التوقف المفاجئ عن الكتابة هل هو سقوط في سكتة أدبية

*خلود الفلاح

حالة التوقف عن الكتابة ليست حكرا على كاتب دون غيره، فهي تقريبا حالة عامة تصيب كل الكتاب، تقول الشاعرة لوكس دوريان “يمكن أن نواجه هذه الحالة بكتب الشعر، الروايات، الأفلام، وأصناف جديدة من الطعام، السفر، العلاقات، الفنون، الاعتناء بالحديقة، المدرسة، الموسيقى. في هذه الأثناء استرخِ واكتب بقدر ما تستطيع حتى لو كان ما تكتبه خاليًا من الأحاسيس، انتظر بعدها حتى يصفو ذهنك وتصل إلى حالة الثراء الفكري وعندما يتحقق ذلك سيعود الشغف وكذلك القصائد”.

سكتة مؤقتة

يرى الشاعر السوري حسين حبش، أن هناك أوقاتا كثيرة تمر عليه لا يستطيع فيها الكتابة على الإطلاق، يشعر فيها بأنه أصبح خاوياً تماما، وليس لديه ما يقوله، لكنه لا يفكر فيها كثيراً ولا يأخذها على محمل الجد.

يقول الشاعر “أقضي هذه الأوقات في القراءة المكثفة والتجوال بين المكتبات المختلفة، والجلوس في المقاهي وزيارة الحانات في الليل مع صديقات وأصدقاء السوء طبعا. وكذلك أقضيها مع العائلة، أو أنغمس أكثر في روتين العمل اليومي. كما أقضيها في المشي على ضفاف نهر الراين، أفتّت الخبز للبجع والإوزات والنوارس. وأراقب حركة السفن ذهاباً وإياباً. وأود أن أذكر في هذا المقام أيضاً أن الراين خزان كبير للدهشة والتأمل والفرح، لم يبخل عليّ يوماً بمحبته وكرمه، فهو يمدني دائما بمواد خام كثيرة تصلح للكتابة. وكذلك أمرّ بشكل شبه يومي من أمام منزل بيتهوفن، أحييه كصديق قديم، وأستلهم منه القوة والشجاعة والصبر والتأني. تسحرني الموسيقى الكلاسيكية والأغاني الكردية القديمة”.

بدوره يوضح القاص المصري أحمد الخميسي أن الكثير من الأدباء يمرون بحالة “توقف إبداعي”، تسمى سكتة مؤقتة، وبعضهم يتوقف عن الكتابة نهائيا كما حدث مع عادل كامل زميل نجيب محفوظ الذي نشر عدة روايات وتوقف نهائيا. ومحفوظ أيضا توقف بعد الثلاثية وقفة طويلة حتى ظن أنه لن يكتب ثانية أبدا، لكنه رجع إلى الكتابة.

يتابع ضيفنا “في الأدب العالمي توقف الشاعر الفرنسي رامبو عن الشعر نهائيا بعد كتابه الثاني وهو في التاسعة عشرة من عمره ولم يعد إلى الكتابة، وهو ما فعله جيرومي سالنجر الذي ترك أربعة كتب هامة، ثم لزم الصمت لأكثر من ثلاثين عاما مثله مثل الكاتب الأرجنتيني أنريكه بانش الذي نشر عملا رائعا هو ‘صندوق الاقتراع‘ ثم أحاط نفسه بالصمت والغموض لخمسة وثلاثين عاما. التوقف عن الإبداع مرة وإلى الأبد مرتبط بتيقّن مؤسف وكئيب من عدم جدوى الكتابة، أما التوقف المؤقت فيتغلب عليه الكثيرون بطرق عديدة، وفي هذا الصدد قال نجيب محفوظ في حوار له مع فؤاد دوارة إنه كان أحيانا يجلس إلى المكتب وليس في رأسه فكرة واحدة ويكتب من وحي القلم، أي أنه كان يتغلب على السكتة الإبداعية المؤقتة بالكتابة، بكلمات حتى لو بدأت من فراغ فإنها تقود إلى كلمات وإلى كتابة. أما إيزابيل اللندي فإنها تتغلب على ذلك التوقف المؤقت حسب قولها بكتابة شيء آخر، مثل مذكرات يومية، ولهذا السبب كتبت كتابها ‘أفروديت’، بعيدا عن عالم الرواية والأدب. وهكذا فإنها تقترح في حال التوقف أن يكتب الكاتب في أي موضوع؛ عليه أن يكتب بحثا، أو مذكرات، أو مقالا، المهم ألا يتوقف عن الكتابة”.

وبالنسبة إلى الخميسي شخصيا، فإنه حين يجد الطريق مسدودة أمامه، ويحس بأنه عاجز عن مواصلة الكتابة، يلقي بالعمل جانبا وينشغل بعمل آخر، وعمل ثالث، متنقلا ما بين المسودات أحيانا، أو يعمد إلى ترجمة قصة، إلى أن تنفتح أمامه طرق وحلول تقوده إلى الاستمرار. أحيانا يستعين بسماع الموسيقى والقراءة وكل ما من شأنه أن يجلو الروح ويوقد شرارة الإلهام.

في كل حالات التوقف المؤقت، حسب الخميسي، يجب على الكاتب أن يثق في أن ما يقوم به مهم ومؤثر وضروري، فالحماس مهم للتغلب على التوقف، ولكنه لا يشتعل من تلقاء نفسه بل يجب إشعاله، وفي هذا يقول المتنبي “أكذب النفس إن حدثتها”، أي حمس نفسك بكلام جميل إن كنت تنوي فعل شيء.

في بداية حديثها تعرج الروائية الليبية عائشة الأصفر على مفهوم “الإفلاس الفكري” وهو من وجهة نظرها إفراغ الفكر من محتواه الأصلي البناء، المعتمد على العقل والفهم والاستخدام الناضج للغة، فينزاح إلى العاطفة والذاتية واللاعقلانية، وهو ظاهرة مرضية تصيب الشعوب والأفراد على حد السواء، نتيجة استلاب ثقافي، وأزمة عقل انغمس في ثقافة هشة، وسريعة، تلد لنا كتابات مشوهة، ورديئة محشوة بالخواء، خاوية المضمون. هذا يعني أن “الإفلاس الفكري” مرتبط بفعل الكتابة وليس العكس، فالكاتب المفلس هو كذلك في جميع حالاته، أما بُعد الكاتب عن الكتابة، فيجوز لنا تسميته بفسحة، أو خمود، أو عزلة مؤقتة يعيشها.

وتضيف الأصفر “عن نفسي، أمارس الكتابة حتى بلا ورق، وليس أجمل عندي متى سُنح لي من تأمل البحر، وكلام الرب، والغور في الطبيعة والحيوانات، ففي حركة الظل حياة، وفي فعل الهواء لورقة على الشجرة حياة، وفي أزيز الأبواب حياة، وفي سكون الصحراء حياة، وفي مخاض قطة حياة. عندي كل الموجودات عوالم تحس، هذا ليس كلاما رومانسيا، هذه حياة أشعرُ بها، وأمارسها فعلاً كلما تركتُ القلم”.

الإبداع زراعة

الشاعر المصري فتحي عبدالسميع يرى أنه رغم وجود فترات في حياة المبدع يعاني فيها من نضوب، أو يشعر بصعوبة العودة إلى نشاطه السابق مرة أخرى، ورغم وجود عدد من المبدعين توقفوا فعلا بعد مسيرة ناجحة جدا، لا يؤمن أبدا بفكرة إفلاس المبدع؛ فتوقف المبدع، أو ضعف إنتاجه، له أسباب أخرى، منها ما يرتبط بطبيعة الإبداع، ومنها ما يرتبط بمشكلات عنده.

يقول عبدالسميع “المبدع لا يفلس أبدا، لأن روافده ثرية ثراء الشمس والأرض، فهناك على المستوى الداخلي، ذات المبدع، وهي عالم هائل يكفي المبدع حتى اللحظة الأخيرة، لأن عملية اكتشاف الذات أو معرفة النفس تبقى لا نهائية، فنحن نكتشف كثيرا لكننا لا نصل إلى الختام أبدا، ولا يوجد من قال إنه عرف نفسه تماما، الذات نبع لا يعرف النضوب. على المستوى الخارجي هنالك ذلك العالم المحيط والمتجدد، والذي لا يقل عمقا وثراء عن أي بحر متى وجدتْ العين التي ترصد واليد التي تصطاد. الإبداع في تقديري مثل الزراعة التي لا ينبغي اختزالها في موسم الحصاد، بل لا بد من النظر إليها في إطار مراحل متكاملة تبدأ من استصلاح الأرض، وحرثها، ووضع البذور، ورعايتها حتى تكبر، وتثمر”.

ويشدد الشاعر على أن توقف المبدع مؤقت، حتى وإن طالت الفترة، ويتابع “قد يكون طبيعيا أثناء نمو النبات. لا يمكن أن نطلب ثمرة من بذرة تفتحت منذ لحظات ولم تتحول إلى ساق وأغصان. كما يكون طبيعيا عندما نحصد محصولا صغيرا يناسب المساحة التي زرعناها، لا يعقل أن نطلب محصولا بلا نهاية من قيراط أو فدان. المبدع لا يفلس أبدا، لكنه يصاب بالشلل حين يفقد المجرى الذي يصله بجذور وأغصان الإبداع، وذلك لأسباب كثيرة، منها الكسل، وعدم بذل الجهد الضروري، ومنها التشتت بسبب ضغوط الحياة ومتطلباتها، ومنها فتور الرغبة في الإبداع نتيجة إحباطات، وما أكثر دواعي الإحباط في عالمنا العربي”.

وعن تجربته الخاصة يقول عبدالسميع “عندما أنقطع عن الكتابة، أنظر إلى جذور الكتابة، فإن كانت حية نابضة، أدرك أن أوقاتي ثرية وأن الكتابة آتية لا محالة. فهي تتخلق في الرحم الغامض وعليَّ تغذيتها باستمرار. جذور الكتابة في تقديري هي القراءة والرصد والتأمل والسعي نحو اكتشاف الداخل والخارج”.

إعداد المسرح

لا يتصور القاص الليبي فتحي نصيب أن المسألة تنحصر بين “الثراء الفكري” و”الإفلاس الفكري”، إذ لا يمكن تفسير “ميكانيزمات” الكتابة بشكل قاطع، وكل المدارس الأدبية والنظريات النفسية التي حاولت وضع فرضيات لتفسير آليات الإبداع يشوبها النقص ولا تطابق الواقع، كما يقول.

ما يعنيه القاص أن الكاتب في أوقات التوقف عن الكتابة يظل عقله مشغولا بنص ما يريد تدوينه، يختمر ببطء إلى أن تحين اللحظة المناسبة التي يكون فيها العمل ناضجا إلى حد ما في ذهنه ومن ثم يشرع في الكتابة.

يقول نصيب “أبدى مارك توين ملاحظة ذكية حين قال عندما أتطلع لساعات من خلال نافذة مكتبي تظن زوجتي أنني لا أعمل، وهي لا تعرف أنني في تلك اللحظات أكتب في عقلي. إن عملية التأمل تلك يراها البعض توقفا عن الكتابة، فيما هي أشبه بعملية إعداد المسرح للعرض”.

يضيف القاص “بالنسبة إلي عندما لا أكتب لأيام أو أسابيع فإن القراءة هي العمل الممتع، فكل كتاب يفتح أمامي آفاقا لا محدودة من الأفكار، ثم تأتي الحوارات مع بعض الأصدقاء في مقهى ما، الرافد الآخر يتمثل في مشاهدة الأفلام السينمائية التي من خلالها ألتقط فكرة ما من حوار أو لقطة موحية تثري ما أكون مشغولا به في عقلي وكذلك أستمتع بمشاهدة البرامج الوثائقية وعلى نحو خاص التي تهتم بالطبيعة: الغابات الاستوائية والصحاري والمحيطات وعالم الفلك الفسيح، فهي تتيح لي فرصة للتأمل والصفاء الذهني. ألجأ في أوقات أخرى إلى العناية ببعض النباتات والمزروعات الخفيفة داخل البيت، وأحيانا ألجأ إلى العمل اليدوي في حديقتي الصغيرة، أو لعب الشطرنج أو ممارسة رياضة المشي. بالطبع الموسيقى تشكل الخلفية لكل هذه الأنشطة”.

_______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *