من الاعتراف إلى التبرير… حوار نقدي بين نانسي فريزر وأكسيل هونت وراينر فورست
فبراير 3, 2017
خاص- ثقافات
*د.عزيز الهلالي
يتوزع الاهتمام الفلسفي لمدرسة فرانكفورت على مساحات زمنية ومنعطفات فكرية متباينة. بدأت أولى شرارتها منذ تأسيس معهد البحث السوسيولوجي (Institut für Sozialforschung) سنة 1923، حيث عرفت المدرسة خلال هذه السيرورة اهتمامات متباينة على مستوى مباحثها الفلسفية. لقد اهتم الجيل الأول بإعادة بناء الفكر الماركسي، وانعطف الجيل الثاني نحو نظرية الفعل التواصلي، وحط الجيل الثالث رحاله الفلسفي في قارة الاعتراف، أما الجيل الرابع، فقد توج مسار المدرسة من خلال الانفتاح على براديغم التبرير (Justification).
لكن، ما يميز مسار المدرسة خلال رحلتها الفلسفية، هو بداية تأسيس لحضور خطاب فلسفي نسوي، خاصة مع الجيل الثالث، كطرف أساسي في المعادلة الفلسفية للمدرسة النقدية. ويبدو أن المساهمة النظرية للمرأة، تعكس فعلا تمرديا ضد مؤسسة الإقصاء التي دأب على ترسيخها فلاسفة المدرسة. وقد بلغ الإقصاء ذروته في كتاب ” التحول البنيوي للفضاء العمومي ” حيث تجاهل هابرماس (1929- ) حكاية المرأة.
لم يقف تميز الجيل الثالث عند عتبة النظرية السياسية النسوية، بل امتد إلى خلق نوع من التصدع في السيادة الجغرافية. فلم يعد الانتماء الفكري للمدرسة النقدية رهينا بجغرافية المكان، بل حدث تمرد على أغلال الحدود من خلال إفصاح الخطاب الفلسفي عن انتمائه إلى المدرسة النقدية خارج الحدود الجغرافية .
إن ما يشد رهانات الجيل الثالث، كتميز إضافي آخر، هو الانخراط الجماعي في إعادة بناء النظرية النقدية، وهو تقليد رسخه هابرماس من خلال مشروعه التواصلي. لكن، الجيل الثالث فتح أفقا نظريا جديدا وراح يتحدث عن مشروع نقدي يقوم على إعادة إعادة بناء النظرية النقدية الاجتماعية.
في هذا السياق من التحولات والرهانات يمكن القول، إذا كان هابرماس قد أحدث منعطفا تداوليا، فإن الجيل الثالث أحدث منعطفا جغرافيا، احتضن من خلاله أعضاء خارج الحدود لمقاربة مباحث تشكل علامة فارقة في مسار الجيل الثالث للمدرسة النقدية، الأمر يتعلق ببراديغم الاعتراف، حيث انشغل أعضاء النظرية النقدية بتكثيف العُدّة المفاهيمية والرؤية المنهجية، من أجل صوغ تصور نقدي يجيب عن إشكالية الاندماج الاجتماعي للهويات، بوصفه مأزقا عالقا في ثنايا النسق السياسي الليبرالي .
عن هذا الإشكال، تطالعنا أطروحة نقدية تعكس تميزها على مستوى النظر، الأمر يتعلق بإشكالية الاعتراف. ونخص بالذكر، في هذا الصدد، أطروحة نانسي فريزر (Nancy Fraser) التي انخرطت كصوت نسوي من خارج الحدود الألمانية، في حوار نقدي مع أكسيل هونت (Axel Honneth). ولقد أثمر هذا الحوار، الذي جُمع في كتاب مشترك تحت عنوان ” إعادة التوزيع أو الاعتراف ؟ “، عن اختلافات نظرية هامة، لكنها اختلافات عائلية بين أفراد تجمعهم النظرية النقدية كقرابة دموية.
وجه أكسيل هونت تحية خاصة إلى راينر فورست (Rainer Forst) لكونه انخرط، كطرف ثالث، في هذا الجدل الثنائي الذي دار بينه وبين فريزر. وبذلك تكون المساهمة التي أدلى بها فورست قد كشفت عن قارة ثالثة للاعتراف، وفي نفس الآن فتحت أفقا جديدا نحو ترسيخ الإنصاف التبريري في معادلة الاعتراف.
تلاحقنا أسئلة، تترابط في وحدة موضوعية، من خلال هذا الحوار النقدي بين أعضاء النظرية النقدية، الأمر الذي يدعو إلى حصرها فيما يلي : هل يمكن اختزال براديغم الاعتراف في بُعد يخص العدالة أم في بُعد يخص التحقق الذاتي ؟ وهل الاعتراف يغتني دلاليا عندما يتحرر من أسر الاختزال ويروم الجمع بين عدالة التوزيع الثقافي وعدالة التوزيع الاقتصادي؟ وهل يمكن بناء براديغم الاعتراف خارج ثنائية الثقافة والاقتصاد ؟
مسارات فكرية
ولدت نانسي فريزر(20 ماي 1947) في بالتيمور (Baltimore) بالولايات المتحدة الأمريكية. قضت فريزر سنواتها الأولى الجامعية في براي ماور (Bry Mawr) بفيلاديليفيا. ثم، تابعت رحلتها العلمية للحصول على شهادة الدكتوراه بنيويورك، وهناك بدأت تدرس الفلسفة الكلاسيكية. تأثرت بأعمال فوكو وبأعمال الفيلسوف ريتشارد رورتي (1931- 2007) ممثل الفلسفة التحليلية. تشتغل الآن كأستاذة الفلسفة والعلوم السياسية والاجتماعية بالمدرسة الجديدة بنيويورك. كما أنها أستاذة زائرة بجامعات أوروبية كفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا…أعمالها تتمحور حول قضايا العدالة الاجتماعية والنسوية وسياسة الهويات، وكذلك حول الحقوق الاجتماعية على الصعيد العالمي.
من أهم أعمالها نذكر:
دعاوى نسوية: تبادل فلسفي (1994)
الخيال الجذري: بين إعادة التوزيع والاعتراف (2003)
ما العدالة الاجتماعية ؟ الاعتراف وإعادة التوزيع (2005)
ميزان العدل: إعادة تخييل الفضاء السياسي في عصر العولمة (2009)
الحركة النسوية في تطور (2012)
أما أكسيل هونت، فقد ولد (18 يوليو 1949) بإسن (Essen) غرب ألمانيا. درس الفلسفة والسوسيولوجية في مناطق عديدة بألمانيا، مثل بون (Bonn) وبوخوم (Bchum) وبرلين (Berlin) وميونيخ (Munich). منذ سنة 2001 وهو يعمل مديرا في معهد البحث السوسيولوجي خلفا لأستاذه هابرماس. كما أنه منذ سنة 2011 يشغل منصب أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة فرانكفورت وجامعة كولومبيا. ويقترن اسمه الآن، في إطار الفلسفة النقدية الاجتماعية، بمشروع الاعتراف.
الحق في الحرية: الأسس الاجتماعية للحياة الديمقراطية (2014)
ولد ممثل الجيل الرابع لمدرسة فرانكفورت النقدية راينر فورست (15 غشت 1964) في فيزبادن (Wiesbaden) بألمانيا. وهو فيلسوف ومنظر سياسي. يعمل الآن كأستاذ النظرية السياسية بشعبة العلوم السياسية بجامعة غوته بفرانكفورت. حصل سنة 1993 على شهادة الدكتوراه حول موضوع “سياقات العدالة” تحت إشراف يورغن هابرماس . من أهم المباحث الفلسفية التي يشتغل عليها نخص بالذكر: النظرية النقدية و التسامح والبرغماتية والعدالة الاجتماعية والسياسية. لقد حظي، لحظة تسلمه جائزة غوتفريدفيلهيلم لايبنتز سنة 2012، بتقدير كبير كفيلسوف سياسي معاصر. قام خلال الموسم الدراسي (1991 – 1992) بزيارة جامعة هارفارد- شعبة الفلسفة- بناء على دعوة وجهها إليه جون راولز(1921- 2002).
من أهم أعماله نذكر:
سياقات العدالة: الفلسفة السياسية بمعزل عن النزعة الليبرالية والنزعة الجماعاتية (2002)
الحق في التبرير (2012)
التسامح في صراع: الأمس واليوم (2013)
العدالة، الديمقراطية والحق في التبرير (2014)
أرضيةالحوارالنقدي: العدالةالاجتماعيةوسؤالالاعتراف
تعتبر فريزر من جيل 1968 الذي تأثر بمطالب الانتفاضة الفرنسية، فانخرطت في حركات سياسية، مثل “المنظمة الطلابية من أجل الديمقراطية الاجتماعية” (Students for Democratic Society) كصوت يساري جديد. ولذلك تعلن فريزر في مجمل الحوارات، التي تجريها معها بعض المنابر الإعلامية، أنها “طفلة اليسار الجديد“[1]. وفي خضم هذه التحولات النضالية المتشبعة بقيم يسارية، تمكنت من بلورة رؤية مجتمعية، على اعتبار أن الشق النضالي يعد طرفا أساسيا في المعادلة الفكرية والنظرية التي طبعت مسارها الفكري.
لكن، عندما تراجع الفعل النضالي في الولايات المتحدة الأمريكية وانحبست أنفاس المناضلين من جراء الوهن الذي أصاب المجتمع المدني، ظهرت على السطح ردود أفعال عنيفة تستخدم العنف السياسي كآلية من آليات الضغط. وفي ظل هذا التراجع النضالي وتصاعد الانفلات اللامسؤول للحركات المدنية، انفردت فريزر بمساحة للتأمل والمراجعة النقدية، من منطلق أن العودة إلى الساحة النضالية يجب أن تكون مصحوبة برؤية نقدية جديدة تضخ دما جديدا في شرايين الفعل النضالي، ذلك أن التحولات التي يعرفها المجتمع الأمريكي لا تواكبها نظرية سياسية تضفي على هذا التحول صبغة فكرية جديدة تعيد مساءلة البنية السياسية والمجتمعية. تقول فريزر إن ” تكويني العلمي لم يبق سجين النزعة النضالية”[2]. هناك اقتحمت عوالم الفكر الفلسفي، من خلال الاطلاع على الفلسفة الإغريقية والفلسفة الكلاسيكية والفلسفة الهيغيلية والماركسية والفلسفة الفرنسية…هذا المسار من البحث مكنها من بناء تصور فلسفي نقدي يجيب عن المعضلة السياسية والاجتماعية للمجتمع الأمريكي. هنا حدث منعطف فكري في المسار الفكري لفريزر، بحيث لم تعد الماركسية تشكل بمفردها خلاصا اجتماعيا، وإنما من شأن المزاوجة النقدية بين الماركسية والنظرية النقدية أن تحدث إصلاحات أو تغييرات في البنية الاقتصادية وفي الوضعية الثقافية.
إن المشاكل التي يعرفها المجتمع الأمريكي ( العنصرية، الاستغلال، الإقصاء، الاحتقار…) يتعذر على الخطاب الماركسي، كإطار للتحليل الطبقي، أن يستوعب في جوفه النظري التحولات الاجتماعية التي تنفلت من كل تحديد طبقي. في المقابل، فإن الحركات الاحتجاجية الثقافية التي تجوب الشوارع الأمريكية وتطالب برفع الاحتقار والإقصاء عن هويات ثقافية منبوذة، لا تستطيع إيجاد مخرج منصف لمطالب الاندماج الاجتماعي.
فأمام هذا الإحراج النظري، يظل السؤال: هل يجب الانخراط في سياسة الاعتراف أم في سياسة إعادة التوزيع الاقتصادي؟ في سياسة طبقية أم في سياسة الهوية ؟ في التعدد الثقافي أم في الديمقراطية الاجتماعية ؟
تحاول فريزر بناء براديغم الخلاص، من خلال ثنائية الاعتراف والاقتصاد السياسي. فلا الاعتراف لوحده قادر على رفع الظلم وتحقيق عدالة اجتماعية منصفة، ولا الاقتصاد لوحده قادر على حماية المساواة الاقتصادية. تتطلب العدالة، من أجل تحقيقها، نسقا موحدا يجمع في تركيبة متكاملة بين إعادة التوزيع الاقتصادي والاعتراف.
وعلى هذا الأساس، ترى فريزر بأن التيار الذي يحتمي خلف إعادة التوزيع الاقتصادي ويحتقر التعدد الثقافي، باعتباره وعيا مشوشا وكابحا للعدالة الاجتماعية، يقع تحت ” النقائض المغلوطة “[3]. وكذلك الشأن بالنسبة للتيار المدافع عن الاعتراف الثقافي ويتجاهل الاقتصاد السياسي .
لكن، السؤال الذي يمكن أن يعترض مشروع المزاوجة بين الثقافي والسياسي هو: هل يمكن لوظيفة الاعتراف أن تعيق وظيفة إعادة التوزيع ؟ وهل سلطة إعادة التوزيع يمكن أن تسلب سلطة الاعتراف ؟
تقترح فريزر، على المستوى المنهجي، الفصل بين إعادة التوزيع والاعتراف. وبالرغم من أن البراديغمين معا يشكلان واجهة لمقاومة الظلم الاجتماعي. فإن الفصل بينهما يعد ضروريا، من وجهة نظر التحليل النقدي، على الأقل للكشف عن بؤر التوتر. ففي منطق الفصل، تكون فريزر قد “أضاءت منطقهما [ الاعتراف والاقتصاد] الخاص، وساهمت في حل بعض الإحراجات السياسية في وقتنا الراهن”[4]. معنى هذا، أن ثنائية الاعتراف والاقتصاد، لا يجب النظر إليها كماهيات ثابتة تتغذى من فلسفة الذات، وإنما يجب النظر إليها كمواقع تمتاز بالمرونة والسلاسة.
انطلاقا من هذا المنظور، تسعى فريزر إلى تصنيف نماذج مثالية للدلالة على أهمية الفصل التحليلي بين براديغم إعادة التوزيع الاقتصادي وبراديغم الاعتراف الثقافي. ويمكن تصنيف هذه النماذج على الشكل التالي:
نموذج مثالي، يخص فئة تتعرض للاستغلال الاقتصادي بسبب سوء التوزيع، الأمر الذي يتطلب، لإنصاف هذه الفئة، هدم البنيات الطبقية الرأسمالية وتجاوز الاستغلال الطبقي، لتتناسب هذه الفئة (الطبقة العاملة) مع عدالة إعادة التوزيع الاقتصادي.
نموذج مثالي، يتحرك ضمن إطار ثقافي. فهذا النموذج، ليس سوى فئة محتقرة على مستوى الجنساني (المثليين ومتحولي الجنس والسحاقيات وهرمافروديث… ) تشتغل تحت تأثير التأويل والتمثيل، وليس تحت تأثير الصراع الطبقي. والحل الذي يمكن أن تنشده هذه الفئة، هو عدالة الاعتراف وليس عدالة إعادة التوزيع الاقتصادي. فالغيرية الجنسية كسلطة معيارية، تنزع الحماية الاجتماعية عن هذه الفئة، فتتعرض للعنف والتحرش والإهانة والسب… ولهذا، فإن بنية الاعتراف الثقافي تعتبر مخرجا لتجاوز بنية الاحتقار الاجتماعي. والمثال الذي تسوقه فريزر، يتعلق بإطار بنكي من أصول أفرو-أمريكية يتعذر عليه أن يستقل سيارة الأجرة بشارع وول ستريت، في حين عامل أبيض مطرود من شركة السيارات يستقل بسهولة سيارة الأجرة .
نموذج مثالي، صعب التحديد، لكونه يتشكل من مجموعات لامتجانسة (مجموعات مختلطة) تتمركز في الوسط وتجمع بين الاعتراف وإعادة التوزيع الاقتصادي. فالمرأة العاملة مثلا، تعاني من بنية الاستغلال التي تتمظهر في تقسيم العمل، بحيث تجمع بين وظيفتها المهنية خارج البيت (الاستغلال الاقتصادي) ومهمة تربوية ومنزلية داخل البيت (مشكلة الاعتراف). كما أن نفس الوضعية تسري على المجموعات المثلية (Homosexual)… وللخروج من هذه الوضعية، يلزم الترابط بين الاعتراف وإعادة التوزيع الاقتصادي.
وبهذه الإستراتيجية، التي تقوم على الفصل والترابط، تكون فريزر قد قامت بتدعيم أطروحة “النزعة الاشتراكية، على المستوى الاقتصادي، والتفكيكية على المستوى الثقافي، وكلاهما يشكلان تناغما جيدا للتخفيف من حدة الإحراج الذي يمس المجموعات المختلطة “[5].
فعلى هذا المستوى، فإن مسارات العدالة الاجتماعية تتطلب هدم بنية الاستغلال (المجموعة المثالية الأولى)، أو تفكيك البنية الثقافية (المجموعة المثالية الثانية) أو الجمع بين الترابط الاشتراكي والتفكيكي (المجموعة المثالية الثالثة).
إن المسح ” الطبوغرافي ” الذي قامت به فريزر للجماعات المجتمعية، مكنها من وضع اليد على بؤر تستدعي تدخلا لمعالجة انزلاقات الاعتراف والاقتصاد. فالاعتراف يروم بناء عدالة اجتماعية، ولذلك يجب ربط الاعتراف بالعدالة وبالواجب الأخلاقي، إذ لا يمكن ربط الاعتراف بحالة وجدانية نفسية وذاتية، أو بشعور الخير والحاجة الإنسانية، فكل “محاولة لتبرير مقاصد الاعتراف التي تعلن عن الخير وتحقيق الذات، فهي طائفية “[6]. في المقابل، فإن التوزيع الاقتصادي لا يتطلب توزيعا جائرا يجهز على الهياكل التنظيمية للتوزيع. ترمي رهانات فريزر إلى الإنصاف والتفاعل والمساواة، وهذه المطالب لا تتحقق خارج المؤسسات الثقافية والاقتصادية، بحيث تنظر فريزر إلى الاعتراف كمؤسسة للقيم الثقافية التي عملت على ترسيخ معايير الاحترام والإساءة، التقدير وعدم التقدير، الغيرية الجنسية والمثلية…وعلى هذا الأساس، تقترح فريزر إحداث إصلاح وتحويل ( تجاور فريزر بين الوضعية التصحيحية والوضعية التحويلية(*) ) للبنية المؤسساتية للاعتراف والاقتصاد، من أجل بناء عدالة اجتماعية خارج معايير البنية النسقية الليبرالية. فإذن، ما المفاهيم المركزية التي تعتبرها فريزر أساس بناء عدالة الاعتراف وعدالة التوزيع ؟
مبدأ المناصفة التشاركية (Parity of Participation)
تقول فريزر إن ” الأساس المعياري لتصوري، هو بناء مناصفة تشاركية “[7] أي، بناء عدالة تقوم على إجراءات تسمح بالتفاعل الاجتماعي. وتفترض “المناصفة التشاركية” قيما أخلاقيا متساوية تشمل الجميع، كما أنها معيار كوني يحتضن كل الشركاء في العملية التفاعلية، بحيث “يجب على جميع المتحاورين من حيث المبدأ التمتع بفرص متساوية للتعبير عن وجهات نظرهم ووضع القضايا على جدول أعمالهم “[8]. فمبدأ المناصفة، بوصفها تجسيدا لقيم العدالة الاجتماعية، هو ذلك المعنى الماثل في التوزيع المادي للموارد الاقتصادية الذي يقوم على خلفية معايير قانونية شكلية. وهذا البعد، يندرج في إطار “الشروط الموضوعية للمناصفة التشاركية“، التي تقطع مع كل الأشكال التبعية الاقتصادية والاستغلال المادي وإبعاد كل ما يشكل تفقيرا واستغلالا مُمَأسسا للواقع الاجتماعي.
تراهن فريزر على مبدأ ” المناصفة التشاركية “، بسبب تملص الليبرالية الجديدة من تفعيل الأسس التفاعلية لهذا المبدأ، لأنها ترى في الاعتراف وإعادة التوزيع مكونين ينتميان إلى ” الإثنية ” وليس إلى الاختلاف. وكذلك بسبب، غياب نموذج اشتراكي يتمتع بالمصداقية والفعالية الديمقراطية في تثبيت عدالة التوزيع والاعتراف.
الفضاء العمومي
يعتبر الفضاء العمومي المتعدد، واجهة أساسية لبناء جسور تفاعل الاعتراف والمناصفة مع باقي الفضاءات الأخرى. فالفضاء المتعدد يحتضن مجتمعات طبقية (Stratified Societies) ومجتمعات المساواة والتعددية الثقافية (Societies Multicultural Egalitarian )… ويبدو أن هذا التوجه يخالف الصيغة الأحادية للفضاء العمومي الهابرماسي (The Public Arena). تدافع فريزر عن ما تسميه بالفضاء العمومي المتعدد، لأنه يتطلب تثبيت “عدالة المناصفة التشاركية في فضاءات تفاعلية متعددة: في سوق العمل وعلى مستوى العلاقات الجنسانية والحياة العائلية والفضاءات العمومية وجمعيات المجتمع المدني المتطوعة “[9]. ومن شأن الفضاء المتعدد، أن ينسف أطروحة النسق الليبرالي الذي يدعم سوء الاعتراف وسوء التوزيع ويعتبر دوما العلاقات الاجتماعية اللامتساوية بين المتحاورين. ولهذا ترى فريزر، أن الفضاء الليبرالي ليس بالضرورة إقصائيا. بل يضع اعتقادات وقناعات الآخر بين قوسين (Bracketed). إذ يمكن أن تشارك هويات منبوذة في حوارات تشاورية، لكن يتم تجاهلها ويُزج بها نحو أقواس مغلقة، بسبب سلطة المعيار الرقابية التي تنهجه المؤسسات الليبرالية. ليس الفضاء العمومي البورجوازي فضاء لتشكل الرأي، لأن خيارات الأغلبية تستبعد المساواة الخطابية التي تجنح نحو ترسيخ تكافؤ فرص المشاركة في فضاء تشاوري ديمقراطي.
د- البينذاتية
إن المسألة التي يجب أن نأخذها على محمل الجد، هي أن سياسة الاعتراف ترقد في قلب المؤسسة التشريعية والقانونية وليس في إطار ذاتي. ولهذا، فإن كل النماذج الممأسسة على مستوى التأويل والتواصل يجب أن تضمن الاحترام والتقدير الضروريين لكل الأعضاء، في مقابل إبعاد كل الجوانب الثقافية الممأسسة التي تخدش كرامة الإنسان وقدراته على مستوى العلاقات التفاعلية الاجتماعية. فالإنسان الذي يتعرض للتحقير والإساءة، يعتبر مرفوضا من المشاركة المنصفة في الحياة الاجتماعية. لأن ثمة، نماذج ممأسسة من التمثلات والتأويلات قد وضعت معاييرها ورسخت قيم اللااحترام وعدم التقدير. ويصعب، في الواقع على جماعات كالمثليين والسحاقيات والسود…أن يحظوا بالتقدير والاحترام الضروريين داخل اصطفاف عمودي لم يشاركوا أصلا في بنائه ( مثلا قانون الزواج الذي لا يبيح الزواج من نفس الجنس أو تبني أطفال من طرف سحاقيات متزوجات…). فمقاصد الاعتراف ملزمة أخلاقيا بالنظر إلى شروط التفاعل والإنصاف التي يشترطها التعدد القيمي .
تنتقد فريزر نموذج السياسة الهوياتية الممركزة حول ذاتها، وتطلق على هذه المجموعة “نموذج هوية الاعتراف” (The Identity Model of Recognition) التي تتجاهل المشترك الإنساني وتسقط في تحويل الهوية إلى جوهر ثابت. في المقابل، تدافع فريزر عن ” نموذج الوضعية ” (Status Model) التي تنبذ الهوية الخاصة وتنتصر للتفاعل الاجتماعي بين أعضاء الجماعة.
تبدو القراءة التي تقدمها فريزر لمساءلة عدالة الاعتراف، عبر ثنائيتها الجدلية (جدلية الثقافي والاقتصادي)، قراءة تندرج في إطار فعل نسقي تحليلي لبنيات الاعتراف ومحايثة للجوانب الإمبريقية والعملية، وبعيدة عن كل تصنيف تاريخي. وما يهمنا في قراءة فريزر، هو بحثها عن الحلقات المفقودة في نظريات العدالة، من أجل إعادة بناء عدالة متشبعة بقيم إنسانية. ولذلك استوجبت إستراتيجية فريزر تفكيك البنية الرأسمالية والكشف عن ماهيتها. وبهذه الإستراتيجية تسعى إلى ” إدماج الأفضل من سياسة إعادة التوزيع مع الأفضل من سياسة الاعتراف “[10] .
لم يعد مفهوم الطبقة يجيب عن حاجيات معيارية ونفسية لفئات مجتمعية عديدة. فالتطورات التي عرفتها الحركات الاجتماعية، خاصة أواخر القرن العشرين، جعلتها تتحلل من قبضة الاختزال الطبقي. والاختزال، لا يعني سوى ممارسة الصمت وإخفاء مطالب ثقافية للاختلاف. ولهذا، فإن الحركات الاجتماعية باتت مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، بفتح جبهات المقاومة والصراع. لكن هذه المرة ليس على أرضية “الصراع الطبقي” بل على أرضية “الصراع من أجل الاعتراف” و “الصراع من أجل إعادة التوزيع الاقتصادي ” .
تعقيبوردود: هونت / فريزر
يعتبر كل من هونت وفريزر، بـأن الاعتراف مبحث أساسي لإعادة بناء النظرية النقدية. لكنهما يموضعان الاعتراف بشكل مختلف. يقترح هونت إطارا أحاديا للاعتراف ويستبعد من دائرة اهتمامه إطارا آخر. لا يستهوي هونت البعد الاقتصادي كطرف معادل للاعتراف، لأن آلية السوق الرأسمالي تقع في محيط الاعتراف. ومن ثمة، ف “الاعتراف وحده كاف للقبض على كل عجز معياري للمجتمع المعاصر وعلى كل السيرورات الاجتماعية وكل التحديات السياسية التي تواجه أولئك الذين يسعون إلى التغيير”[11]. في المقابل، ترى فريزر بأن الاعتراف وحده ” بعيد عن فهم مجمل الحياة الأخلاقية “[12] وتضيف قائلة ” الاعتراف، بالنسبة لي بعد حاسم، لكنه بالنظر إلى العدالة الاجتماعية، فإنه بعد محدود “[13].
ففي الوقت الذي تعتبر فيه فريزر أن ” المناصفة التشاركية ” تشكل الأساس النظري لإشكالية عدالة الاعتراف، فإن هونت يرى في هذا المبدأ مجرد إعادة إنتاج لذلك “الخطأ الفادح الذي سقطت فيه النظرية الماركسية”[14] لما ركزت تصورها المادي حول البروليتارية كطبقة أحادية الجانب. وهنا تكون النظرية التقليدية قد أساءت إلى الاعتراف، لأنها ركزت فقط على مفهوم المصلحة.
ينطلق هونت من التقسيم الثلاثي الذي يقوم عليه الاعتراف، وهو تقسيم يشكل تفاعلا واندماجا اجتماعيا: الحب – القانون– التضامن. يسترجع بذلك هونت نفس التقسيم الثلاثي الهيغلي: الأسرة- المجتمع المدني- الدولة. ومن خلال هذا التقسيم، يكون هونت قد احتوى كل انفلات محتمل من شأنه أن ينتصب، تحت هذه الذريعة أو تلك، كبؤرة أساسية تدعي لنفسها القدرة على معالجة الخلل المجتمعي. لم يفكر هونت ولم يخطر على باله قط، أن يمسك بالاحتقار كبراديغم منفلت من أعمال هيغل وميد (*) ويستعين به كإطار نظري مواز للاعتراف. وبالرغم، من أن مفعولات الاحتقار تمارس خدشا وجرحا في ” الذات التي طورها الفرد في إطار التبادل البينذاتي “[15]، فإن التجاوز والانعطاف، اللذين سجلهما هونت، من أجل بناء نظرية الاحتقار، ظلا في إطار علاقات اجتماعية وفي إطار براديغم الاعتراف.
يعتبر هونت أن الشكل الأولي للتفاعل الاجتماعي، هو الحب الذي يقوم على الحياة الأخلاقية الطبيعية. والحب يجسد تفاعلا طبيعيا، لأنه يقوم على احتياجات الفرد الملموسة. وبذلك يتمظهر الحب كشكل من أشكال الاعتراف و ” يندرج في إطار الروابط العاطفية القوية بين عدد محدود من الأشخاص، سواء على مستوى العلاقات الشبقية أو الصداقة أو الأسرة “[16].
أما الجانب القانوني في عملية الاعتراف، أو لنقل الاعتراف القانوني يتطلب تحديد العلاقة بين الذات والآخر. فالذات كحاملة للقانون يجب أن تكون على وعي بالمعايير الاجتماعية لتبدي اعترافا بالآخر من حيث إنه حامل لنفس المعايير والقوانين. وبما أن الذوات ” تخضع لنفس القانون، فإن الذوات القانونية تعترف تعاضديا ببعضها البعض كأشخاص قادرين على حمل حكم عقلاني ومستقل حول المعايير الأخلاقية “[17] .
أما فيما يخص التضامن أو التقدير، فإنه ينشأ من خلال ” تجربة المقاومة المشتركة ضد القمع السياسي “[18] الذي تتعرض له الجماعة. وهذا الشكل من التضامن، يولد علاقات بينذاتية وتقديرية بين الأشخاص، حسب القدرات والمؤهلات التي يتميز بها كل شخص إزاء القيم المشتركة .
تشكل هذه العناصر الثلاثة، أرضية ثقافية ممتازة لمعالجة كل القضايا المجتمعية (الدينية والإثنية والعنصرية والظلم والاستغلال… ) التي تنتصب في وجه النظرية النقدية كمرجعية امبريقية. وأي مشكل يخص عدالة التوزيع الاقتصادي يجب فهمه في إطار النموذج المعياري للاعتراف. إن المنعطف النظري للاعتراف يتجاوز الثقب التصوري لمفهوم الطبقة البروليتارية التي تتوحد تحت إطار جماعة مشتركة تحركها مصالح ذاتية نفعية. ومن شأن هذا التصور المادي، أن يضفي تشويشا على براديغم الاعتراف.
يؤاخذ هونت على فريزر تصنيفها للنماذج المثالية، حسب أطروحة ” الرمزي ” و ” المادي “، فينفلت من هذا التصنيف نماذج لا تحظى بالدعاية الإعلامية في الفضاء العمومي. فالهويات الاجتماعية التي تعاني من شدة البؤس توجد خارج الفضاء العام السياسي. وبالرغم من انخراط هذه الهويات في إطار حركات مدنية تحررية، فهي تقبع دوما على الهامش ولا تثير اهتمام النظرية النقدية. تدعم فريزر الحركات الاجتماعية المرئية التي تحظى بشرعية الصراع والمقاومة والفعل. لقد تجاهلت فريزر “العديد من الصراعات الاجتماعية التي تنشأ على ظلال الفضاء السياسي العمومي”[19]. نذكر من أهمها: حقوق الديانات الجديدة، النزعات الأصولية، النزعات المحلية، الإثنية البيضاء…هذا التجاهل للحركات اللامرئية يعني أن الحركات المرئية تشكل مركز الصراع الاجتماعي.
يدفع هونت بسياسة الاعتراف إلى مداها القصوى، من أجل احتضان حركات اجتماعية تقليدية ممتدة في ثنايا التاريخ، منذ مائتي سنة، لكنها أصبحت قوية بين 1800 إلى 1960. على عكس فريزر، فإنها تتجاهل هذه الحركات التقليدية “من أجل الوصول إلى فكرة مفادها أن الصراع من أجل الاعتراف ظاهرة تاريخية جديدة “[20] .
ترى فريزر، أن ما تقدم به هونت أسقطه ضحية فشل مزعج ، لأنه اختزل كل الإشكالات المجتمعية في ثقافة الاعتراف فقط. لقد فشل في تأمين مصداقية المرجعية الإمبريقية للنظرية النقدية. فانغمس في التعالي على حساب المحايث، فأنتج بذلك سيكولوجية أخلاقية للاعتراف على حساب السوسيولوجية السياسية. لم يهتم هونت بالتجربة السياسية لمعاناة الهويات، وهو بذلك يأخذ مسافة محترمة عن مجال الصراعات السياسية والمقاومات النضالية. لقد سقط الفضاء العممومي الشعبي أو المتعدد، كعمق استراتيجي من حسابات هونت، ولم ينتبه إلى مطالب الحركات الاحتجاجية الغاضبة التي تسعى إلى بلورة قرارات منصفة لاحتواء المعاناة السياسية المجتمعية. يبدو أن هونت غير متأثر بمطالب وقرارات الفضاء العمومي السياسي، حيث تتفاعل تجربة المعاناة والإحساس بالظلم. فإستراتيجيته تقوم على “دمج النظرية النقدية بسيكولوجية أخلاقية للمعاناة ما قبل سياسية “[21]، إنه يبحث عن معاناة لم تعرف طريقها بعد إلى التسييس. ليس ثمة سيكولوجية أخلاقية مستقلة، فالحياة اليومية رحلة ممتدة من المعاناة، الأمر الذي يتطلب مناصفة تشاركية لاحتواء الاستياء الاجتماعي. ففي “المجتمعات الديمقراطية لا يوجد جدار يعزل الحياة اليومية عن النزاعات السياسية التي يعرفها الفضاء العمومي “[22].
تعيب فريزر على هونت مقاربته للاعتراف من خلال تبنيه “نموذج هوياتي بنفحات هيغيلية، حيث يدرك الاعتراف كتطور أساسي للوعي الذاتي”[23]. تعارض فريزر النموذج الهوياتي بالنموذج القانوني. وهذا التعارض يفضي إلى أن النموذج الأول موغل في الذاتية والطائفية، لأنه يتشكل تحت روابط عاطفية ونزوعات شعورية. في حين، يتشبث النموذج الثاني ببناء عدالة اجتماعية مُمَأسسة، يشكل الفضاء العمومي والمناصفة التشاركية قوامها. تنتقد فريزر المنحى السيكولوجي، لأنه يختزل الظلم بكافة أشكاله في مواقف شخصية وفردية ويسقط بذلك في النزعة الاختزالية الثقافوية.
يمكن نعت المقاربة النقدية لفريزر، كونها لا تأسيسية. على عكس مقاربة هونت التي تبحث عن نقطة مركزية لإضاءة مجال الاعتراف. تتوزع مقاربة فريزر نحو مراكز عديدة، بحيث لا تقف عند شاطئ و لا ترسو عند مرفأ، إنها جانحة على الدوام نحو التعدد. في حين أن النظرية النقدية كما يتصورها هونت “عبارة عن صرح نظري بُني بشكل مدهش من الأسفل إلى الأعلى “[24].
تعقيبوردود: فورست / فريزر
من باب إغناء هذا النقاش الذي يدور حول موضوع الاعتراف، يتدخل راينر فورست معقبا: هل تتطلب سلط العدالة توزيعا ماديا أو ثقافيا ؟
تقوم النظرية النقدية لدى فورست على نقد “سلطة المعيار” الاجتماعي، أي نقد العلاقات السلطوية. فعندما “ينخرط الشعب في صراعات ضد اللاعدالة، فإنه يصارع أشكالا من السيطرة “[25]. وقد يساهم هذا النقد في منح فرص تعبيرية وفي انبثاق عدالة اجتماعية جديدة تشمل ضحايا سوء التوزيع الثقافي والاقتصادي. ويعتبر التبرير ( Justification ) بؤرة مركزية لبناء هذا الرهان النظري النقدي .
إن الشخص الذي يطالب بالتبرير، هو ذلك الشخص الذي يقع خارج التوزيع والإنتاج، كما أنه عرضة لممارسات احتقارية تخدش كرامته. وعليه، فالجهات المسؤولة عن هذا الفعل، أكانت سلطات سياسية أو اجتماعية، يجب أن تقدم تبريرات عن ممارسات اقترفتها وخلفت آثارا مادية ونفسية على ضحايا سُلبوا من حقهم في الكلام والفعل، كما تعرضوا للإهانة وعدم الاحترام .
يبدو أن فورست يدافع عن سياق الاعتراف في إطار فضاء التبرير. وبهذا المعنى، فإن فورست يعيد للسؤال الفلسفي الإغريقي وجاهته: ما علل الأشياء ومبادئها ؟ إنه يطالب بأصل الفعل ولا يتوجه إلى نتائج الفعل. فالمسألة تبدأ بسؤال مركزي: “من يضع الأسئلة ومن يمتلك سلطة الإجابة ؟”[26]. لما تتحدث فريزر عن سوء التوزيع، كشكل من أشكال الظلم الاجتماعي، فإنها تطالب بتفعيل مبدأ المناصفة التشاركية من أجل سيادة الإنصاف الاجتماعي. لكن، فورست لا يروقه ربط العدالة بمبدأ المناصفة التشاركية، وإنما يربط العدالة بسياسة التبرير، ولذلك يراهن على أن “الأسئلة في إطار الفلسفة السياسية يجب أن تبدأ بالتبرير “[27] ، طالما أن البؤرة الأساسية في التوزيع لم تكشف عن تبريراتها.
لا يجب على الجماعة السياسية أن تضع مسألة التوزيع في مربع البحث عن الأسباب. فالبحث عن الأسباب لا يشخص الوضعية القلقة لعدالة الاعتراف. فالنظام التبريري لا ينطلق من هذه الأسئلة : لماذا هذا التوزيع وليس ذاك؟ أو لماذا هذه الجماعة تملك دون الجماعة الأخرى؟ إن الهاجس الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للتبرير، يتجه صوب تحديد الجهة المالكة أو الجهة الموزعة للخيرات. ثم، يسأل عن دعاويها المعيارية ؟ وكيف تتمثل صورة الهامش المنزوع من حقوقه؟ …
إن أزمة التوزيع بشقيه الاقتصادي والسياسي، تعود حسب فورست، إلى صياغة سلطة معيارية خارج الإرادة التبريرية للجماعة. والسلطة على هذا النحو هي ” قاعدة بدون تبرير“[28]. فالجماعة من حقها أن تنخرط في مطالبة تبريرات معقولة وعادلة وملموسة، لأن النظام المعياري لا يكتسي شرعيته السياسية والاجتماعية، إلا من خلال تبرير مُمَأسس. فالتوزيع المأمول هو توزيع “سلطة المعيار“، لأن السلطة لا تتمركز في جهة ما (السلطة التقليدية) ولا تمتد في ثنايا المجتمع بصورة خفية (السلطة التوزيعية)، إنما السلطة “معياري محايد “[29]. يعني، أن السلطة يجب أن تندرج في سياق الاعتراف، ولذلك فهي ” ليست بجيدة ولا بسيئة “[30] طالما أنها محايدة .
في هذا المسعى، يقدم لنا فورست مثال الكعكعة: لنفترض أن ربة بيت تتأهب لتقسيم كعكعة، فلابد أن تسـأل نفسها عن كيفية التوزيع ؟ وفي هذه اللحظة، لابد أن نتساءل من جهتنا: هل السلطة حاضرة لحظة التوزيع أم قبل التوزيع ؟ ثم، من لعب دور الأم ؟ ومن كان وراء إنتاج الكعكعة ؟ ومن “حدد بنيات الإنتاج والتوزيع؟ “… إنها أسئلة انطولوجية ووظيفية وأخلاقية، تتعلق أولا، بكيفية وجود الشيء، ثم بوظيفة الفاعل الاجتماعي أو السياسي. وأخيرا بالمسؤولية الأخلاقية.
يحرص فورست على توزيع الخيرات وفق “إجراءات تبريرية مؤسسة”[31]، لتحديد المسؤولية. تبدأ الأسئلة لما يدرك الشخص أنه يرزح تحت ثقل معايير أو ممارسات مؤسساتية، تُسيد نظامها المعياري ضدا على إرادات أشخاص، مما يدفعهم إلى طلب افتحاص صلاحية هذه المعايير مع إمكانية رفضها أو إعادة تحديدها. فالمعيار لا يكتسي شرعيته إلا على أرضية تبريرية. ولهذا يؤكد فورست على أنه “يجب على المعايير أن تكون دائما مبررة وفي توافق مع دعاوى الصلاحية “[32].
يتطلب مبدأ التبرير كواجب أخلاقي، معيار ” التبادلية والتعميم” (Reciprocity and Generality). تعني التبادلية أنه “لا يمكن لأي أحد أن يرفض مطالب خاصة بالآخرين “[33] . أما التعميم، فإنه يعني تلك المعقولية التي تحظى باتفاق الجميع، أي “أن تكون دعاوى القواعد الأساسية العامة ذات صلاحية مشتركة “[34]. إن معيار “التبادلية والتعميم” يجب أن يكون خطابيا. ففي إطار التوزيع، فالعلاقة بين المتحاورين تتوزع حول قضايا تخص ” من ” ( الملكية ) أو “كيف” (كيفية التوزيع )، لأن مثل هذه الأسئلة ترمي فقط إلى الحصول على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. أما بخصوص إعادة بناء الحجج، التي يفترضها المبدأ الخطابي الهابرماسي، فإنه ينطلق من شروط أخلاقية جماعية لتبرير معيار “أحسن حجة“. لكن، سلطة التبرير الخطابي الذي يفترضه فورست، يختلف مع هذه المسارات التي تسعى إلى بناء افتراضات خطابية أو إلى بناء مبدأ الخطاب. يتوجه فورست نحو بناء خطاب أخلاقي (الحق في التبرير) نظير خطاب السلطة (سلطة المعيار). وفي خضم هذه السيرروة التي تتطلع إلى الاعتراف، تتبلور الأسئلة التالية: ” لماذا فعلت هذا بي ؟ ” أو ” لماذا هذا القانون وليس قانونا آخر؟ ” أو ” لماذا هذه الصياغة وليست صياغة أخرى؟”… وهذه الأسئلة تتطلب معنيين: معنى يخص طلب تفسير حقيقي “ماذا سبب لي فعلك ؟ “. ومعنى يتطلب تبريرا أخلاقيا ” لماذا فكرت في هذا ؟ ” . فإذن، ” كل شخص أخلاقي له حق الفيتو ضد أفعال أو معايير غير مبررة أخلاقيا. كما له الحق في أن يثبت ويطالب بالأسباب الملائمة “[35] .
إن معيار ” التبادلية والتعميم” بوصفه معيارا خطابيا (طلب وتقديم التبرير) شكل “منعطفا سياسيا” إزاء النظرية النقدية للعدالة بوصفها نقدا للعلاقات التبريرية. وعلى هذا الأساس، فإن “العدالة، أولا وقبل كل شيء، نهاية سيطرة تعسفية غير مبررة “[36].
ففي إطار الردود التي تبديها فريزر حول تعقيبات فورست، فإنها ترى أن نقط الالتقاء بينهما كثيرة من بينها:
يجب أن تكون النظرية النقدية منفتحة على سياقات الاعتراف، وفي نفس الآن أحادية المعيار. ” أتفق مع فورست أن النظرية النقدية للمجتمع المعاصر ينبغي أن تكون نظريا اجتماعية ومعياريا أحادية ومتعددة الأبعاد “[37] .
يجب أن تكون أهداف النظرية النقدية ممأسسة وتحريرية وعملية.
نظرية هونت النقدية مشوشة ومضطربة، من زاويتين: الأولى ” لا يستطيع الاعتراف الأحادي الجانب تحديد أنواع كبرى للظلم البنيوي في المجتمع المعاصر، لأن الظلم التوزيعي ليس دائما نتاج سوء الاعتراف، ولذلك تحتاج النظرية النقدية إطارا تفسيريا متعدد الأبعاد”. أما الثانية: ” يفشل الاعتراف أحادي الجانب في إمداد الأساس المعياري الملائم للنقد، لأن المفهوم الغائي للاعتراف لا يمكنه تبرير التزامات العدالة داخل التعددية الإتيكية. وتحتاج النظرية النقدية إلى الفلسفة السياسية التي تقوم على فكرة الواجب، حيث ينبغي أن تكون أحادية المعيار “[38].
تسمح المقاربة الخطابية لكل المتضررين بالمشاركة وتبادل الحجج .
وبالرغم من نقط الالتقاء التي تبديها فريزر، فإنها بالمقابل تشير إلى دوائر الاختلاف بينها وبين فورست. فإذا كانت المقاربة النظرية التبريرية تستعين ب” النحو الشكلي” أو “الفرضيات النحوية” في إطار العلاقات الحوارية بين الأعضاء، فإن فريزر على العكس من ذلك، ففي مقاربتها التشاركية تستعين بالعلاقات الاجتماعية بين الأطراف المتحاورة. ففي هذا الصدد، ترتبط فريزر ” بالسياق البنيوي الاجتماعي”[39] ، على عكس فورست الذي يركز على الجوانب الداخلية، على مستوى السيرورة التشاورية، من خلال “الفحص الدقيق للتركيب اللغوي النحوي”[40]. ويبدو أن حصة النقد، في هذه النقطة بالذات، التي حاز عليها هونت، هي نفسها التي سرت على فورست .
تؤاخذ فريزر على فورست نزعته السياسوية، لأنه يتصور المجال السياسي كبعد أساسي للعدالة. فالرؤية السياسية في منظور فورست تشكل في حد ذاتها “عالما أوسع رحابة وأكثر استقلالية من نظرية ثنائية الأبعاد”[41]. على عكس نظرية ثنائية الأبعاد، فإنها ترصد وتتربص على مساحة نقدية واسعة بكل مظاهر السلطة التي تسود فضاءات الحياة الاجتماعية. إنها تلاحق ما يعجز عن ملاحقته فورست، لأن مجال اشتغاله ورصده لتبرير الفضاءات الاجتماعية ضيق. تقطع النظرية النقدية لفريزر مع الاختزال السياسي وهيمنة البعد السياسي، لتقتفي آثار السلطة في ثنايا الممارسات الاجتماعية. فالنزعة السياسوية في النظرية النقدية لفورست، تضيق الخناق على مجال النقد المعياري للممارسات التبريرية، لكونها تصور الأشخاص على نفس موجة الإرسال والاستقبال للتبرير بدون خلفية التموقع الاجتماعي والقدرة على تجسيد الاستقلالية والمهارة الذاتية. وبهذا الاختزال، ترفض فريزر الممارسات التبريرية في نطاق سياسي خاص، لكونها ” تقيد نمطا من الممارسة الاجتماعية التي تفيد طلب والحصول على تبريريات سياسية “[42]. وبهذا المنطق، تدفع فريزر بالنقد المعياري للممارسات الاجتماعية إلى حدوده القصوى، ليشمل فضاءات مهجورة كبرى تشكل أساس الحياة الاجتماعية للأفراد .
كلمة الختم
إن الخطاب النقدي اليوم يتوجه إلى محاصرة كل أشكال الظلم، سواء في بعده الأحادي أو الثنائي أو التعددي. فالجماعات السياسية مطالبة بتكثيف الجهد، من أجل تغيير موازين قوة المعيار وصلاحيته، سواء لفائدة أحسن حجة، أو لفائدة منطق التبرير، او لفائدة التشارك … فهذه الرهانات المتعددة، إنما تسعى إلى مواجهة الثقوب التصورية الليبرالية. ذلك أن النسق الليبرالي تقوم إستراتيجيته الصماء على خلق ظواهر اجتماعية قلقة تتفاعل امتداداتها داخل وخارج سيادتها الترابية.
لم تعرف النظرية النقدية انعطافات فلسفية، بالقدر الذي عرفته مع هابرماس (النظرية التواصلية) ومع هونت (نظرية الاعتراف) ومع فريزر (الاعتراف السياسي والاقتصادي) ومع فورست (نظرية الإنصاف التبريري). وبهذا المعنى، تكون النظرية النقدية قد اغتنت من جراء تحولات هامة لحقت بناءها النظري الاجتماعي، الأمر الذي مكنها من السفر نحو جغرافيات عديدة، فاستقبلت بإعجاب شديد.
المصادروالمراجع:
Fraser Nancy.Justice Interrupus :Critical Reflections on The ‘Postsocial’ Condition.Routledge.1997.
Fraser Nancy.Qu’est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution. Trad.par.Estelle Ferrarese. La découverte.2005.
Fraser Nancy and Axel Honneth. Redistribution or Recognition ? A Political-Philosophical Exchange.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane Wilke.Verso.London.2003.
Fraser Nancy.Transnationalizing The Public Sphere:On The Legitimacy and Efficacity of Public Sphere Opinion in Post-Westphalian World.in.Identities,Affiliation and Allegiances.Edit.by.Seyla Benhabib and Danille Petranovic.Cambridge University Press,2007.
Fraser Nancy.Fortunes of Feminism: From State-Managed Capitalism to Neoliberal Crisis.Verso.2013.
Fraser Nancy.Distorted Beyond all Recognition:A Rejoinder to Axel Honneth.in. Redistribution or Recognition ? A Political-Philosophical Exchange.Edit.by.Fraser and Honneth.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane Wilke.Verso.London.2003
Forst Rainer. Justification and Critique:Towards a Critical Theory of Politics.Trans.by.Ciaran Cronin.Polity Press.2011.
Honneth Axel.La lutte pour la reconnaissance.Traduit de L’Allemand Par.Pierre Rusch.Edition.Cerf.2010
Rainer Forst.The Right to Justification: Elements of a constructivist Theory of justice.Trans.Teffrey Flynn. Columbia University Press.2007
Rainer Forst.First-Things-First.Redistribution;Recognition and Justification.in.Adding to Injury:Nancy Fraser Debates Her Critics.Edited by.Kevin Olson.Verso.2008
[1] Ferrarese Estelle, Nancy Fraser ou la théorie du « prendre part ».p.1.in. http://www.laviedesidees.fr/Nancy-Fraser-ou-la-theorie-du-prendre-part.html.PDF
[2] Casanova Vincent et Gaelle Krikorian.Entretien avec Nancy Fraser, Devenir Pairs.in. http://www.vacarme.org/article2005.html
[3] Nancy Fraser.Justice Interrupus :Critical Reflections on The ‘Postsocial’ Condition.Routledge.1997.p.188.
[4] Nancy Fraser.Qu’est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution. Trad.par.Estelle Ferrarese. La découverte.2005.p.15.
(*) ترمي الوضعية التصحيحية إلى إعادة الاعتبار، في حين الوضعية التحويلية تسعى إلى التحرر. فإذا أخذنا حالة المثلية، فإن الإستراتيجية التصحيحية تقود إلى الدفاع عن كرامة الهويات المثلية، في حين أن الإستراتيجية التحويلية تسعى إلى تفكيك المعيار الثنائي: الغيرية الجنسية في مقابل المثلية، وهذا الذي تود حركة كوير (Queer) تحقيقه. وعموما يمكن القول، إن الحلول التصحيحية تجهز على الاختلاف وتجمده. أما الحلول التحويلية، فإنها تروم إحداث انعطافات وتغييرات جذرية.
[7] Nancy Fraser and Axel Honneth. Redistribution or Recognition ? A Political-Philosophical Exchange.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane Wilke.Verso.London.2003.p.36.
[8] Nancy Fraser.Transnationalizing The Public Sphere:On The Legitimacy and Efficacity of Public Sphere Opinion in Post-Westphalian World.in.Identities,Affiliation and Allegiances.Edit.by.Seyla Benhabib and Danille Petranovic.Cambridge University Press,2007.p.61.
[9] Nancy Fraser.Fortunes of Feminism: From State-Managed Capitalism to Neoliberal Crisis.Verso.2013.p.166.
[10] Nancy Fraser and Axel Honneth. Redistribution or Recognition? op.cit.p.27.
[11] Nancy Fraser.Distorted Beyond all Recognition:A Rejoinder to Axel Honneth.in. Redistribution or Recognition ? A Political-Philosophical Exchange.Edit.by.Fraser and Honneth.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane Wilke.Verso.London.2003.p.199.
[14] Nancy Fraser and l Honneth Axel. Redistribution or Recognition?.op.cit.p.124.
(*) هربت ميد ( George Herbert Mead) (1863 – 1931 ) فيلسوف أمريكي وعالم اجتماع ومحلل نفساني. ويعتبر واحدا من مؤسسي علم النفس الاجتماعي. من أعماله “الحركات الفكرية في القرن التاسع عشر” و ” فلسفة الحاضر”…
[15] Honneth Axel.La lutte pour la reconnaissance.Traduit de l’Allemand par.Pierre Rusch.Edition.Cerf.2010.p.115.
[23] Alice Le Goff. The Political Theory of Recognition.Revue Du MAUSS Permanente (9 Decembre 2007).in. http://www.journaldumauss.net/?The-Political-Theory-of
[24] Nancy Fraser.Distorted Beyond all Recognition.op.cit.p.207.
[25] Rainer Forst. Justification and Critique:Towards a Critical Theory of Politics.Trans.by.Ciaran Cronin.Polity Press.2011.p.21.
[35] Forst Rainer.The Right to Justification.op.cit.21.
[36] Forst Rainer.First-Things-First.Redistribution;Recognition and Justification.in.Adding to Injury:Nancy Fraser Debates Her Critics.Edited by.Kevin Olson.Verso.2008.p.315.
[37] Nancy Fraser. Prioritizing Justice as Paticipatory Parity. A Reply To Kompridis and Forst.in. Adding to Injury.op.cit.337.