الهيمنة وثقافة الاستهلاك


* د. حياة الحويك عطية

في بداية التسعينات من القرن الماضي نشر الكاتب السياسي الفرنسي اينياسيو رامونيه كتاباً بعنوان «سادة العالم الجدد»، وكان يقصد فيه بالتفصيل الشركات المتعددة الجنسيات التي استهلت هيمنتها الكاملة على العالم. هذه الهيمنة لم تكن جديدة ولكن حجم قوتها هو الذي أصبح جديداً. فاللوبي الصناعي العسكري هيمن على الولايات المتحدة بشكل تكرس نهائيا في عهد نيكسون الذي قال في خطاب استقالته بوضوح: «إذا استمرت هيمنة هذا اللوبي فإنه سيقضي على الديمقراطية الأمريكية». الهيمنة رقصت على قرقعة جدار برلين وتحولت إلى عولمة أمريكية في ظاهرها السياسي وعولمة شركات في بعدها الاقتصادي. وقفت السلطة العالمية على ثلاثة قوائم: الإمبراطورية الأمريكية، الشركات واقتصاد السوق، ومجتمع الاتصال.

«بعد عصر التجارة وعصر المدفعية، أصبحت وسائل الاتصال وسيلتنا الأولى للهيمنة على العالم» يكتب زبيغنيو بريجنسكي. في حين يجعل ال غور عنوانا لحملته «كارفورز الاتصالات». غير أن قوة الاتصال وهيمنته لا تتعدى جعله سلاحاً – وسيلة – كما قال العجوز الاستراتيجي في يد مشروع الهيمنة. 
أغرقتنا الهيمنة بثقافة الاستهلاك وقيم الاستهلاك، فوقفنا نشهد دفن أجيال من المفكرين الذين قاتلوا لأجل منع تشكل «الإنسان ذو البعد الواحد»، وللدفاع عن «ديالكتيك العقل» كما فعل ماركوز مثلاً. ووقفنا نبكي مع يورغن هابرماس استحالة استعادة وبناء الإطار التاريخي الذي شهد تراجع الفضاء العام الذي كان متوهجاً في بريطانيا في القرن السابع عشر، ثم في فرنسا في القرن الذي تلاه: فضاء التوسط بين الدولة والمجتمع الذي يسمح بالمناقشات العامة المؤسسة على الاعتراف الجماعي بفضائل العقل وخصوبة التبادل القائم على الحجة بين الأفراد وبصراع الأفكار المستنيرة. على عكس ما نعيشه من «تصنيع الرأي» عبر سيطرة قوانين السوق. قوانين تقود إلى رؤية إقطاعية للمجتمع، إلى تضليل الرأي العام، إلى العودة إلى سيكولوجية الحشود (منومون ومنومون، محركون ومحركون) إلى تجزئة الجمهور لا بناء على خيارات فكرية نقدية حرة وإنما بناء على إحياء سلوكيات عاطفية هتافية احتفالية. 
جلسنا مجموعات صغيرة نؤجج الحنين إلى مخلص منتظر من الفكر والثقافة، لا من الدين هذه المرة. لكن الشركات انتصبت في وجهنا كالمارد الأسود. قالت لنا إن تشجيع الاستهلاك السلمي، مهما بلغ جنونه لن يفي بالغرض . الحل الوحيد لعلاج أزمة الرأسمالية العالمية التي أفضت إليها سياسات العولمة هي إيجاد أسواق متجددة أبداً للسلاح. إذ لا بد من إيجاد بؤر متجددة دائماً للنزاعات العسكرية ومنع أي حلول سلمية لأية أزمات ممكنة. بل وإبعاد أي سياسي يحاول أن يسير بعكس هذا النهج (استقالة شاك هاغل وتراجع أوباما عن مساندته، أحد النماذج).
يقول مصدر في المعارضة السورية إن معركة إدلب الأخيرة كلفت 12 مليون دولار ثمناً لطلقات البنادق فقط، إضافة إلى 500 طن من الذخيرة، فضلاً عن صواريخ «تاو» الأمريكية التي كانت بالمئات، ويتراوح سعر الواحد منها ما بين 11-20 ألف دولار. فكم كلفت الحرب كلها حتى الآن؟ كم كلفت حرب العراق – إيران؟ كم كلفت حرب لبنان الأهلية؟ كم كلفت حرب ليبيا؟ هذا عدا عن السودان والجزائر ووو… وأياً يكن من الذي يدفع الثمن من خصوم وأعداء، فإن الذي يقبضه واحد: مصانع الشركات الفرنسية والأمريكية ‘ وبالأحرى العولمية 
ربما يفسر ذلك جانباً من الرغبة في تجنب حروب «إسرائيلية» لأن الجانب «الإسرائيلي» لن يشتري سلاحه بالمال والجانب الآخر لا يشتري من الامريكي).
يبقى السؤال الأخطر والأهم: نحن العرب. أين نحن من كل هذا؟ نحن العالم الثالث – المتخلف – النامي في أحسن أحوال التهذيب. هل جلسنا يوماً كسيدة عجوز نحسب فاتورتنا ونسأل: لو كنا ننفق على التنمية ما ننفقه على الاقتتال الذاتي، فأين كنا اليوم على خريطة الحضارة؟ وأين كانت مشاعر الالتفاف الشعبي، لكل الناس حول من أحسن توظيف الثروة؟
_______
الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *