سير الأمراض

* أمير تاج السر

منذ سنوات عدة، كنت في دولة عربية، أستعد للتقدم لامتحان مهني في تخصصي. كان لا بد من رؤية عدد من المرضى الذين يعيشون بأمراض مزمنة أو نادرة، ومن الممكن جدا أن تمر إحدى حالاتهم في الامتحان، وينبغي التدرب على فحصها وتشخيصها، بلا أي صعوبة. كان الذين ينوون التقديم لامتحان كهذا، يقضون أشهرا في العمل الشاق، ويحاولون أن يلموا بكل ما يمكن أن يكون حالة مرضية، بأعراض وعلامات كثيرة.
قبل الامتحان بيومين، عرجت على أحد المستشفيات الرئيسية في المدينة، صحبة زملاء يقيمون هناك ويعملون، وفيهم من كان سجل للامتحان نفسه. في العنبر الذي دخلناه، كان ثمة شاب في الثامنة والثلاثين، كان مصابا بشلل كامل في قدميه، وغير قادر على المشي أو التحرك بلا مساعدة، ومقعد متحرك، وكان في الحقيقة جذابا واجتماعيا، وأبدى استعداده التام ليكون معنا لأي وقت نريده، ما دمنا سنستفيد من حالته، وكانت من الحالات التي ليست نادرة جدا، لكنها ليست متوفرة بكثرة أيضا، إنها حالة التصلب المتعدد أو «ال أم. أس» كما يسمونها، وتصيب غالبا في سن مبكرة، ربما عشرينيات العمر، أو أوائل الثلاثينات.
كان الشاب قد درس علم الفندقة في دولة أوروبية، وعاد إلى بلاده ليعمل في ذلك المجال السياحي الذي أحبه، كان قد أحب فتاة من غينيا، قال بأنها جميلة وواعية، وتحمل كل بذور السعادة التي أرادت أن تزرعها في حياته، كان يحكي بترف وأنا أستمع بترف، وأحس بالتأثر حين لم يتحقق أي حلم من أحلامه العديدة التي جاء يحملها معه، لم يرتبط بالمحبوبة الغانية التي كان على موعد معها لتقاسمه الحياة، لم يعمل في أي ركن سياحي، ولا وصل إلى عتبة فندق من تلك المرصعة بالنجوم التي حلم بإدارتها، وفي أول أيام وجوده بعد العودة، فقد بصره فجأة، ثم عاد البصر من جديد، أصيب بشلل فجأة، وعاد إلى المشي من جديد، وحين شخص بالتصلب المتعدد أو ال أم أس، لم يكن يعرف في ماذا علق؟ إنه مريض فعلا، لكن لماذا يهجم المرض فجأة ويذهب؟، وهل لتلك الأعراض الغريبة علاج؟
كانت الرحلة المرضية طويلة، فلا علاج قاطع للتصلب أبدا، وكلما ازدادت ضراوته، حقن بالأدوية المخففة للضراوة، ثم استمر في أدوية عادية، لن تحمل المرض بعيدا، ولكن قد تطيل أمد الوجود المزري بأقل قدر من الآلام. خلاصة الأمر أن الشاب لم يعد شابا طموحا، ولكن أداة معرفة مؤلمة، وسخية، يمر به الطامحون في التعلم، ويعلمهم جسده المريض. كانت أقصى أمانيه في تلك الأيام، أن يمشي على قدميه وأن يذهب إلى دورات المياه بعيدا عن الحفاظات، وأن لا يؤلمه التشنج الجسدي كما يحدث الآن. لقد أنفقت وقتا طويلا عند ذلك المريض الرائع الاجتماعي المبتسم، أخذت أتأمله كجوهرة، وخطر لي أن سيرة حياته إن كتبها، لربما كانت منهاجا مختلفا في التعلم من الآلام، والحياة بصحبتها بلا ضجر كبير، فليس من السهل أن يفقد شخص حياته وهو حي، ولا تحس وأنت تخاطبه أنك تخاطب شخصا في جسده حياة مهزوزة، وكان لدهشتي أن سمعته يقول بأنه سينشر سيرته هذه مرتبطة بسيرة المرض، وأن هناك من يزوره بصفة منتظمة لينقل إحساسه، ويسجله على الورق، عسى أن ينشر يوما، ثم سألني فجأة:
هل تعتقد أن السيرة الذاتية لمريض، من الممكن أن تهم أحدا؟
كان سؤالا جيدا، ومن الأسئلة التي تعود القراء على طرحها من حين لآخر، ليس السيرة الذاتية لمريض فقط، ولكن حتى السيرة الذاتية لزعيم، كان موجودا في زاوية ما، معتمة أو مضيئة من زوايا التاريخ.
حقيقة شجعته ولم أكن متأكدا إن كانت سيرة التصلب المتعدد، يمكن أن تجذب إليها قراء، فقط أعجبني النهج المتقدم في تفكيره، الذي يقترب من النهج الأوروبي، بأن كل ما يحدث للإنسان يدون، بحرص، حتى لو لم ينشر ذات يوم، فنرى المريض يكتب معاناته بكل سخاء، ربة المنزل المغتاظة أو السعيدة، تكتب غيظها وسعادتها بكل أريحية، متسلقي الجبال يكتبون رحلتهم من ساعة أن استعدوا حتى، وصلوا قمة الجبل وعادوا، وهناك سير لأشخاص فعلوا شيئا جيدا أو شريرا، وجدت إقبالا كبيرا في الغرب، منها سيرة قناص بغداد الأمريكي، الذي تحول كتابه إلى فيلم سينمائي. وقرأت كتابا عن مرض التوحد، كسيرة ذاتية لطفل، كتبته أم، محاولة أن تقدم تجربة رأت أنها جديرة بأن تقدم للناس، وهناك كتاب إبداعي، سيري، عن مرض باركينسون أو الشلل الرعاش، بقلم طبيبة هاجمها المرض، وكتبت هجومه المبكر، قبل أن يصبح معولا جبارا، يقضي على حياتها تماما.
إذن، هل يحق لنا كتابة معاناتنا بالقدر نفسه الذي يحق لنا أن نكتب المفرح والجالب للمرح في حياتنا؟ لا أتحدث عن الرواية بالطبع، ففيها كل شيء ما دامت عملا متخيلا لا علاقة له بالواقع إلا في فقرات ضئيلة، ولكن السيرة الشخصية، أن نركز مثلا على ارتفاع ضغط الدم، نكتبه منذ أن بدأ صداعا حادا في مؤخرة الرأس، وحتى أصبح نزيفا في المخ، أو جلطة تعيق المشي والكلام، أن نركز على مرض السكري، من أعراضه الأولى التي تأتي في شكل عطش وعطش، ومحاولة ارتواء، وتبول غزير، وحتى يقضي على البصر والأعصاب، ويضعف القلب والكلى، هل من الممكن أن تهم سيرة إبداعية مكتوبة عن أمراض لئيمة وباطشة كهذه، أحدا في بلادنا؟
أعتقد أن القراءة عندنا لم تصل بعد إلى مرحلة، تحمل سير الآلام التي تفرد لها الكتب، ويمكن للمرض المنهك أن يأتي صفحات في سيرة ذاتية لمبدع في أي مجال، يتحدث عن حياته عامة، فإن كان زعيما سياسيا أو كاتبا معروفا أو نجما من نجوم الفن، ستصبح سيرته عملا مطلوبا بشدة، فلا داعي للانفراد بالتصلب المتعدد وسبه ووصفه بألفاظ سيئة، أو حتى مجرد وصف اعتدائه، فالذي يريد أن يعرف عنه شيئا، سيجده في النشرات الطبية التي تخبر عنه كل شيء، وتدعو الناس لاستشارة الطبيب بمجرد الشعور بأي عرض من أعراضه، وكذا الأمراض الأخرى التي تصيب الشخص وحده ولا تؤثر على أهل بيته أو مجتمعه، لتصنع منها دراما تحكى في السير.
حقيقة لم أسمع بكتاب نشر عن التصلب التعددي لذلك الشاب الذي ذكرته أو غيره، ولا أتوقع أن يكون ثمة كتاب كهذا، نحن الآن نكتب الروايات المتخيلة بغزارة، وقد نلتفت لكتابة المصائب في يوم ما، حين يصبح لدينا قارئ، مستعد للاندماج في المحن المكتوبة إبداعيا.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *