الإنسانيات الرقمية..غد أفضل للغة العربية وثقافتها

*الزواوي بغورة

في الوقت الذي ترتفع فيه بعض الأصوات المنادية بإحلال اللهجات العربية أو البربرية محل اللغة العربية هنا وهناك بحجة ما يسمى «لغة الأم»، وفي الوقت الذي لا يتوقف فيه بعض أنصار الفرانكفونية من التشهير بعملية التعريب، وبخاصة في الجزائر، ويعملون في السر والعلن على إفشال هذه العملية كلما أتيحت لهم فرصة اتخاذ القرار.
وفي الوقت الذي يكاد يطبق الصمت على تعريب العلوم الطبيعية أو الدقيقة في مختلف البلدان العربية، بحجة صعوبة الترجمة ومتابعة التطورات الدائمة للمصطلح العلمي، بحيث استكان أهل المشرق إلى اللغة الانكليزية، وأهل المغرب إلى اللغة الفرنسية، مكتفين بالازدواجية العلمية واللغوية، مع أن الخطاب الرسمي
لا ينفك يعلي من قيمة العربية، ويذكر بالتجارب التنموية الرائدة مثل اليابان والصين،،الخ. في هذا الوقت يأتي كتاب الدكتور غسان مراد «الإنسانيات الرقمية، ترويض اللغة في سبيل معالجتها آليا، وتساؤلات في ثقافة التكنولوجيا من أجل طرح علوم إنسانية جديدة»، ليكشف لنا عن الإمكانات الكبيرة للغة العربية، وما تحمله من قدرة و طاقة إبداعية، في موضوع يعد بجميع المقاييس من المواضيع الجديدة ألا وهو الإنسانيات الرقمية، بحيث نستشف من قراءتنا له، ذلك التوجه البناء الذي نفتقده في كثير من الدراسات والأبحاث.
علاقة تبادلية
تؤكد ذلك جملة من الأمور أهمها:
تدرس الإنسانيات الرقمية Digital Humanities العلاقة التبادلية بين المعلوماتية والثقافة بمعناها الواسع، والعلوم الإنسانية على وجه التحديد. وتعتبر اللسانيات المعلوماتية الحقل الأبرز في هذا المجال، لأنها تمثل الجانب التطبيقي للمعالجة الآلية للغات الطبيعية.
تتميز الإنسانيات الرقمية بطابعها الجماعي، وذلك نظرا للحاجة إلى تفاعل علوم مختلفة تعمل على البحث عن لغة مشتركة أو صناعة لغة مشتركة غايتها دعم عملية إنتاج المعرفة المشتركة. وكذلك الحال بالنسبة للطرق المناسبة لتعليم المعلوماتية وإدخالها في مجال العلوم الإنسانية. وتعتبر الصحافة الرقمية، والإعلام الرقمي، والأرشفة الالكترونية، والمعالجة الآلية للغات، ونصوص المدونات، وعلوم الإدراك أو فلسفة الذهن، والذكاء الاصطناعي، من المعالم البارزة لهذه العمليات.

الإنسان والآلة
تطرح التقنيات الرقمية مشكلات معرفية وفلسفية، وبخاصة تلك المشكلات ذات العلاقة بهوية الإنسان والآلة. ومن هذه المشكلات السؤال الآتي: هل يجري تقريب الآلة من الإنسان، أم أن الأمور تسير في اتجاه معاكس بمعنى جعل الإنسان آلة ذكية؟ يشير مفهوم سايبورغ Cyborg إلى هذه العلاقة بحكم أنه يجمع بين كلمة سايبر التي تشير إلى أشياء تتحكم بنفسها أي بالاعتماد على المعلوماتية الرقمية، وكلمة العضو الذي يتشكل منه جسد الإنسان. وعليه، فإنه بعد الحديث عن «الربوت» أو الإنسان الآلي، أصبح الحديث اليوم يدور عن «السايبورغ» أي الإنسان السبراني، أو بعبارة شارحة «الإنسان المدعم بأعضاء يسندها الذكاء الاصطناعي». يدل على ذلك أجهزة تحسين السمع، واستعادة النظر. وهنالك مظهر آخر لهذه العلاقة بين الإنسان والآلة ويتمثل في ما يعرف بكلمة «البيونيك»، أي الارتباط بين البيولوجي والالكتروني.

وسائل تعليم حديثة
تشير الإنسانيات الرقمية إلى أن التعليم الكلاسيكي لم يعد كافيا، وصار مطلوبا اعتماد الوسائل الحديثة كتقنيات الصورة والصوت والفيديو ومعرفة بالرياضيات والإحصاء وعلم التواصل ولغات البرمجة، وأهمية الكتاب الإلكتروني، واستخدام الإنترنت. على الرغم من التطور الذي يلاحظ في استعمال العربية في الانترنت إلا أن غسان مراد يشير إلى ظاهرة تحتاج إلى الاهتمام من قبل كل المهتمين باللغة العربية، وهي «أن العرب والمسلمين – للأسف الشديد – حاليا، هم في طور التلقي السلبي. وليسوا فاعلين في مجال المعلوماتية والتواصل» (131). ويرتبط هذا المشكل بمجموعة من المشاكل التي شخصها، وأهمها المشكلات التي تواجهها العربية في المعالجة الآلية للغة. ولكن على الرغم من إقراره بصعوبة هذه المشكلات إلا أنه أكد على أنها غير عصية على الحل، لأنه بمقدور الباحثين «التوصل إلى جذر الكلمة آليا وعبر معادلات رياضية، وقواعد مبنية على تركيبات منظمة، وعلى المنهج الكشفي، باستعمالنا أدوات الربط والأحرف الوسطية التي تلعب دور المنسق في حالات كثيرة» (ص 159). والأمر نفسه بالنسبة للترجمة الآلية، وجملة المشكلات الإلكترونية منها ترميز الكلمات، ومزج أنظمة معلوماتية، وغياب قواعد للنصوص رغم توافر قواعد للجمل وللمفردات.
قدم تشخيصا موجزا لاستعمال الإنترنت في العالم والعالم العربي، بحيث أكد على تزايد مواد الويب باللغة العربية، وأن عدد المستخدمين في العالم العربي يقدر بحوالي ثلاثين مليون مستخدم، ومحتوى الاستخدام متنوع، مما يجعل عملية التقييم في غاية الصعوبة، وأن ما ينشر، وبخاصة ما تعلق بالثقافة العالمية ورقمنة المخزون الكتابي العربي، يعتبر على حد قوله «جيد، ولكنه غير كاف للتعريف بحضارتنا وثقافتنا العربية» (ص 219).
يعد كتاب الإنسانيات الرقمية من الكتب الزاخرة بمواضيع كثيرة ومتنوعة تجمع بين التعريف والمناقشة والتقييم، وبطريقة في العرض تجعل الصعب يسيرا، والجديد مرغوبا فيه، وقبل هذا وذلك، يتمتع الكتاب بروح تفاؤلية تجعل قارئه يأمل، رغم كل الصعوبات، بغد أفضل للعربية والثقافة العربية. لذا يصح القول إن كتاب غسان: الإنسانيات الرقمية، ترويض اللغة في سبيل معالجتها آليا، يعد مؤشرا على إمكانات العربية في زمن العولمة.
______
*القبس

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *