من صنعة الكتابة إلى الكاتب المصطنع

*عبد الله زروال

الكتابة صنعة ما في ذلك شك، وهي تتطلب في المقام الأول ميلا عارما؛ على أن الميل وحده لا يكفي ليكون المرء كاتبا مرموقا ناجحا؛ بل لابد من النهل من القراءة العميقة، والإفادة من التجارب الثرة، والحرص على الدربة الموصولة، وفوق ذاك كله من اللازم الدأب على إعادة النظر في المكتوب، لإصلاح ما قد يعتريه من النقائص، وتصحيح ما يشوبه من العيوب؛ وهذا ما أكد عليه العماد الأصفهاني في قولته السديدة الذائعة التي ينبغي أن يضعها كل كاتب نصب عينيه: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال عنه في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».
إن كتابة من هذا القبيل تتطلع إلى درجة عالية من الاكتمال لشاقة طبعا؛ لأنها تأخذ من الكاتب الوقت المديد، والجهد الجهيد، وحتى المال الوفير الذي قد يقتطعه من قوت العيال، وقد تحرمه من الراحة، وعديد اللذات والمتع؛ ناهيك عما يتخلل الكتابة من لحظات الانحباس والقلق والتوتر، وحتى اعتلال الصحة؛ والسؤال القديم الذي يتجدد طرحه هو: لماذا يكتب الكاتب؟ سؤال معلوم يمكن إعادة صياغته على النحو التالي: ما الذي يجعل الكاتب يواجه ما يطيق وما لا يطيق من الأعباء كي يبلغ ما خطه يراعه يدي القارئ، ويصير تحت باصرته وبصيرته؟
من المفترض أننا إذا طرحنا هذا السؤال على عينة من المشتغلين بالكتابة أننا لن نظفر بإجابة واحدة وموحدة؛ وإنما بإجابات متعددة متباينة؛ فمنهم من سيقول بأنه يكتب لإفادة القارئ، ومنهم من سيقول بأنه يكتب لإمتاعه، ومنهم من سيقول بأنه يكتب لإشباع ميل الكتابة لديه، ومنهم من سيقول بأنه يكتب لأنه يجد لذة في الكتابة لا تعدلها لذة من ملذات الحياة، ومنهم من سيقول بأنه يكتب ليترك أثرا يخلد في الصالحات ذكره، ومنهم من سيمزج بين هذا وذاك ليقدم توليفة جوابية، ومنهم ربما من سيصدمه السؤال المفاجئ، ويصيبه بالحيرة والذهول، فيتردد ويتلعثم ليقول في الأخير بأنه يكتب وكفى؛ لكن من المستبعد جدا أن يرد أحد بأنه يكتب ليكسب المال، كما هو مطلب أهل الصنائع الأخرى، أو ليصير نجما مشهورا، كما هو سعي الممارسين في عالمي الرياضة والفن؛ علما بأن ظاهر القول لا يترجمه دائما حال الفعل، فالخلف بين القول والعمل وارد قائم.
إن الكتابة في المبدأ صنعة متسامية؛ يتعالى فيها الكاتب الأصيل عن أضواء الشهرة، ويزهد في المكسب؛ وكده الأساس إتقان المكتوب، وهدفه الأسمى منفعة القارئ؛ بيد أن عالم الكتابة ليس عالما أفلاطونيا، فقد تسللت إليه شرائح من الكتاب أزرت بالكتابة، وتدحرجت بها إلى الحضيض، ومن هؤلاء ذلك الكاتب الذي لم نجد له من وصف دقيق سوى الكاتب المصطنع، فمن يكون إذن هذا الصنف من الكتاب الذين ابتلى به عالم الكتابة البهي؟
الكاتب المصطنع كاتب اصطنع في البدء نفسه، وعمقت أوهامه المجاملات الزائفة، والشهادات الكاذبة، ظن أن وصول باكورة كتابته إلى المطبعة يوما صك إشهاد على أنه كاتب، فمضى يكتب سريعا، ويقذف سخفا، ويطلب الشهرة حثيثا، لا يحفل بالقراءة العميقة، ولا يعنى بما تقتضيه صنعة الكتابة من الكد والمثابرة؛ كل ما يعنيه هو أن يجد منفذا إلى مساحات الضوء، ومسالك إلى المنصات والمنابر والمواقع، مسخرا لذلك «صنعة التسلل» لا صنعة الكتابة.
قد يقول قائل إن حق الكتابة مكفول، ولا تجوز مصادرته بأي حال من الأحوال، دعه يكتب، دعه يتسلل، ففي الأخير لن يصح إلا الصحيح، وسيمنع غربال التاريخ لا محالة الكاتب المصطنع من العبور، طبعا هذا قول لا يقبل مراء ولا اعتراضا؛ لكن أليس من الشائن أن يتكاثر هذا الصنف من الكتاب؟ أليس من الشنيع أن ينحى الكاتب الرصين الجاد العميق في صنعة الكتابة جانبا ليستولي على مكانه الكاتب المصطنع ليحكم ويجيز من يجيز؟

______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *