شعرية الأواني المستطرقة

*خيري منصور

تلتقي معظم المقاربات النقدية وفي شبه إجماع حول جدلية الشكل والمضمون في النصوص الأدبية، فالشكل ليس مجرد قشرة يمكن انتزاعها، لأنه ذائب ومنصهر في أنساغ النصّ، وبالمقابل هناك شبه إجماع على أن الشكلانية سواء تعلقت بالأدب أو الفكر اقترنت على الدوام بمناخات ساد فيها الفراغ وانحسرت مساحة الواقع، بل الحياة برمتها لصالح التجريد، بحيث يبدو المشهد الثقافي أشبه بالأواني المستطرقة، ويشمل التراجع الفنون كلهّا لأنها تتغذى من النبع الإنساني ذاته، وإن كانت تختلف في المجرى والمصب.
في فترات الانحطاط التي مرّ بها تاريخنا العربي اختلت المعادلات كلها، وتغلبت النزعة الشكلانية على كل ما عداها، فالشعر مثلا استغرقته ألعاب مجانية من طراز كتابة قصيدة عن القبر تصطف مفرداتها على شكل قبر بشاهدتين، أو التلاعب بالمترادفات بحيث يصبح النصّ صوتا بلا معنى.
وقد يرى البعض أن هناك تيارات شكلانية ظهرت في الغرب من طراز القصيدة التي تأكل نفسها، أي التي تنتهي إلى مفردة واحدة بعد أن يقضم الشاعر ما يشاء منها، لكن هذه الشكلانية سرعان ما ارتطمت بجدار وعاد الشعر إلى جوهره، على الرغم من أن تيارات كالسريالية والدادائية والمستقبلية حاولت تحرير الشعر من كل محدداته أو تعريفاته الكلاسيكية، ما دفع ناقدا هو البروفيسور باورا إلى تأليف كتاب بالغ الأهمية يدافع فيه عن المعنى في الشعر، خصوصا بعد أن بلغ الاستخفاف بالمعنى ذروته لصالح الصوت المبهم، كما في قصيدة للشاعر بالازتيش نقتطف منها:

تري تري تري
فرو فرو فرو
ايهو ايهو ايهو

وكنت اتصور أن هذا النمط من اللاشعر قد تلاشى بمرور الزمن، غير أنني فوجئت ذات يوم وأثناء مشاركتي في مهرجان لوديف الفرنسي أن هناك شعراء من طراز بالازيتش ولوموتوف وغيرهما، يواصلون هذا العزف على طبول لا تقول شيئا غير إفساد الأصوات الشجية للنايات.
ما حاوله باورا من خلال دراسة معمقة لأهم شعراء العصر الحديث هو التوصل إلى أن الاختلافات شبه الجذرية بين شعراء مثل لوركا وإليوت وكفافي في الأساليب والرؤى لم تحل دون بقاء الشعر بمعناه الجوهري قاسما مشتركا بينهم، وحين تحدث باورا عن تجارب شعرية تبدو أقرب إلى الشكلانية كقصائد أبولينير، وجد أن ما يبدو مجانيا هو في حقيقته ذو معنى ودلالات وإيحاءات، فهو حين يحذف النقاط والفواصل في شعره يريد أن يجبر القارئ على قراءة قصائده بمستوى صوتي رتيب، شأن قراءة الأناشيد الدينية والتراتيل، ويعيد باورا ذلك إلى أن أبولينير كان طفلا من أطفال الطبيعة بما فيه الكفاية. لهذا نجد مثلا أن قصيدة «شراع» التي كتبت من كلمة واحدة متكررة هي كلمة شراع تبدأ مساحة سطر… ثم تتآكل بهدف رسم الشراع التي يتلاشى عند الأفق.
وانتهى باورا إلى نتيجة حاسمة هي النهايات غير الشعرية لهواة التلاعب بالكلمات بمعزل عن المعنى، ويذكر من هؤلاء كروتشنيك الذي انتهى إلى تأليف حكايات مسلية، وكامنسكي الذي انتهى إلى الكتابة عن الطيران، وماريني الذي انتهى إلى تأليف كتب عن فن الطبخ، وبيريلوك الذي انتهى إلى كتابة تعليقات شبه سياحية عن نيويورك، وهذا ما حدث إلى حدّ كبير في تاريخنا الشعري، حيث طوى النسيان نظّامين وشعراء مناسبات ومتسولين كان رائدهم الحطيئة الذي أوصاهم بالمسألة، وحين سئل عن المسألة قال إنها الكديّة.
وأعترف بأن ما دفعني إلى هذه المراجعات بعجالة هو ما انتهى إليه شعرنا العربي الحديث، في غياب الرصد والمتابعة النقدية، إضافة إلى إهمال الثقافة وتهميشها والاستخفاف بكل ما تفرزه، فقد وجدت للمثال فقط مشتركا بين عناوين أفلام سينمائية لست بحاجة إلى توصيفها وبين بعض ما ينشر من شعر عبر وسائل التواصل، التي أصبحت مهددة بأن تتحول إلى وسائل قطيعة مع الجذور والمرجعيات. والمشترك بين عناوين تلك الأفلام وأساليب كتابة الشعر هو ما يمكن تسميته قطع المتواليات في المعنى بهدف إدهاش لا يدوم أكثر مما تدوم شعلة عود الكبريت. وكانت بداية هذه العائلة من الأفلام الصعود إلى الهاوية، ولخمة راس بإضافة نقطة على الحاء بدلا من أكلة شعبية معروفة هي لحمة راس ونمس بوند بدلا من جيمس بوند واللص والكتاب بدلا من «اللص والكلاب» رواية نجيب محفوظ، و«فول الصين» العظيم بدلا من سور الصين العظيم، و«ظرف طارق» بدلا من ظرف طارئ، ومهرجان التسول بدلا من مهرجان التسوق، واللحم الأبيض المتوسط بدلا من البحر الأبيض المتوسط، وكانت قد مهدت لهذه اللعبة أعمال كوميدية من طراز فارس بني خيبان، بدلا من فارس بني حمدان، ولو قدمنا عينات مما يقترف من نصوص باسم الشعر، لوجدنا أنها تلتقي مع لعبة عناوين الأفــلام، وكأن الشعر مجرد قطع متواليات المعنى، ناسين أن استخدام عبارة الثلج الأسود أو الظهيرة السوداء، حين تتكرر تسقط مجددا في المألوف، إنها شعرية الأواني المستطرقة، التي لا بد أن تنتهي إلى ما توصل إليه باورا، لأنها أشبه بباروكات من كلمات تغطي رأس لغة صلعاء حسب تعبير يوجين يونسكو.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *