وداعاً محمود طه.. ساحر التراب

خاص- ثقافات

*فاروق وادي

بالأمس، إنطفأ وهج الخزف حزناً على رحيل أحد أكبر سادته ومبدعيه، الفنان الصّديق محمود طه الذي غادرنا مبكراً، فجأة، ودون مقدمات.
النّص التالي لا يرثي أبو قتيبة، قدر ما يوميء إلى الحياة الثريّة التي ظلّت تتخلّق من بين أصابعه وأقاصي رؤاه، فناً وجمالاً، عشقاً وإبداعاً لا يموت.
لمحمود الرحمة والبقاء.
***
يلملم ذرّات التراب، ذرّة.. ذرّة!
يلوِّنها،
ثمّ يصعد في معراج التراب من الصخرة المقدّسة إلى أقاصي السماء. أو إنه يخلق ذلك الالتصاق الحميم بين الفدائي الملثّم وأقواس القدس، ببواباتها وزخارفها، وشبابيكها العتيقة.

ربما تجذبه القصيدة، فيتعلّق بإبداعه مع شخصها المعلّق بين الصخرة العالية وموج البحر، كما فعل مع قصيدة وليد سيف.

وفي إحدى تجاربه الأخيرةً، رنا محمود وهوأي يدخل مغامرة متجدِّدة، ليحوك سجّادة من صلصال الروح.

منذ زمن بعيد، عكف محمود طه على مشروعه الإبداعي بتواصل يومي، وهواجس تتجدد دون أن تعرف الكلل. وقد ظلّ يطوِّر مفرداته بأناة.. يؤصِّلها.. ويحاور رؤاه التي لا تكف عن حراكها الجمالي. وهو في بحثه لا يغادر منطقة الأصالة بحثاً عن حداثة مستعارة.. أو ما بعد حداثة فائضة.

لعل تجربته لم تفرغ لديه من مهمّة تأصيل الأصول، والتعمق في دراسة الجوهر، ومن البحث الجمالي في المنطويات الغائبة في أصالة شخصيتنا، واكتشاف أصقاع في عمق تراثنا، لم نبلغها أحد بعد.

كنّا تراه في محترفه وكأنه خارج للتو من عاصفة تمادى فيها الغبار.
لا يتحدّث في الفن إلاّ إذا استدرجته إلى الحقل ببراعة قد تحسد نفسك عليها، فالإبداع كثيراً ما يفسده الكلام. الإبداع يُخلَق، يعيش ويخلِق حياته. والإبداع ينهض دون أن يخرِّبه الإسراف في التفلسف.

لكن محمود يعرف كيف يوقظ الكلام، فيستفيض عندما يرتد الحديث إلى الحياة نفسها، خالقة البذرة الأولى للإبداع. الحياة بتجاربها المريرة، المعجونة فقراً وقسوة وتشريداً، وبؤس طفولة تأسست في المخيّم الطالع من المأساة، والنابت على أطراف العاصمة.

لو لم يكن محمود فنّاناً بالخزف لوجده فن الرواية بكامل هيئته، ولتحوّلت التفاصيل الموظّفة في جداريّة السيراميك على الحائط، إلى تفاصيل محكيّة من كلام تلقائي يلتقطه الورق، أو يستقر في كتاب.

حكّاء بامتياز، وراوٍ لأحوال الحياة وأحداثها بذاكرة من ذهب.
والكلام المباح في الحكاية المباحة، هي تجربة معاشة بكل تفاصيلها، حتّى الضاحك منها لشدّة البكاء. دجاجة تسقط في مستنقع الطين، فيهرع أولاد المخيّم ليبتدعوا طريقة إلى انتشالها، حتّى ينتشلوا أنفسهم من جوع أزمن في معدات تعاني الخواء. والطين الذي خرجت منه دجاجة الأمس، تخرج منه جداريّة اليوم!

إنها التجربة الخفيّة، المسكوت عنها في حديث التراب وهمسه الحميم، وهي التجربة الكامنة خلف حركيّة الإبداع.

من الطِّين جاء أوّل الخلق.. من صلصال.. من حمأ مسنون، ومن مارد من نار.. جاء خلق آخر!

من هاتيك المادتين، من مادتيّ الخلق الأوّل، ظلّ التراب يتألق بين أصابع ساحره، متكئاً على مرجعيّة ثقافيّة تنهل من ذاتها، بزخارفها الإسلاميّة، وزخرفتها الشعبيّة. من جماليّات الثُّلُثْ في الخط العربي، وجماليّات الكوفي القديم.

حارس للذاكرة، ينأى عن المكان ليعيد تشكيل المكان، وكلما نأى عنه الزمان يعيد صياغة الزمان. ولذلك، فإن محمود طه يبقى فلسطينياً مثقل القلب والوجدان، ممتلئاً بالهمّ الفلسطيني. وحين تقصِّر الصياغة المكانيّة ورموزها عن التعبير، فإن الصلصال يقارب النحت في شخوصه البشريّة، التي يطلّ منها الوجه المقاتل، بتصميمه الحاد، وحضوره الجسدي المتحفِّز، رغم جراحه المكشوفة، وأحلامه الجارحة المبتورة، الواقفة على ساق واحدة متوحِّدة، مُتعبة.
محمود طه، فنان امتلك مفتاحاً لسرّ الطين، وآخر لأسرار النّار. ومادته الصّلدة، اللامعة، المتألقة بألوانها على الحائط.. هي النتاج البهي لتزاوج التراب مع معجم الأسرار.

إنها الروح فائضة البهاء.. معلّقة على جدار!

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *