عن الموهبة والخبرة

*د. حسن مدن

عشية عام جديد سأل صحفي الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، أحد حملة جائزة نوبل، عما سيفعله في العام الجديد الوشيك، فأجابه بالتالي: «كما فعلت في السنوات الأخرى، فإني سأنشر كتاباً جديداً في الثلاثمائة وخمسة وستين يوماً القادمة. إني أداعب الكتاب، أزعجه، أكتبه كل يوم».

ليس هذا الجواب هو اللافت للاهتمام، فشاعر مثل نيرودا عرف بخصوبته الشعرية جدير بأن ينشر كتاباً جديداً كل عام.

مثله يفعل الكثيرون ممن حباهم الله الموهبة، كما يفعل الأمر الكثيرون ممن لم يحبهم الله أية موهبة، ولكنهم يدفعون إلى المطابع بانتظام كتباً لايقرأها أحد.

اللافت أكثر في الأمر هو ما قاله نيرودا في الإجابة عن سؤال تالٍ وجهه له الصحفي، عما سيعالج في الكتاب الذي ينوي نشره في العام الجديد.

بدا نيرودا حائراً في الإجابة وهو يقول: «ماذا أستطيع أن أجيب»، قبل أن يوضح: «يُعالج في كتبي الموضوع نفسه، دائماً أكتب الكتاب ذاته، فليغفر لي أصدقائي أن ليس ما أقدمه لهم في هذه المرة الجديدة إلا أشعاري، الأشعار الجديدة هي الأشعار نفسها». تواضع من شاعر عملاق مثل نيرودا قوله إن كتابه الجديد لن يحمل جديداً، فبعد صدوره أصبح الكتاب إثراء لتجربته الشعرية الغنية أساساً، ولحركة الشعر الإنساني، لكن إجابة نيرودا تحيلنا إلى مسألة أعمق، عالجها ميلان كونديرا في إحدى أطروحاته النقدية حول حقيقة أن لدى الكاتب موضوعاً واحداً يستغرق منه العمر كله، ويقوله في كتاب رئيسي من كتبه، فيما تأتي بقية ما يصدره من كتب تنويعاً على الفكرة نفسها.

صحيح أن الكاتب قد يقارب الفكرة من زاوية مختلفة في كل كتاب من كتبه، قد يكشف بعداً جديداً منها لم ينتبه له في كتبه السابقة، أو أنه، ببساطة، تعمد إرجاءه إلى كتاب جديد، لكن الفكرة المحورية تظل هي ذاتها.

لا يعني هذا أن علينا الاكتفاء بقراءة كتاب واحد من كتب هذا الكاتب، معتقدين أن لا جديد في كتبه الأخرى، ذلك أن الإمساك بجوانب الفكرة نفسها يقتضي قراءة الكاتب مكتملاً.

وغني عن القول إن الحديث هنا يدور عن الكُتّاب الموهوبين الذين نتوقع منهم تنويعات جديدة على الفكرة في كل كتاب جديد لم نعثر عليها في كتبهم السابقة.

ليست الموهبة وحدها ما يفعل ذلك، لخبرة الكاتب في الحياة فعلها، التي تجعله يرى ما لم يره من قبل.
___

*الخليج

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *