تأنيث الكتابة

*سعيدة تاقي

وَسْم العالَم بالمؤنَّث مطْلبٌ متجدِّد لكنه ليس بالجديد، فالعالم منذ بدء الخليقة فضاء مشترَك بين الجنسين. لكن قـضت السلطة الاجـتماعية والفكرية والديـنية والسـياسية بـروافدها الـمادية والرمزية أن تحاصِر “الأنثى” وأن تكيل لها على يد شريكها في الحياة والفعل والوجود والخلود “الذَّكر” كلَّ مواثيق التقييد والاستبداد والاستغلال. لقد رصفت شهرزاد (التي صنَعها المجتمع الذكوري) من قبل لياليها بوهم سطوة التأنيث لكنها ظلَّت رهينة الليل والغبش والعتمة تقتات الحياة حكايةً ممتدَّةً على حواشي سرير شهريار، تُحكِم عليه سطوة الحكي بما تعــلَمُه وتُنــتِجه من سحر السرد ليلاً ويُحكِمُ عليها سطوة الذكورة والفحولة والقوة بما يعلَمُه من المجتمع وبما تعلَّمَه منه وبما يشارك في إنتـاجه وإعـادة إنـتاجه من قـيم وأعـراف لـبـاقي اليوم. وبذَّت “تودُّد” (سليـلة حكايات شهـرزاد) الفـقـهاء والعلماء وأهل النظر والحكمة وجرَّدتهم أمام الخليفة هارون الرشيد من ثيابهم نكاية بفضلهم وعلمهم، لكنها ظلت “الجارية” في حُكْم التاريخ والرواية والسرد شخصيةً تخرج من المخدع لتعود إليه. ولم تكن الـكـتـابة أو اللغة أو الفـعــل في كل ذلك إبـداعا يُـسلِمُ مـقـاليدَه للأنـوثة بصدق ونزاهة، بل كانت الفحولة تلوِّن كلَّ اللوحات، وكانت اللغة في كل ذلك، ومازالت، تجأر بذكورة المجتمع وباستبداد الفحولة بكل موازين التساوي أو العدالة أو الأنسنة.

ولـقـد اسـتـوت بـين أرفـف الـتـاريـخ، قـبـل ذلـك وبعـده، وبين أرفـف الـفـن والـعـلـم والأدب و الشـعـر والـقـصة والـرواية والمـسرح والفكر والفلسـفة والنـقـد والإعلام والسياسة أفعال مقاومة عديدة أعادت تنضيد الرؤى الجامدة وبثَّت في الخوابي شعلة تجدُّد وبعث وإحياء. وسعت إلى أن يغدو فعل الكتابة/التفكير مخلِصا للذات الكاتبة التي أنتجته دون اتكال على استبداد مطلق، أو اختفاء خلف ظل ذلك الآخر. لكن اللغة وهي “مَسْكَـن الإنسان”، وفق هايدغر، سابقة في الوجود والحدود والتسميات على وجود الكائن الإنساني، ومن ثم فإن اللغة لا يتكلَّمُها الإنسان بل إنها تتكلَّمه إذ تحدِّدُه وتسِمُه وتسمِّيه. لأجل ذلك لا يمكن النظر إلى صوت المرأة المميَّز مثلا في الكتابة وننسى أن اللغة تضع مدخل صيغة “أَمرأ” في معجم “المعاني” كالآتي:

مَرَأ: (اسم)

مَرَأ : مصدر مَرِئَ

مَرَّأ: (فعل)

مَرَّأْتُ ، أُمَرِّئُ ، مَرِّئْ ، مصدر تَمْرِئَةٌ

مَرَّأَ الضَّيْفَ : قَالَ لَهُ : هَنِيئاً مَرِيئاً

مرَأ: (اسم)

مرَأ : فاعل من مَرُؤَ

مرَأَ: (فعل)

مرَأَ يمرَأ ، مَراءةً ، فهو مَرِيء

مرَأ الطّعامُ: كان سائغًا مقبولاً، سهُل في الحَلْق، وحُمِدت عاقبتُه

هنأني ومرأني الطّعامُ

مَرَأَ فلانٌ: طَعِمَ

ولنعتد بأنّ “امرأة” وهي الصيغة الوحيدة في اللغة للجنس المؤنث هي في مداخل معجم اللغة:

امرأة

أنثى المرء، جمع: نساء ونسوة (من غير لفظها)

في حين أن “امرؤ”

أمرؤ- و إمرؤ

– رجل ، مؤنث امرأة . وتحرك «الراء» بحركة آخره، فيقال: «امرؤ ، امرأ ، امرئ». ولا تدخل عليها «أل» التعريف.

وفي ضـوء ذلك نـرى أن اللـغـة لـيـسـت بــريـئــة مـنـذ زمـن الـوضـع والاصـطـلاح والمواضعة والاتـفـاق أوالتوفيق، ومـازالت كذلك، تحمل بين ثـنـايـاها فوق المعـنى معـانٍ ومـبانٍ وكـيـانات وفلسفات وتواريخ وأيديولوجيات. فكيف باللغة أن ترتدي زيّ “المؤنَّث” لأن من كتبتها ذات مؤنثة؟ وهل تستطيع اللغة أن يطالها “التمكين” المؤنِّث للعالَم لأن الذات التي صاغتها ذات كاتبة مؤنَّثة؟

إن اللغة ليست لغة الرجل. هو لم يمتلِكها لكي تكون له وحده دون أن تكون للمرأة، لكنه قد صاغـها منذ قـرون بأثر رجعي، يخـلِّد لحـظة سـابقة في الـزمـن اسـتـبد فيـها بالـتـاريـخ واللغة والفكر والمجتمع والدين والسياسة والفن، وتملَّك بسطوة ذلك الامتلاك تاريخيا كلَّ الامتيازات التي جعلتْ مفهوم “القِوامة” الفقهي يمتد خارج أصول الفقه لكي ينسحب على كل المجالات والمتون والهوامش. فغدا الفضاء العام فضاء للرجل بمفرده يخضع لمزاجيته وأهوائه واكتساحاته أو انسحاباته. وامتد الأمر ليلحق كل الفضاءات من فضاء حقيقي أو كتابي أو سردي أو تخييلي أو أدبي أو ثــقافي أو اجـتماعي أو ديـني أو سـياسي أو فكري أو وجودي. إن الأثر استبد حتى بامتلاك الجسد فالمجتمع ملَّك الـرجلَ جـسده الخاص وجسد المرأة كذلك، ووضعه رقيبا على وجودها المادي في هذا الكون عبر تسلُّطه على جسدها وحضوره وغيابه وخواصه وأزيائه و حركاته… والتبس زمن الليل برداء الفحولة، وما أمكَـنَه أن ينعطف ولو قليلا بعيدا عن تلابيب ما يقتضيه ذلك الرداء من خيالات وأوهام وأطياف.

وحين تمكّنت الكاتبة من تملُّك أدوات المقاومة والرفض والفعل المضاد ضد كل صيغ التقــييد والاستــبداد والاحــتكار والاستــغلال عبر التعبير بصوتها الخاص عن رؤيتها للعالَم وللحياة وللوجود وللإنسان وللموجودات وللآخر/الرجل، فإن الكــتابة منذ المنطلق الأول في الخلق والصياغة والتشكيل والتوليف فعلُ وجود مؤنَّث ومؤنِّــث يُنفي بدايةً قالبَ “المفعول به” أو “المفعول فيه” أو “الموضوع” ، ذلك القالب الذي ظل لقرون طويلة لصيقا بالفنون والآداب منذ الشعر الغنائي وأغراض الغزل والنســيب والتشــبيب إلى العــذريات أو المُــجُـونيات والنحت والتجسيم والتشكيل والرسم.

ويلغي فعل الكتابة المؤنَّثة والمؤنِّثة ثانياً منطق الغلبة للأقوى أو للذي يملك “القِـوامة” أو الامـتـياز الـتاريخي بوضع يده (الرجل/الذكر) على اللغة والكتابة والتفكير والإبـداع. ويروم فعل تأنيث الكتابة ثالثا أن يشيِّد من منظور “الذات الكاتبة” كل “الموضوعات” التي تراها أو تتحدَّد خارج وعيها بذاتها تلك الذات الوجودية المؤنَّثة (بفتح النون) والذات الكاتبة المؤنِّثة (بكسر النون) في العالم وفق منظورها ورؤيتها وإدراكها. ولنتأمل في هذا المنعـطف الـثـالث بقـليل من الـسذاجة وكثير من الحيطة السؤال المطروح مقاميا للنقاش في معرض هذا المقال وغيره من مقالات الملف، لماذا نتساءل: هل تحقَّق صوت المرأة المختلف في كتاباتها أم إنها تكتب بصوت المرأة ولغة الرجل؟

هل لأن صوت الرجل هو الأصل بالفطرة والتاريخ والطبيعة ومادام صوت المرأة يلــوح في الأفــق فعليه أن ينــافس صوت الــرجل ويــواجهه ويقاومه من منطلقات الندية والمبارزة والتفوق والفوز؟

أم لأن صوت الرجل مجرَّدٌ ومحايد وأبيض لا لون له ولا تميُّز له، بـريء من كل انـتماء إلى أحد الجنـسـيـن (الرجل ـ المرأة)، وعلى صوت المرأة أن يوسَم بصوت المرأة ولغتها وكتابتها لأن المرأة تبني موقفاً وقضيةً تلونُ صوتها وتجعله مختَلِفاً عن كل سائد أو غالب أو مستبد؟

أم لأن صوت الرجل صوت ذكوري يعـبِّـر عن الـذكر وعن اســتبداده بكل الامتيازات والحقوق من منطلقات الاحتكار والسيادة التاريخيين وعلى صوت المرأة أن يكون كفؤا في المقاومة والدفاع والنضال لصالح العدالة الاجتماعية والتمكين النسائي؟

قد تكــون الإجــابات مترددة أو غير مُبصِرة والأســئلة بمفــردها قادرة على النظر بعمق وبعـد بصيرة وتأمل. لكن يمكن القـول بإيـجاز إن تـأنيث الكـتابة والفـكر والإبـداع والتـشكيل والعـلم والدين والفـقه والشريعة والتفسير وكذلك الخطابات التي تُنتَج بالموازاة من خطابات اجتماعية وثقافية وحضارية وسياسية يمضي في اتجاه تمكين الصوت الذي سُلبت كل امتيازاته باسم كل السُّـلط لقرون عديدة، لكنه يعني كذلك أن العالَم يستطيع أن يسَع بعـدالة الصوتـين معاً بتـميُّـز كل منهما بحقِّه في إعــمال النـظـر والـقـول والخطاب والإبداع والكتابة، وبحق الكاتبة الأنثى كذلك في الكتابة المضادة المُقاومة لكل تحجـيم أو استـبداد واحـتكـار حَصَرها لزمن طويل في مساحة “الموضوع المتحدَّث عنه/المفعول به” وألغى إمكاناتها بوصـفها “ذاتــا فاعــلـة” قـادرة على المبادرة والإنـجاز والإنـتاج والفعل.

إن تأنيث الصوت وتأنيث الكتابة سيفضيان بالضرورة إلى تأنيث اللغة رغم إكراهات الأبنية والصيغ والاشتقاقات، لأن الحفر العميق في متون اللغة بمنظور الأنثى سيولِّد من رحم اللغة المؤنَّث حيزاً أرحب يسع الكائن البشري بكل إمكاناته واحتمالاته وافتراضاته مثلما يسَع جنسَه أو وسْمَه أو تسميَتَه.

___
*العرب/ 
المقال ينشر بالاتفاق مع”الجديد” الشهرية الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *