خاص- ثقافات
*مرزوق الحلبي
هل يصلح القاموس وحده لتعليمك اللغة؟ أجترح هذا السؤال من اهتمامي بموضوع تدريس اللغة العربية كلغة أم. وهو سؤال مرتبط بمشاهداتي كلما حاضرت عن وظائف اللغة الأم أمام طلبة المدارس ووقفت على الصعوبات التي تعترض تدريس اللغة العربية، أو كلما شاركت في حلقة دراسية تتصل بالهوية واللغة.
غير مرة قُلت أمام الطلبة ومدرّسيهم أن مدرّسي اللغة أنفسهم قد يكونوا جزءً من مشكلة تدريس اللغة العربية وليس جزءً من الحلّ. وغير مرة لم يرُق كلامي لبعضهم ولم تُهدئ من روعهم محاولاتي شرح موقفي. وهو ما سأفعله هنا راغبا في الإجابة على السؤال المطروح. لن أكتفي بذلك بل سأحاول أن أطرح أفكارا قد تشكًل حلًّا أو مدخلا لحلّ.
اكتشفت ضمن دراستي ومتابعاتي لهذه المسألة أن مُعظم المدرّسين ـ ومدارسهم معهم ـ غير منتبهين لحقيقة أن طلابهم صاروا ثنائيي اللغة. بل أن هناك لغتين هامتين بالنسبة للطالب ـ والمدرسة ـ تنافسان اللغة الأم على قلب الطالب. فالعبرية هي لغة الحياة في الحيز العام والأكاديمي والإنجليزية هي لغة إلزامية في الحيز الأكاديمي والعالم. بمعنى، أن موازين القوى بين اللغات التي يتحرّك فيها الطالب (والمدرسة والمُجتمع) تميل في غير صالح اللغة العربية. فإذا تصورنا العلاقة بين اللغات الثلاث ضمن هرم فسنجد أن مكانة اللغة العربية في أسفله وأن العبرية كلغة الحيز العام والأكاديميا تحتلّ المكانة الأولى تليها اللغة الإنجليزية أو قد تتبادل الأخيرتان الموقع. في كل الأحوال، تبقى اللغة العربية في المرتبة الثالثة. وهذا حاصل بقوة الشروط الموضوعية وحقيقة النظام التراتبي بين اللغات الثلاث في حياتنا هنا. وهو، واقع يشعر به الطالب ويتعامل معه بدافع مصالحه في أن يضمن لنفسه مسارا سالكا في الحياة وفي الأكاديميا حيث الهيمنة للغتين العبرية والإنجليزية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الطالب يأتي إلى هذا الواقع وينشأ فيه دون أن تكون لديه أية مسؤولية عن وجود هذا الواقع أو أي سيطرة عليه. وهو ليس من مسؤولية المدارس أو مؤسسات التعليم، أيضا. ومع هذا حدث أن شاهدت كيف تحمّل المدرسة أو مدرّس/ة اللغة العربية مسؤولية هذا الواقع إلى الطلبة. وهو يحصل من خلال البثّ أو من خلال الكلام الصريح، أيضا. فكثيرا ما سمعت من المدرّسين والمدرّسات تعابير تنمّ عن عدم فهم الواقع أو مراعاة مصالح الطالب كما يفهمها ويشعر بها على جلده. فنسمع مثلا: “عيب ما تعرفش لغتك” أو ” إذا ما بتعرفش لغتك مش راح تعرف ولا لغة” أو “لغة الأم عيب ما تعرفهاش”، وغيرها. يترافق هذا الاتهام مع توجّه في تربية الأقليات يركّز على المسارات العلمية النظرية أكثر من تلك الاجتماعية الأدبية. فهناك سعي حثيث لتحضير الطلبة إلى حجيج نحو مِهن مرموقة كالطب والمحاماة والهندسة والحاسوب ـ كجزء من موازين القوى ذاته بين الثقافات وامتلاك مفاتيح للحراك وتحقيق الذات على نحو مُربح ومدر للدخل الوافر.
في مثل هذا الواقع يصير تدريس اللغة العربية هامشيا بالفعل وإن كان الكلام مُعاكسا. أو أن تدريسها يصير لغرض استثمارها بمآثرها ودُررها في إخراج مناسبات مدرسية أو لتزيين الجدران! وهكذا، تصير اللغة العربية موضوعا تراثيا كالفولكلور أو التاريخ الشفوي والذاكرة الجمعية. بمعنى أنها تصير منبع حنين ورومانسية ترتاح فيها الضمائر ويكتسب فيها المدرّس والطالب والمدرسة شعورا بالراحة والرضى عن النفس. المكانة المتدنية للغة في الدولة ـ مقابل العبرية والإنجليزية على الأقلّ ـ تُترجم إلى موقع مهمّش في المدرسة، أيضا، ومن دوافع لا يصرّح بها أحد وإن كانت تتمّ باتفاق ضمني بين الجميع بالسكوت وغضّ الطرف. وهو ما يلتقطه الطالب في المدرسة العربية ويذوّته. ومِن عادة الطلبة أن يلتقطوا هذا البثّ على موجة هادئة أكثر من اقتناعهم بالكلام العالي.
لقد طالعتني هذه الحالة في كثير من المواقع التي زرتها محاضرا أو في إطار عملي الاستشاري. فلا أذهب إلى مدرسة إلا وفي جعبتي استمارة تتضمن أسئلة حاثّة على التفكير تتمحور في معظمها حول علاقة الطالب العربي بلغته الأم وتحاول أن تؤشّر له أنني أفهم المصاعب وأتفهّم اعتباراته وموقفه، وأنني لا أحمّله أية مسؤولية عن واقع هو إلى حدّ كبير وفي هذه السن ـ ضحية له. يُسهّل التواصل مع الطلبة من هذا الموضع علي عادة إقامة حوار صريح معهم ويفتح أمامهم أبوابا كان أغلقها مدرّسو اللغة العربية بعشرة أقفال. من هنا يصير الحوار حميما ومؤثّرا وقابلا للتطوير نحو حالة فهم وإدراك وهو بداية التغيير. عندما يُدرك الطالب أن للغة وظائف، وأنها قد تعيش في حيّز وتغيب في آخر وأنها مرتبطة باللغات الأخرى بموازين قوى قد لا تنصفها ولا تُنصفه، وأن هناك سياسات لغوية، وأن اللغة حيز ومورد وثقافة وهوية فإنه سيفهم طبيعة علاقته بلغته ومنابع هذا الشكل أو ذاك من العلاقة وكيفية تطوير هذه العلاقة من خانة الإشكال أو الصعوبة إلى خانة الود أو الحبّ.
من العقبات الأخرى أمام تدريس اللغة العربية هي ذاك الجمود ـ وقد نختلف في فهم أسبابه ـ في بُنية المادة ونصوصها المختارة (في الكتب للصفوف العليا التي عاينتها). فهي محكومة لتوجّه متقادم يركّز على الكلاسيكيات أو يُعطيها الأولوية علما بأن اللغة العربية في راهنها هي لغة مغايرة، وأن النصوص الحديثة المتداولة هي ليست تلك الكلاسيكية المُمْعنة في ابتعادها عن الطالب وعالمه. حتى أن إخراج الكُتب التدريسية ونوع الفونت/الخط المُستخدم يوحي بأنها آتية من زمن مضى ولا علاقة لها أبدا بثقافة الصورة والفنون البصرية على نحو يبعث الغُربة بين الطالب وبين كتابه وما يحتويه. لكن الأهم هي الغُربة المزدوجة بينه وبين النصوص الواردة فيه. فهي على الغالب خاضعة لرقابة ذاتية بسبب رقابة الجهات الرسمية. وقد تكون متصلة بتراث أو ثقافة دون البُعد الهويتي للطالب أو هي بعيدة عن عالمه كفرد في عالم افتراضي مليء بالمرئيات والصور والأحداث. تبدو كتب التدريس مقطوعة عن سياقها لا تتلاءم مع الزمن الذي يعيشه الطالب وإن كانت مُستقاة من زمن واضع الكتاب والمجموعة التي اختارت النصوص. وهي تُعطي انطباعا بحصول عملية “قص وألصق” و”زِد على الموجود نصًا هنا وقصيدة هناك”. رغم ما يُقال عن اهتمام ومراعاة مهنية في وضْع كتب التدريس في العقدين الأخيرين إلا أنني على اعتقاد بأن ما حصل غير كاف أو أنه لا يُصيب الهدف.
عليّ في هذه المرحلة أن أميّز بين معرفة اللغة وبين الوعي باللغة ووظائفها لأصل إلى الإجابة على السؤال الأول. يبدو لي ـ من مشاهداتي ومن حوارات مع طلبة المدارس ـ أن مدرّسيهم إنما يشتغلون معهم على معرفة اللغة كأنها مادة لا سياق لها ولا واقع. وهكذا ـ يكونون كالقواميس التي تشتمل على عشرات آلاف الجذور والاشتقاقات والألفاظ غير المستعملة في غالبيتها العُظمى. لأن اللغة ليست مفردات أو قواعد من صرف ونحو فقط. وكل محاولة لحصرها في كونها كذلك يعني أن تنشأ عندنا أجيال لا تعرف لغتها الأم إلا كلغة ثالثة أو رابعة خاصة إذا أخذنا بالفارق الهائل بين اللغة المحكية وتلك المعيارية الفُصحى. فاللغة كائن حي له وظائفه وخاضع لعملية تطور وتطوير، ينقص في ناحية ويزيد في أخرى، تتساقط منه ألفاظ وتولد أخرى، تموت أجزاء قديمة فيه منه وتنمو واحات جديدة. لعلّ أكثر ما يُغيظني في هذا السياق تلك المسحة المقدسة التي يُسبغها البعض على اللغة العربية كأنها أقدس اللغات وآخرها. أو ذاك الحديث الرومانسي عن سِعة اللغة العربية وترامي أطرافها. وهي أحاديث ـ أقلّ ما يُقال فيها أنها غير علمية البتّة وأنها مجرّد أسطورة. بل يصير القائلون بها هم أكثر الناس أذى للغة وكيانها ووظائفها المتعددة والمتحوّلة لأنهم يستعملونها لصدّ كل تغيير أو تحديث.
إن مدرّسا يقوم مقام القاموس الجامد المقطوع من سياقه الممتنع عن فهم السياسات اللغوية وموازين القوى بين اللغات لن يستطيع أن يعلّم اللغة العربية للطلبة العرب. وأكثر ـ من المعروف في تدريس اللغات أن إجادة لغة ما تكتمل حين يتمكن المتعلّم من النُطق والقراءة والكتابة بها. من هنا، أعتقد أن أحد مفاتيح تطوير تدريس اللغة العربية يكمن في انتداب المُبدعين في الشعر والنثر والصحافة لتدريس اللغة العربية في مدارسنا باعتبارهم مُنتجي اللغة والأكثر استعمالا كتابيا لها. في مُعظم حالات تدريس العربية بأيدي مُبدعين كان للتدريس قيمة إضافية لا يزال يشعر بها الدارسون إلى اليوم، أسهمت في إقامة علاقة حميمة بين اللغة ودارسيها. وعليه، فإن اقتراحي إيكال المهمة لشعراء تقترن بشكل صميمي باقتراحي أن يتم اختيارهم بدقة لأن في المشهد اللغوي كُثرة من المنتحلين والمنتحلات وقلّة من المُبدعين والمبدعات.
في الختام لا بدّ من التشديد على حقيقة أن اللغة ـ أي لغة ـ هي في راهنيتها وجديدها لا بقديمها. بحيويتها وحركتها لا بجمودها. واللغة الحيّة، هي تلك المتداولة يوميًا، وهي الأقرب إلى المتعلّم والأكثر قُدرة على التواصل معه. مِن هنا، أهمية أن ينتقل مركز ثقل تدريس اللغة العربية إلى النصوص الراهنة شعرا ونثرًا وصحافةً. اللغة تُدرّس من آخرها إلى أوّلها، من حالتها الأخيرة نحو حالتها الأولى وليس العكس.
__________
*شاعر وكاتب فلسطيني