حسن داوود… شياطين الكتابة


لوركا سبيتي

لو أردتُ رسم وجهه، سيكون على الشكل التالي: عينان ضجرتان، تنعكسان على الناظر لهما، متعبتين بعض الشيء، انتفاخ ظاهر تحتهما يضعه في خانة الأرِق، (يستيقظ فجرا للكتابة كما سيخبرني لاحقا). فم لا يكاد يُرى مغطى بشاربين عتيقين (يذكّران فورا بشاربيّ ماركيز). شعر مجعد يقاوم الشيب ولا يفلح. لحسن الحظ أنه هادئ بشكل حزين، وإلّا مع كل هذا الخيال الطليق الذي يسكنه لسوف يغادر المرسى سريعا إلى مطرح بعيد في دواخله وسنفقده الى الأبد. إنه يرحب بي من على شرفة مخضرّة مليئة بالورود في الطابق الثالث. المبنى الضخم الجميل المطلّ على شارع هادئ بالرغم من وجود مدرسة قبالته، أشعرني بأني سأدخل بيتا واسعا مليئا بالتفاصيل. باب المدخل مفتوح كعادة بيوت القرى التي تنتظر ضيفا، رحب بي ببسمة متجاوزة للاحتياطات وقامة ممشوقة وكفّ لطيف. ألتقي بهذا الروائي منذ زمن، ولا أعرفه جيدا، الجديّة التي تبديها طلته تجعلني مترددة حياله، أسأل نفسي هل يتذكرني أصلا؟ يبتسم لي. اذاً عرفني. هل أعانقه عند السلام؟ هل أسأله عن حاله؟ عن جديده؟ عن كيف يقضي وقته بعد أن تقاعد من الوظائف التي مارسها، التعليم وقد قضى وقتا طويلا بين دوام الحضور ودوام الانصراف، والصحافة (إلّا من مقالات يكتبها في «المدن» الإلكترونية)، كاتب وصحافي ورئيس صفحة ومسؤول عن ملحق؟ هل اسأله عن صحته بعد أن مرض كثيرا؟ عن زواجه بعد أن تزوج طويلا؟. التقرب منه غيّر المعادلة، عبوسه تحول إلى ابتسام، الحديث معه ولو كان عابرا لا يشبه الأحاديث العابرة. إنه طيب الى حد كبير، ومنسجم حدّ الذكاء، وتلك النظرة الودودة غير الراضية يبان عليها محاولتها التأقلم مع شتّى أنواع التحولات التي تتحداه: عمره، شغفه، خوفه، ذاكرته، قلقه، وكتاباته.

ثقب في الذاكرة
الجدران لوحة كبيرة، معلقة عليها لوحات تكاد لكثرتها وتنوع مواضيعها لا تُرى، البيت يطغى على أثاثه اللون الكحلي، والكحلي في العادة لون غامق إلّا هنا، يظهر فاتحاً بشكل مبهج. على الطاولات أشياء ملونة، فازات وكرات زجاجية وتحف ومزهريات وأوعية وصحون وعلب، مرسوم عليها ورود ندية، كأنها تسقى، او كأن سيدة المنزل تشذّبها وتهتم بها. «ندى» تروح وتجيء بحركة خفيفة، تضع كوب الشاي المورّد أمامي، ومن ثم تأتي بعلبة شوكولا موردة أيضا، وبعد قليل تحمل إليَّ صحن طعام تود أن أتذوقه. كل هذا ولم يفارق الهاتف يدها، أصدقاء «المعلمة» كثر والاتصالات بها ازدادت بعد تقاعدها قبل فترة قصيرة. الزوجة البيروتية (باتت تتكلم في السياسة مؤخرا كما وشوشني الزوج) المؤيدة لـ «المقاومة» كريمة وطبّاخة ماهرة وصاحبة ذوق رفيع ورأي حازم وتحب «حسن داوود» أكثر من «حسن زبيب». تعارفا في كلية التربية وتزوجا وما زالا. البيت الذي استأجروه منذ 16 عاما ويشترونه الآن (جمع ثمنه من أرض باعها ومن التعويض الذي قبضه من «نوافذ» ومن بعض المدّخرات) راض عن أصحابه، تفاصيله تخبرني بذلك، الصالة مفتوحة على صالة مفتوحة على غرفة الطعام المفتوحة على غرفة حميمة (تذكر بالشتاء) فيها مكتبة خشبية تصل السقف، لا غبار يعلو الكتب، صور الأبناء والأحفاد تملأ المكان. وثيقتان مؤطرتان عتيقتان معلقتان على الحائط في الغرفة الخافتة، الأولى وثيقة لزواج جديّ مختومة بالختم العثماني والثانية كلمات صغيرة جدا بخط يده (قبل أن يهجر القلم الى الكي بورد) لمسودة صفحة من باكورة رواياته «بناية ماتيلد».الغرفة الصغيرة تفضي الى المكان الذي يجلس فيه أمام شاشة الكمبيوتر وراء مكتب خشبي تعلوه لوحة مكتوب عليها اسماء لمثقفين معروفين في بيروت وعلى الأسماء خطّ «ناجي العلي»: «كل عام وانتم طيبون».على يساره ستارة مسدولة تحجب ضوء الشرفة مطرّزة بعبارة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».
بدأ في عمر متقدم بالكتابة (في الثلاثين تقريبا) ربما كان قبل ذلك يتأمل ما يمرّ به، يكدّس الصور ويراكم المشاهد ويراقب الأحداث، يكبّرها ويعود يقزّمها حتى تصير أصغر منه فيفترسها. ربما كان يستمع إلى العتمة قبل أن يبدأ الضوء بالخروج منه لاختراق الأشياء، شعاعات واصلت سقوطها حتى شكلت ثقبا في الذاكرة خرجت منها كل هذه الحكايا: من «بناية ماتيلد»، وحتى «نقل فؤادك». منذ طفولته كان منفصلا عن البيت في كيف تدار الأمور وتتبع القوانين وكيف يلبس إخوته أو يتكلمون، كان طفلا ذا انتباه شديد للأشخاص الذين على علاقة مع الأدب بأي طريقة كانت، يراقب كلامهم وسكوتهم، كانوا أبطاله. أراد ان يصير كاتبا ووعى إرادته تلك وأحسّ ما معنى الانفراد بكتاب والعيش فيه. أحبّ القراءة فتميز بعلاقته الغريبة مع الكتب في بيت لا كتب فيه ولا قرّاء، عمل على خلق نواة مكتبة من بعض الكتب التي اشتراها من مصروفه. من «الصنايع» حيث أقام مشى حتى «وسط البلد» ليتأمل الكتب ويشتري ما يقدر عليه. فكان أول كتابين اشتراهما (ولم يكونا مناسبين لعمره) كتاب «في طريق الكفاح» لـ «رياض طه» و «بين بين» لـ «طه حسين»، من ثم اشترى ثلاثة مجلدات لـ «المتنبي» دفع ثمنها 16 ليرة (ثمن حذاء آنذاك) أخذها من والده، ما زالت بلونها الأحمر تعلو رفّ مكتبة المنزل الذي يقيم فيه. لا يعرف من أين أتته هذه الرغبة. يقول بفرح طفولي: «ولدت من لا مكان، من لا رحم». قال لي وفي عينيه شيء من حنين بأنه دوما هناك أحد ما يأخذ بيدنا دون أن يعرف ونعرف حتى إلى المكان الذي نود وسنكون فيه ولو بعد حين. يتذكر «حسن» الكبير «حسن» الصغير ذاك الطفل المديني الذي كأنه يزور قريته الجنوبية «النميرية» في العطل والمناسبات ويستعيد انبهارا لطالما أحسه بـ «السيد الأمين» قارئ التعزية، بلغته الفصحى البليغة والقصائد التي كان ينظمها والسرد الذي أتقن فنه. إنه المؤثر الأول.
بناية ماتيلد
كبر وترعرع في بيروت في منطقة «الصنايع» في بناية ناسها متعددو الجنسيات والطوائف في شقة تطلّ على الحديقة الكبيرة، شجرات الكينا تلقي عليه تحية الصباح يوميا (كتب في ما بعد عن هذه البناية رواية بأكملها) الناس كانوا مدينين اكثر من عائلته بعاداتهم وبمظهرهم وبسلوكهم. لقد كانوا فقراء البناية عاشوا أكثر من عائلة في الشقة ذاتها. بوصولهم انحدر «المستوى» فغادر بعض الساكنين (القول له). كان والده فرانا او فلنقل بمعنى أدق يعمل في فرن يمتلكه، وهذا الفرن يوقع في شارع «بلس» مقابل الجامعة الأميركية. زبائن الفرن المتعلمون من تلامذة ودكاترة وأطباء ذكّروا الأب بطموحه وبحبه للعلم الذي لم يستطع اكماله ربما لسوء الأوضاع الاقتصادية وحاجته للعمل حينها، ولا بد من الإشارة الى أن النزوح (اواخر الأربعينيات) الى بيروت من القرى الجنوبية وغيرها كان بمثابة الهجرة الى الخارج فالحياة في المدينة احتاجت للكثير من النضال حتى كادت تكون مغامرة. اذا تأثر الأب بالمتعلمين وراح يقرأ كتب الطب العربي ويعالج جيرانه وتعمق في الروحانيات (وذاك ما لن يستطيع المتعلمون خوضه) وبدأ بتحضير الأرواح!. يخبرني «حسن داوود» قصة أبيه وهو شبه ضاحك، ضحكة مريبة اشعرتني أنه لم يكن معجبا به وهذا ما انكره ولكنه اعترف بأنه لم يعجب بأمه التي كانت ضعيفة الشخصية متعبة لكثرة الأطفال الذين أنجبتهم وربتهم، عاشت في بناية فيها الكثير من النسوة إلّا أنها لم تستطع اختراق حواجز اختلاف العادات والتقاليد فبقيت وحيدة. كان ينتقدها وهو بعد صبي ويهاجمها حتى أبكاها ذات مرة. وحين كبر وبدأ يعي عذاباتها كتب «لعب حيّ البياض» (الحيّ الذي ولدت فيه في مدينة النبطية).
كبر الصغير وتعلّم وعلّم وحبّ وأحبّ وثار وتمرد وتحزب ولكنه لم ينس حلمه القديم بأن يصير كاتبا. اول ما فعله في هذا الصدد غيّر اسم عائلته من «زبيب» الى «داوود» لقد كان في البداية سببا إجرائيا اذ كان ممنوعا عليه الكتابة بإسمه ولكنه لم يستسغ كلمة «زبيب» أصلا (ربما ضحك عليه زملاؤه في المدرسة). اذاً ناداه الجميع بإسم «حسن داوود» ووقع به رواياته والمقالات الصحافية. عمل في الكثير من الجرائد اللبنانية وكان حرا (كما أكدّ) في مقالاته على الأقل، ومن يتابع ما كتب في نوافذ (جريدة المستقبل) سيلاحظ بأنه لم يكتب ما لا يرضيه رغم أنه نشر (لآخرين) مقالات لم يرض عنها. «لا صحافة حرّة في لبنان فجميع الصحف مموّله من جهة تنحاز إليها» قالها وشعور بالأسف يحرك قسماته وتابع: «بتنا نتوقع ماذا ستعلّق الجريدة على حدث حصل وكيف ستحلله». يرى «داوود» أننا قد لا نتقن استعمال الحرية لو اعطيت لنا لأننا تعودنا على مدى العمر العمل في الصحافة المنحازة والمكبلة، فبتنا لا نعرف الحدّ الفاصل بين وجود الحرية أو عدمها، وهذا جرى تكييفه عبر وسائل وطرق وممنوعات ورقباء كثر والكاتب قد تقولب مع هذه الشروط وتكيّف معها والأخطر من ذلك صار يشعر بأنه بخير. حتى الرواية يعترف صاحب «مئة وثمانون غروبا» بأن في كتابتها قدر من الانتباه لما هو ممكن ولما هو غير ممكن اجتماعيا او دينيا. راوي «لا طريق الى الجنة» يكتب منتبها، واللاحدود عنده نوع من الخلط المزاجي، فالانطلاق الكامل ليس موجودا إلّا في حالات تراجيدية عبر التاريخ. «المشكلة تكمن في تناقص الحرية في بلادنا حتى لم يبق منها حتى قليلها بسبب السطوة الدينية والسياسية وسيطرة الإيديولوجيات». يتأسف على الأعمال الأدبية التي صارت تقاس بدرجة شجاعتها وليس بدرجة ابداعها، بدرجة كسرها للحواجز الثقيلة ولـ «التابوهات» وليس بالحساسية التي كتبت فيها.
الوحدة
كاتبنا لا يستطيع العيش وحيدا، يخاف الوحدة (بعكس الكتّاب عادة) ولا يحبذ النوم في بيت فارغ من الناس. مع العمر قلت مزاجيته وكثر خوفه من الموت الذي كان يصيبه بنوبات تشبه الانهيار العصبي، ولإبعاد هذا الهاجس قرر الكتابة عنه. أصيب بمرض قاتل كان يعتقد قبله بأنه لن يمرض (كما جدّه). لم يعرف أحدا نجا من هذا المرض لذا حضّر نفسه له وعاش فترة طويلة مع كمية من الألم والأفكار والأسئلة والقلق الصعب وانتظار لحظة الحسم. يا للمفارقة، الخائف دوما من الموت وقف معه وجها لوجه. كأن بهذا الغامض المهيب اراد تقويته، إفهامه بأن التقدم في العمر مكسب وليس حزنا، تعريفه بمعنى التفاؤل والنصر. صار «حسن داوود» أسرع الى البكاء حيال أحداث تصيب الناس، صار عاطفيا يكترث للجميع، وصار مسالما ودودا ويصغي لجسده ويهتم به. يرشف القهوة ويحاول تذكر بيتين من شعر «المتنبي» عن العمر ولكن ذاكرته تخونه. كان في ما مضى يحفظ أطول القصائد وكميات هائلة من الأشعار، يتذكر حين طلب منه «جوزيف سماحة» قصيدة «أحمد العربي» وهي تكاد تكون كتابا ألقاها غيبا. حتى «محمود درويش» نفسه عرّف أصدقاءه عليه ذات سهرة بـ «مجموعتي الكاملة».
بعد تقاعده تضاءل الوقت المخصص للكتابة فصار مترددا حيالها كتردد القافز الى الماء، الانتقال من عالم الهواء الى عالم الماء يحتاج «قفزة». كأنه حين ملك وقته تكاسل وتعب من تنظيم اللاشيء. كأن للكتابة كما للصلاة شياطين تلهيك عنها، كأن الكتابة تحتاج عنادا وكسرا للرغبات التي لا توصل اليها. وكأنها تصنع بحساسية عالية ايجابية وباذخة، كأنها عملية مائعة خفية وليست، مرنة مطيعة وليست. وكأنك فيها (ويجب أن) تضع نفسك أمام شيء لم يره أحد من قبل، وترى الجمال في غير موضعه المحدد قبلا والظلم في غير مكانه وترسم العالم بغير ريشة وان تعبّر عن هذا كله بطريقة غير معبّر عنها. لم يثق «حسن داوود» بالصحافة يوما ولكنه وثق بالكتاب الذي لا يموت ويظل حاضرا لا يتحكم بخلوده أحد غيره.
بالرغم من أن الكتاب قد لا يعطي صاحبه كامل حقوقه، فـ «تعطيه كلك ولا يعطيك بعضه» كما يقول «حسين مروة»، ولكني أظنه السبيل الوحيد للشعور بخيبة أقل وللنظر للحياة من نافذة أوسع قليلا من العين نفسها.
السفير

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *