*محمد الأسعد
في تجربة نموذجية لافتة للنظر، ينتقل الكاتب والشاعر المكسيكي «أوكتافيو باث» (1914-1998) من وعي خاص بما هو ضائع ومطموس تقريباً، إلا من إشارات وأساطير ورموز كتابية على هيئة صور، في أمريكا الجنوبية، إلى وعي كونيته، أي وعي التراث الإنساني الذي اكتشفه وتجول في مدائن حضاراته الشرقية والغربية على حد سواء.
الخلاصة التي يصل إليها بسيطة وواضحة تشبه مقولة مبذولة؛ نحن نشبه غيرنا، أو الغير يشبهنا، وتكاد مفاهيمنا عن الإنسان ومصيره وعواطفه وعواصفه أن تكون واحدة بين الشرق والغرب، اللافت أن الوصول إلى هذه النتيجة اقتضى منه مسيرة طويلة منذ كتابه «متاهة العزلة»، مروراً بكتب: «مكسيكو الأخرى»، «التيار البديل»، «القوس والقيثارة»، «أطفال المستنقع»، فمجموعاته الشعرية، وصولاً إلى مقالات «في الفن المكسيكي» و«أربعة أو خمسة عوالم على الأرض»، وأخيراً كتاب «شعلة اللهب المزدوجة» و كتاب «السيرة الذاتية.. مسار» (1996).
في مقالة له عنوانها «نجمة الصباح»، يؤكد على أنه رغم انبعاث الخصوصية القومية، بل والقبلية أحياناً، في مختلف أنحاء العالم، إلا أن الأمر الواضح هو أننا نعيش في مجتمع يشمل الكرة الأرضية لأول مرة في تاريخ النوع الإنساني. لقد انتشرت الحضارة الغربية على سطح هذا الكوكب كله، وفي الأمريكتين دُمّرت الثقافات المحلية، وأصبحت هذه المنطقة بعداً من أبعاد المركز، أي الغرب، ونوعاً من استمرارية له ونسخة عنه. ويمكن قول الأمر نفسه عن شعوب المحيط الهادئ وإفريقيا، والشرق أيضاً حيث يبدو تأثير الغرب حاسماً، ولا يعني هذا بالنسبة له رفض المجتمعات المحلية أو منتجاتها، بل تقرير أمر واقع فحسب.
أما التنبؤ بعودة الثقافات الإفريقية أو ثقافات إمبراطوريات مثل المايا والأزتك والأنكا، فما هو إلا ضلال عاطفي يستحق الاحترام، ولكنه مع ذلك خطأ.
قد يُفهم هذا الأمر على أنه إقرار بسيادة نوع من القيم الغربية، وإقرار بعالميتها وكونيتها، إلا أن المرمى شيء آخر، وأكثر خصوصية، فهو يضيف: الحضارات ليست قلاعاً بل هي طرق متقاطعة، وضمن سيرورة هذا التقاطع يرى باث مثلا أن ما يدين به الغرب للثقافة العربية هائل في هذا المجال.
هي فكرة إذاً، تتجاوز الشائع من القول عن الهيمنة والغزو وما إلى ذلك من أطروحات، فكرة نشأت، وهذا هو اللافت للنظر، نتيجة لاستكشاف عميق للذات والآخر بعيداً عن قيود الأيديولوجيات ووجهات النظر المسبقة.
في «متاهة العزلة»، يستكشف باث قدره كمكسيكي، وكأمريكي لاتيني في القرن العشرين الآفل، واعياً ككاتب أن ما يراه أمامه هو عالمٌ ينتظر الصياغة، أكثر مما هو عالمٌ ينتظر التعبير عنه أو اختراعه، كل كتابة تقوم بالطبع على مواجهة واقع ما، ولكن الفرق بالنسبة لواقع دول أمريكا اللاتينية هو أن الواقع الذي يواجه كتابها هو واقع يوتوبي، نسبة إلى كلمة يوتوبيا (المدينة الفاضلة المتخيلة)، وتجد دلالة هذه الكلمة أكثر تجلياتها في الاسم الذي فرض على هذه الدول؛ العالم الجديد، أي العالم الوليد الذي ينتظر تشكيله، فهل الأمر كذلك حقاً؟.
يتحدث باث عن عالمين متداخلين؛ عالم المكسيك القديم وعالم الغزو الإسباني، ويرى أن أي اتصال بالشعب المكسيكي، ولو كان عابراً، يظهر أن العادات والتقاليد والموروثات القديمة لا تزال تنبض تحت الأشكال الغربية، وتشهد هذه البقايا الحيّة على حيوية الحضارات السابقة على الغزو في مطلع القرن السادس عشر، والواقع أنه إذا كان العابر يستطيع لمس هذه الظاهرة، فإن باث يغوص فيها تماماً.
وتظهر هذه الثقافة الموروثة، التي تسبق حضور كولومبس، بملاحمها وغنائيتها وقصصها، واقعاً خاصاً تبرزه الأغاني والحكايات والأساطير، وتنطق بخصوصيات بيئة ومجتمع. هذه الثقافة هي التي خلق الغزو فوقها ما يمكن أن نسميه تقاطعاً وتراكباً، وإمكانيات وعي مختلف عما كان لدى الغازي الإسباني والبرتغالي.
ومن الممتع أن نكتشف في قصائد باث أثر القصائد الفلسفية والغنائية التي ترجع إلى عصور المايا والأزتك القدماء. ليس في استعارة الرموز الثقافية والمفاهيم الحياتية فحسب، مثل وحدة الإنسان والطبيعة، أو نفي التعارض المطلق بين الموت والحياة، بل وفي تقنيات الإيقاع والبنية الغنائية. وكل هذا يعني عودة إلى الجذور.
سبق هذه العودة هذا التأمل الذي يقدمه باث: «مع مجيء الاستقلال، لم يعد يربطنا بإسبانيا شيء سوى الإحساس بالقصور الذاتي، أي الإحساس بالضعف تجاه الموروث الإسباني. إلا أن هذه العملية المزدوجة التي يقوم بها المكسيكي؛ قطع الروابط بإسبانيا من جهة، وتلمس الضائع في ذاته من جهة أخرى، تقوده إلى البحث عن ذاته، هو المشوه أو المقنع بمؤسسات غريبة عنه، والبحث عن شكل يعبر عنه. وهنا يبدأ بانتزاع روابطه بالثقافة الإسبانية شيئاً فشيئاً، ويحاول القطع الحاسم مع الشكل الذي كان غريباً عنه، على رغم أن هذا الشكل كان لفترة من الفترات هو البنية الغريبة المفروضة الطاغية. بعد الاستقلال يصبح المكسيكي إنساناً آخر، ويجب أن يكون له شكل تعبير خاص به، شكل آخر، ولو أنه لم يكتشفه حين استقل.
في وسط هذا الطريق المحتشد بالتمزقات، يرتبك الإنسان، أو يضيع، وهو يجاهد للعثور على ذاته؛ لقد جعلته ثقافته القديمة إنساناً جماعياً، بينما حاولت ثقافة الغزو طبعه بطوابع نزعتها الفردية».
ونجد ما يناظر ذلك في الثقافة العربية الموروثة حين واجهت الغزوات الاستعمارية بطابع الروح الجماعية التي نشأ عليها العربي بمختلف دياناته. حدث هذا في ثورات الأرياف؛ الريف العراقي والليبي والمغربي والمصري والسوداني والفلسطيني والسوري منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولا إلى خمسينيات القرن العشرين التي شهدت خلالها ثورة الجزائر آخر تجليات الروح الجماعية. وبعد هذا التاريخ بدأت هذه الروح بالتآكل بعد أن فرضت ثقافة المستعمرين وأشاعت النزعة الفردية مباشرة عن طريق تدخلها في طرق التربية والتعليم، وعن طريق غالبية خريجي جامعاتها في الغرب من العرب، غالبية لم تدرك أن إشاعة قيم الفردية الغربية في العقول العربية كان يحمل معه تقويض أساس وحجر زاوية دفاع المجتمعات العربية عن ذاتها وأشكال تعبيرها عن نفسها، أي أساس تحررها، أعني طابع الجماعية الذي يميز ثقافتنا الموروثة.
بالنسبة لكاتب أمريكي لاتيني مثل باث، كان الأمر يعني مغامرة في الكون؛ انتزاع روابط من جانب، ومحاولة اكتشاف من جهة أخرى. حركة مزدوجة نحو ما هو كلي (كوني) ونحو ما هو أمريكي لاتيني في وقت واحد معاً. ولا تنطلق أعمال باث الشعرية ومقالاته، شأنه شأن كتاب آخرين، من افتراض عدم وجود سابق لأمريكا لاتينية، بل من حتمية انتزاعها. لهذا تبدو الكتابة في نظر باث محاولة لصياغة الواقع، وجهداً تقوم به المخيلة، ولكن هذه الصياغة من جانبها هي ابتكار وإنقاذ لما هو واقع. يقول باث: «يتعرف الواقع إلى ذاته في خيالات الشعراء، ويتعرف هؤلاء إلى صورهم فيه». ولأن كتابة مثل هذه هي انقطاع عن جذورها الأوروبية والعالمية، فستكون عودة إلى تراث وبحث عنه واختراعه. الحركة المزدوجة داخل وخارج الثقافي تسمح للمثقف بأن تكون له أصالته.