حدس المبدع

*د. حسن مدن

ما أكثر ما يسبق الأدب والفن العلوم والمعارف الاجتماعية المختلفة مثل علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد في الإمساك بظواهر وقضايا تكون لحظتها قيد التشكل، أو أنها تشكلت بالفعل، ولكن مفاعيلها لم تظهر بصورة كافية.
من التشبيهات البليغة التي قرأتها لهذا الأمر، هي تلك التي تصف دور الفن والأدب في هذا المجال بجهاز كشف الزلازل الدقيق، حيث يتحسسان ويشيران، قبل أي شيء آخر، إلى كل تغير في الجو الروحي لعصرهما، ويختلفان بذلك عن المعرفة النظرية التي تقتفي، بالمعنى الشائع، آثارهما، حيث تقوم بدراسة آثار ومفاعيل الظواهر التي كان الفن والأدب قد تنبئا بها، في اللحظة التي كانت نذرها، بالكاد تظهر.
في عبارات أخرى يؤدي الفن والأدب دور النبوءة، بالتحذير، أو التبشير، تبعاً للحال الملموسة، من القادم أو به، فيما تبدو العلوم والمعارف الاجتماعية تالية لهما في رصد وتحليل ما نجم من آثار مما كان الفن والأدب قد نبها إليه قبل فترات، قد تكون طويلة.
فما أكثر ما نجد في نصوص روائية أو قصصية أو في أبيات شعرية تحذيرات من مخاطر قادمة، سرعان ما نجد تجليات لها بعد حين.
وهذا لا يعني بالضرورة أن كتابها كانوا واعين تماماً لما سيأتي، ولكن بصيرتهم في هذا آتية مما يمكن أن نطلق عليه حدس المبدع الذي يعينه على أن يرى أبعد مما يراه الآخرون.
يحضرني في هذا السياق تعليق نقدي قرأته قبل سنوات حول رواية قصيرة وجميلة للأديب الروسي فالنتين راسبوتين اسمها: «الحريق»، كتبت في أواخر العهد السوفييتي وتصور حال بلدة روسية نائية يشب فيها حريق واسع يأتي على ما فيها من بيوت وحقول.
ويصور الكاتب ببراعة السلوك المتناقض للسكان في تلك المحنة، فحين أظهر بعضهم الشهامة والمروءة والشجاعة في التصدي للحريق مظهرين ما تشف عنه ذواتهم من نُبل، فإن آخرين أظهروا الخسة والدناءة وعملوا على الاستفادة من الكارثة في تعظيم أموالهم.
كاتب ذلك التعليق النقدي قال إن الرواية بما أظهرته من خواء في النفوس وتصدع في القيم كانت بمثابة نبوءة لما حل على البلد كلها بعد ذلك.
والمؤكد أن كاتب الرواية لم يكن يتوقع أن يحل بوطنه ما حل به تماماً، ولكنه كان يرى أنه إذا ما استمرت الأحوال على ما هي عليه، فإن مصيراً بائساً هو ما ينتظره الوطن.
للأدب والفن عينان، واحدة على الواقع الخارجي، والثانية على ما يعمل داخل النفس الإنسانية من تمزقات وصراعات، ساعياً للكشف عن العلاقة بينهما. لذلك تأتي شهادتهما أعمق وأصدق وأبعد بصيرة.

________

*المصدر: الخليج

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *