إقليم الحليب

خاص- ثقافات

*محمود شقير

       حلّ في الدار البيضاء، فانبهر بليلها وبكثرة نساء الشوارع فيها. أمضى بقية ليله مع امرأة التقطها دون عناء، أخبرها أنه على سفر، فانسلت من جواره مع الفجر بعد أن سرقت محفظة نقوده بما فيها من دنانير معدودات، فارتحل دون أن يلوي على شيء قاطعاً الشمال الإفريقي على رؤوس أصابعه، حفاظاً على نعلين جديدين اشتراهما في طنجة، وخوفاً من إزعاج أولي الأمر الذين لا يأوون إلى فراشهم إلا في ساعة متأخرة من الليل.

       صلّى ركعتين في قاهرة المعز والنعلان تحت بصره لا يتحول عنهما قيد شعرة، ثم فكّ وضوءه قرب سور في مقاديشو، فتعقبه سيّاف القصر لخروجه على الآداب المرعية، ففرّ على ساقيه حتى حاذى البحر، وهناك فكّر قليلاً، فلم يشأ أن يضرب بعصاه البحر لأنه لا يملك عصا في الأصل، فاستعان برياضة القفز الطويل. فإذا هو في شبه الجزيرة.

       قرر أن يقضي ليلته فيها كي يعتمر، غير أن برد الصحراء أقضّ مضجعه، فآثر المضي فوق الرمال، وظلّ كذلك حتى غادرها، ثم وصل بيته في ظهيرة أحد الأيام.

       لم تأبه زوجته لقدومه في بادىء الأمر، فكأنما اعتادت أسفاره الكثيرة التي لم تعد عليها بأية فائدة، ظلت مقرفصة فوق إناء الغسيل، ينحسر ثوبها عن فخذيها والأولاد يملأون البيت صخباً وضجيجاً. جلس ساكناً كما لو أنه يستمتع بالقيلولة بعد غداء ثقيل، وتذكر المضابط التي وضع عليها بصمة إبهامه مع كثيرين  من أمثاله، احتجاجاً على سوء الأحوال، حتى جلبوه مرة إلى المخفر فأخبروه أن بصمته تهدد باقتلاع الحكومة من أخمص قدميها، فعليه والحالة هذه أن يتوقف عن ذلك، فانفجر ضاحكاً كمن حلّت به الهستيريا، فلم يتوقف حتى أكرهوه على ذلك، فلاذ بالسكوت مكرهاً.

       تململ في جلسته كأنما ليطرد هذا الخاطر المزعج، ولاحظ أن ثوب المرأة قد انحسر ضعفاً آخر منذ أن دخل البيت، فاعتقد أن الأمر عائد إلى اهتزازات جسدها فوق إناء الغسيل، ثم حينما رآها ترمقه بطرف عينها أيقن أن فترة غيابه قد طالت هذه المرة، فأشار عليها أن تصرف الأولاد إلى الخارج لأنه يريد أن يستحم.

       رحبت بالفكرة فوراً، ولم يبق معهما في البيت سوى الرضيع الذي ما لبث أن استيقظ في وقت غير ملائم، فتحركت بجذعها وألقمته ثديها. لم يعرف الرجل أنه كرّر مأثرة امرىء القيس مع معشوقته، فهو لا يقرأ ولا يكتب، ولن تصبح فعلته جزءاً من التراث لأنه لا يقرض الشعر.

       غفا الرضيع من جديد والحليب يسيل من زاوية شدقه، سحبت المرأة ثديها، فاغتبط الرجل وهو يرمقها، واعتقد لوهلة أنه يجوس في إقليم خصيب يحيا أهله على الحليب، فكّر بالاقتراب من المرأة كرّة أخرى، غير أن قبضات الأولاد انهالت على الباب، ثم انتشروا في الداخل كالجراد، التهموا كل شيء في البيت حتى لم يبق سوى الملح والماء وبعض الأثاث وقليل من الحليب في ثديي المرأة.

       أمضى الرجل أياماً وهو يفكر. ولأن توقيع المضابط ممنوع منعاً باتاً، فقد حشر قدميه في نعليه، وارتحل من جديد.

____________

*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *