو نفسه قتلوه مرارا تشاؤما بحضوره الثقيل أو حين يأبى أن يورثَهم خلودَه اللعين. أقبروه مرارا تحت أكداس القمامة المتحجرة كيلا يعود، لكن كانت له قيامات متوالية. يجدُ جيلَ أكباد اندثر عن آخره ثم يُدفعُ للتزاوج وإنجاب آخرين..

ثم خُتِم الشريط بشبح صرخ له “عائلة سريالية.. يَااابِييي” كان وجها غير غريب. أمِنْ قومه ليَتشفَّى أم من ذريته ليحزن؟ هبَّ مذعورا يشهق ويزفر. تناول الصولجان دون حيطة فأدماه العاجُ المكسور. لعنه ورمى به ومشى يلعنَ مجمع المزابل الأربعة. ما لبث أن استرعاه عشبٌ أخضرُ تفادى المشي عليه. ما مر من مكان إلا وتركت قدماه أثر حرق يتمدد ويأتي على الأخضر ويباركُ اليابسَ ويزكيه. التفت وقد تلاشى العشب رغم احتراسه. كان في الأول يختصر المُقامَ كيلا يستفحل القحط، لكنه استسلم لقحط نَفْسِه السرمدي. من أين له بسويعة من ساعات ضحاياه حين كان يجلس أحدهم يحتسي كوب عرقسوس ويتفكه مع جلسائه برهة ثم يقوم إلى أهله. من أين وقد غرق في طوفان الأوقات. ما لبث أن انتبه كَهِرٍّ التقط حَسِيسًا خفيا فتطاول بحثا عن مصدره. جُرْف القمامة أمامه. عَبَر إليه وأصاخ بأذنه، فإذا به يسمع صدى مقهىً مطمور بكراسيه وموائده وناسِه وقد تجمدت على شفاههم آخر صرخة حين حط برميلُه وانفجر وتحنط الصدى. تقهقر وفر تخترقُه نظراتهم من خلال مَسَام التراب..

“- اللعنة عليك يا عزابليس؟ وعلى مجمع مزابلك؟”

ما لبث أن صار يسمع خطواتِه مضاعفة كأن شخصا يُماشيه. تردد في الالتفات لكنَّ دفَّ النعال استفحل. ثم استدار للمفاجأة. كأنَّ لِلَّعْنة بركةً حضَّرتْ بُغيته فصرخ:

“- عزابليس.. أخيرا!”

أجابه في حنان ماكر:

“- فاسوخ الربيع.. عزيزي!” ضرب على جبينِه. ذكَّره باسمٍ نسيه من فرط التوحد. أخذ يعاتبه:

“- ضلَّلْتني قرونا.. لا وجود لمجمع المزابل الأربعة؟” ضحك عزابليس وأشار إلى الجهات:

“- ألا تكفي كل هاته المزابل؟ لكن اطمئن لم أتخل عنك قط.. كنتُ أراك من حيث لا تراني!

– يكفيني يا عزابليس.. مللتُ.. صرت أحسد الناسَ على الموت. أسمع صداهم تحت الركام.. هل اختصرتُ حياتهم كي أرث أراذل أعمارهم؟ كانت أمنيتي أن يموت مَن يكرهني، كان لي ما أريد، وكان لي ما لم أرد كذلك.. تيقنت أن ما أريد توأمُ ما لا أريد.. فخُذ عني خلدك المسموم..

– هل قلت لك يوما أنت خالد، قلت لك أنت مُنظَرْ!

– يكفي.. غيرُ مُشوِّقٍ أن يكونَ أجلُك قيامُ الساعة.. غير مشوق، وحتى الربيع لم يعد منذ قرون.. وهذا الشبق المقيم اللعين ينذرني بدورة شعوب أخرى من أكبادٍ لعينة مُحْتَربة..

– لا تعاتبني على الربيع.. لقد عاد مرارا وفسَختَه، أرأيت بقعة العشب منذ قليل كيف أحرقتها بمرورُك.. كانت عينة وضعتها في طريقك..  يستحيل الربيع في حضورك، كأنك تجُرُّ رداءَ التصحُّر والتَّزبُّل.. ثم يا صديقي، لا ضير في أن تكون دولتُك على صورتك.. أما الشبقُ فإني سئمت ذريتك أكثر منك..”

رفع عزابليس بصرَه كأنما استرعاه شيء وصرخ:

“- يااااااه.. انظر.. انظر طائر السنونو!”

مُستبشرًا رفعَ فاسوخ الربيع بصرَه عاليا لينظر بشرى الربيع. لم ير سوى المزابل. بغتة أحس بألم فظيع تحت سُرَّتِه كحريق الخِتان وخرَّ مغشيا عليه. أفاق. لا شيخ ولا طير. وهل يكفي سنونو لحلول الربيع..

___

قاص مغربي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *