تَجْدِيْدُ الخِطَابِ الدِّيْنِيِّ .. فَمَاذَا عَنْ تَجْوِيْدِهِ ؟

خاص- ثقافات

*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

منذ أن انخرطت التيارات الدينية في العمل السياسي والحزبي والمجتمعي أيضاً بصورة سرطانية تبدو حميدة من مواقع التصنيف الإحصائي ، لا من حيث المعنى المرضي ، بل من حيث التورم والانتشار السريع في جسد هذه الأمة التي لاشك تعيش طقساً فريداً في تاريخها السياسي ، ونسمع الصيحات المتعالية تطالب بضرورة تجديد الخطاب الديني وإن كان من الأصلح لزماننا إصلاح الخطاب وليس تجديده باعتبار أن ثمة عطب يلازم جسد الخطاب منذ عقود مبارك المنصرمة والتي أوجدت بفعل سياساته وأنظمته الحاكمة نوعا فريدا من الخطاب الديني لا يقوم على فقه رصين بل يرتكز على الداعية النجم الذي اصطحبنا إلى رقائق لا تربطنا بواقعنا المشهود أو بفقه الحالة الذي نحن بحاجة ماسة إليه ، بل راح هذا النجم الداعية بصوره المتباينة شكلا والمتحدة في المضمون يجرجرنا إلى حكايا وقصص عن أمير المؤمنين وبائعة اللبن ، والمسلم الذي ينبغي أن يعتد بلغته دون أن يعلم هو وغيره أن مستمعيه يدشنون كل صباح مدونات إلكترونية تتناول قضايا فقهية طارئة لم يلتفت إليها نجومنا الدعاة .

وفكرة ظهور تيارات دينية متعددة أمر محمود حيث إن التاريخ الإسلامي حفظ في سجلاته التي صاغها مؤرخو السلطة تارة و مفكروها تارة أخرى وجود تعدد مذهبي وطائفي لاسيما في فترة الخلافة العباسية وما تلتها من عهود وعصور .وتكفي إطلالة سريعة على كتابين مهمين في هذا الصدد أولهما لحسين فوزي المعنون بـ سندباد مصري ، والثاني الكتاب الماتع الذي سطره ستانلي بول عن مصر بكتابه الموسوم بـ تاريخ مصر في العصور الوسطى ، لتدرك الشهود الحضاري السليم والخبيث أيضا لفرق دينية استعرت وانتشرت بقوة في فترة الحكمين المملوكي والعثماني والنتيجة كانت صفرا بغير مواربة كون معظم فقهاء العصرين إلا من  رحم ربي من أمثال العز بن عبد السلام أو الشيخ أبي السعود وغيرهما ، اكترثوا فقط بخطاب ديني لم يخرج عن حرمة فوانيس الطرقات أو الاحتفال بالمولد النبوي الشريف .

لكن الذي يستدعي الغرابة في المشهد الدعوي الراهن أن تلك التيارات التي تستقي مصادرها من سطور ونصوص بائدة ترجع معظكها إلى العصرين المذكورين بفكرهما وأساطيرهما البائدة التي غاصت في قضايا تبدو وهمية تارة ، وواهنة تارة أخرى ، والغرابة ليست في السعي إلى تجديد الخطاب الديني  وصلاحيته المطلقة لزماننا ، ولكن تكمن الغرابة في فكرة التجديد نفسها ، وكأن الخطاب الديني استقر بثوابته الإنسانية التي سطرها شيوخ عصور مضت ومضوا معها ، وبات أولى وأحرى ضرورة إصلاح خطاب ديني استقر بكتب تباع وتشترى من على أرصفة الشوارع المكتظة بالمارة والبائعين والتائهين والمغيبين أيضا عن واقعهم وحالهم ومقامهم .

الأشد غرابة في أن بعض التيارات المنتسبة للدين تسير على نفس خطى الحزب الوطني المصري المنحل بسقوط نظام مبارك الذي تسبب في ركود الخطاب الديني ومن بعده جاء المعزول بحكم الشعب محمد مرسي ففتح باب الخطاب على مصرعيه بغير شرائط للتجديد أو التطوير أو الإصلاح بل لمناقشة حكم جواز نكاح البنت الصغيرة في مجتمع يعاني من ارتفاع نسب العنوسة والبطالة والفقر أيضا ، ووجدنا مناقشات لا أفطن كنهها حتى اليوم تدور حول حكم إرضاع الكبير ، رغم أن هناك ألبانا اصطناعية بالأسواق يمكن أن يرضعها هؤلاء الكبار الموتورون عقلا وفكرا ومذهبا .

وهذه التيارات الدينية تشبهت قصدا وطوعا بالحزب الوطني المنحل لا في اختراع لجنة للسياسات ولكن في التشبه بوجود كوادر حزبية كما كان هذا المسمى موجوداً في المنحل ولكن عن طريق استبدالها بكلمة قيادي ، فإذا فتحت تلفازاً أو قرأت منشوراً لم يعد سرياً كما كان أو طالعت خبراً بالصحف فستجد مئات القياديين البارزين ، وهذا يشبه ما اعتدنا على سماعه داخل حركتي فتح وحماس من وجود قياديين فقط . والخطورة تكمن مؤخرا أن أحد قيادات الجماعة الإسلامية أو مجلس شورى الجماعة لا أستطيع حصر الألقاب التاريخية للكيانات الدينية السلطانية راح يؤطر ما يقوله فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من منظور سياسي ، متغافلا ـ وهذا يقين ـ أن الإصدار اللفظي لفضيلة الإمام يخرج كونه إماما وشيخا وداعية ورجل دين في المقام الأول ، وليس نائبا في البرلمان .

الأمر الثاني الذي يدعو للتأمل في تشابه الطرفين الوطني المنحل والتيارات الدينية أن كليهما بدأ في تقديم نفسه للمجتمع عن طريق دحض التهم والافتراءات والحجج المدحضة لأفكارها . وأن وجودهم ضرورة ملحة في المجتمع ، وهذا يدعونا للتفكير في الإجابة عن سؤال ملح : هل عقود مبارك السلطوية كانت تمثل فساداً سياسياً واقتصادياً مطلقاً ؟ أم أنها أيضاً كانت خير شاهد على ضلال الشعب وفساد هويته الدينية أيضاً ؟ .

وهؤلاء الذين غابوا بالفعل عن المشهد الديني بحكم انشغالهم بالسياسة وأهلها وإحداثياتها المضطربة لم يفكروا أن هذا الانشغال كفيل بركود الخطاب الديني الذي يحتاج إلى إصلاح ثم تجديد ومن ثم التفكير في تجويده وتحقيقه إن أمكن .

فالذين يدعون اليوم من أصحاب القيادات الدينية غير الرسمية أن وجودهم أصبح مطلباً شعبياً وأن دعواتهم التي لا تهدأ لنشر الفضيلة دون المساس مطلقا بفقه العصر وأيديولوجياته يؤكد على أننا كنا نحيا عهوداً ظلامية وهرطقة وأن المؤسسات الدينية المتمثلة في الأزهر العريق ووزارة الأوقاف كانت غائبة عن المشهد الديني طيلة ثلاثة عقود وربما تصر على حالات الغياب في ظل غياب تاريخي لوزارة الأوقاف التي بدت مشغولة تمام الانشغال بطبع ونشر وترجمة وترويج كل ما يكتبه وزير الأوقاف المصري الحالي الذي كان أحرى له وأولى أن يسهم بدوره ومكانته الوظيفية لا مقامه الديني بنشر مؤلفات رصينة لعلماء وشيوخ أجلاء  .

ومنذ فترة تقوم وزارة الأوقاف ـ مشكورة بالقطع ـ في تدريب الأئمة والدعاة وإثراء آلياتهم الدعوية وأنا شاركت في هذه التدريبات لهؤلاء الأئمة ولكن الذي غاب عن برنامج التدريب ولا يزال هو ربط واقع التدريب برهانات أساسية منها تحديد الهدف من الخطاب الديني الحالي أهو التجديد أم الإصلاح أم التجويد ؟ ، والأخذ في الاعتبار بما يدور على المشهد الاجتماعي من قضايا فقهية ومجتمعية أحق بالمناقشة مثل أبواب الربا ، وأنواع القروض ، ونظريات ضرورية للأئمة مثل الخطاب الخطاب الحجاجي ونظرية التلقي.

إن إصرار تلك التيارات التي بزغت فجأة مستثمرة حالة التعددية التي أفرزتها الانتفاضة الشعبية في يناير 2011 على التواجد واقتناص المنصة وحدها من خلال الحديث عن هداية المجتمع ورعاية الفقراء ومحاربة الفجور والاهتمام بالأرامل والاعتناء بتأهيل الشباب وعمل قوافل طبية وتشغيل المصانع وتحقيق العدالة الاجتماعية لهو مفخرة للإسلام إذا كان القصد كذلك ، لكن إذا سُيس الأمر وباتت أهداف تلك الجماعات إلى الانفراد المطلق بالحاكمية والسلطة دون شريك يفرض وجوده بالشورى والمشاركة لهو أمر مرفوض تماماً .

وكثيراً ما كنت أفكر أننا نعيش فوضى أخلاقية وتحلل قيمي وديني في مجتمعاتنا شديدة التحفظ ، فحاولت أرصد ما الذي يدفع بتلك التيارات الموجهة إلى أسلمة العقل والوطن اللذين هما بالقطع يفطنان لحقيقة الإسلام ويدركان عظيم الإدراك عبقرية الإسلام في بناء الحضارات والأمم ، فلم أجد مثلاً نصاً واحداً مصرياً يجيز زواج المثليين ، ولم أعثر في دربي على خطاب فكري مصري الصنع يدعو إلى الحث على إقرار حرية العلاقات الجنسية ، أو منشوراً منسياً يحض على الربا ، إذن هناك حقيقة مفادها أن هذا الوطن متدين بطبعه ويقيم شعائره السماوية ، وأن هذا العقل يدرك أن الدين والسياسة لحظتان مترابطتان تقيمان أمر المرء في المجتمع بغير مغالاة أو تشدد أو قهر للآخر .وأنه بحق يرتكز على ثوابت دينية قوية ومتينة القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة ، فقط هو يحتاج ـ المجتمع ـ إلى إصلاح في التوجيه وتوعية مقصده ومبتغاه وهذا لا يتم إلا من خلال المؤسسات الدينية الرسمية التي يجب عليها أن تشارك بقوة لا بصور شكلية فحسب في عملية الإصلاح الذي تؤدي إلى التجديد لتستقر بالخطاب إلى مرحلة التجويد .

_________
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *