مخلص الصغير
لا يكتب الشاعر الفلسطيني يوسف عبدالعزيز بيتا من الشعر، ولكنه يقيم فيه. في ديوانه الأخير “ذئب الأربعين”، وفي قصيدة طويلة بعنوان “بانورما البيت”، يحلق بنا الشاعر في سماء قريته الأولى، لنطل معه على بيت طفولته. هذا البيت الذي هو مصدر الكائن، ومنبع الشاعر، وفضاء الألفة والحنين، بلغة باشلار. “ربما كان هذا الحنين إلى البيت ومحاولة استحضاره يشكل نوعا من الاستعادة الرمزية للوطن”، كما يقول الشاعر في حديثه إلينا. “العرب” التقت الشاعر وكان لنا معه هذا الحوار.:
ربما لم يبرح الشاعر الفلسطيني يوسف عبدالعزيز بعد بيته الأول، وهو لا يزال طفلا، لم يكبر، إذ توقف الزمن عنده منذ كان عمره أحد عشر عاما وكوكبا، عندما غادر بيته وأرضه فلسطين مضطرّا نحو الأردن، بعد اندلاع حرب 67. وربما كان البيت، إلى أن صار الشاعر نفسه مثل بيت متنقل يمشي على قدمين، وهو ينشد القصيدة التي لم يكتبها بعد، مثلما ينشد البلاد التي لم تتوقف عن الألم.
بيت الشاعر
حين يحكي الشاعر الفلسطيني يوسف عبدالعزيز عن قصيدته، وعن بيته الشعري، فهو يحكي لـ”العرب” عن سيرته، وبيته الفلسطيني، كأنما يولد من جديد في هذا الحوار، بينما يستعيد البدايات، هنالك حيث ولد على كتف القدس، في قرية تبعد عنها بعشرة كيلومترات، على أن ما كان يجذب الطفل يوسف في قريته “تلك الربى الفائرة بالأزهار والضباب والسماء الزرقاء”. حيث ولد في بيت قديم يضمّ معصرة زيتون كبيرة. “كان ذلك البيت بيتنا الخاص بعد هجرتنا من قريتنا الأولى بجوار مدينة اللد”. ويحكي الشاعر أنه كانت ثمة مجموعة من الأفاعي الصديقة التي تقيم في سقف البيت، وهو لا يزال يذكر “تلك الأفعى الأم التي كانت تتدلى من السقف وتقترب منا وترفع رأسها وتتأملنا فتخاطبها أمي: أيتها المباركة، نحن جيران ونحبك، وعند ذلك كانت الأفعى تلتف عائدة إلى التواري في السقف”.
كان بيتا جميلا، “يشبه في الواقع جسد الأم” هكذا يصفه الشاعر، ثم بعد سنوات من الطفولة، سوف تنتقل أسرة يوسف إلى بيت حديث، “ولكن بجيوب من الطين خاطتها أمي بجدران البيت من الخارج. وقد كانت تلك الجيوب فائرة بأزهار الياسمين”. غير أنه، وبعد سنتين فقط، سوف تشتعل حرب 67، ليرحل الشاعر رفقة أسرته إلى عمان. “وكما حدث مع ناجي العلي، العظيم، حيث إنه عندما خرج من الوطن اعتقد أن عمره توقف فرسم حنظلة، كذلك لا زلت أكتب القصيدة الأولى مثل طفل. ففي سنة 1967، كان عمري 11 عاما. شعرت أن العمر توقف معي. وقد اشتغلت في الكتابة على البيوت التي عشت فيها، حتى أحسست أنني تحوّلت إلى بيت يتجول على قدمين”.
وقد كتب الشاعر لهذا البيت مجموعة من القصائد، منها قصائد بعنوان “بانوراما البيت” ومنها قصيدة بعنوان “الزيارة”، على أن هذا الحنين إلى البيت ومحاولة استحضاره ربما يشكل في نظره “نوعا من الاستعادة الرمزية للوطن”. ويضيف أن “ثمة بيتا آخر في رأسي أيضا، وهو بيت الأسرة الذي هدمه الصهاينة في قريتي البويرة بجوار اللد”. وتلك بيوت لا يزال الشاعر يقيم فيها إلى اليوم، مثلما يقيم في بيت الشعر، ولا يكتبه بل يسكنه ويقيم فيه.
في قصيدة أخرى، يقدم يوسف عبدالعزيز نفسه للقارئ على أنه “سائس شعر”، بينما هو لا يقوى على تعريف الشعر، ولا يزعم ذلك. عن الشعر يحكي الشاعر هذه المرة، قائلا “إنني لأنظر إلى الشعر نظرتي إلى الحياة العظيمة، بما فيها من جماليات ورؤى وأحلام”. وبهذا الاعتبار، فالشعر عنده إنما هو “وطن صغير”، على حدّ تعبيره وإحساسه، “إنه يشبه فلسطين”، يقول الشاعر “أحس دائما بالتشابه بين القصيدة وفلسطين.
فالقصيدة التي أحاول أن أقبض عليها بعيدة ونائية وعصية مثل فلسطين، التي يغيبها الاحتلال الفلسطيني”، على أن كتابة الشعر في النهاية هي “عملية شاقة مثلها مثل الوصول إلى فلسطين”. والخلاصة عند يوسف عبدالعزيز “هي أنني أكتب الشعر وأعتنقه، بينما القصائد التي أكتبها هي رأسمالي الوحيد”. من هنا، فإن “وجودي في الحياة مرتبط بشكل مباشر بالشعر، وبدون الشعر أتهدّم، ولا يبقى هنالك مبرر لوجودي”. وحين يقول الشاعر إنه يتهدّم، ويستعير فعل الهدم، فهو يحيل مرة أخرى على البيت، والبيت الفلسطيني تحديدا.
الكاميرا الشعرية
في ديوانه الشعري السابق “قناع الوردة” يخوض صاحبنا في سؤال الشعر، وهو يقترب من وضع الشاعر تجاه العالم. فالشاعر عنده يوجد “في حالة ارتباك” أمام الأشياء، وأمام القصيدة نفسها. عن ذلك، يقول إن “ما أكتبه هو مجرد ظلال لقصائد نائية ومستحيلة. إن هذا الغموض الذي نحسه كشعراء في حالة الكتابة، أو هذا الارتباك أمام القصيدة هو الذي يجعلنا نركض باستمرار وراء نجمة الشعر الغامضة”، بينما “لا سقف للكتابة” عنده، ولا ثمة تعريف محدّد للشعر. “أنا الآن في عقدي الخامس، ولا أعرف ما هو الشعر، ولا ما هي المرأة”.
القصيدة عند يوسف عبدالعزيز قصيدة مشهدية كما يقول عنها وعنه صديقه الفلسطيني الشاعر زهير أبوشايب. ويعترف الشاعر “أكتب القصيدة المشهدية، وهي تلك القصيدة التي تتكئ على جماليات السينما والفن التشكيلي والمسرح، بالإضافة إلى السرد”، هذه المرجعيات في اعتقاد الشاعر هي التي تستطيع أن “تنقذ الشعر وتنقله إلى فضاء أرحب وأبعد مدى”. بينما هنالك مشاكل تعاني منها القصيدة الغنائية العربية.
تلك القصيدة المسكونة، في نظره، بالبوح وهواجس الذات، حيث يمكن أن تطول أحيانا دون مبرر فني، ما سبب لها خللا في بنيتها، على حدّ قوله ونظرته.
ومن خلال قصيدة المشهد يستطيع الشاعر أن يقبض جيدا على القصيدة التي يرجوها، وأن ينقيها من الزوائد. “لقد اهتديت إلى كتابة هذه القصيدة بعد الفتنة التي صادفتها في السينما على وجه التحديد، وطبيعة اللقطة السينمائية، وبناء المشهد السينمائي، بانتقال الكاميرا من مكان إلى آخر، فــيما هي تسبـر أغوار المشهد المصـور”.
أما أسلاف الشاعر في هذه الشعرية البصرية، كما يعدّهم، فمنهم ريتسوس ونيرودا ولوركا، ومن العرب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ، وخاصة درويش في دواوينه الأخيرة. “هؤلاء كانوا أساتذتي في كتابة هذا النوع من الشعر”، بهذا يقرّ الشاعر.
يوسف عبدالعزيز يحاول من خلال القصيدة المشهدية أن ينتقي ما يراه مناسبا من المشاهد، “أحاول أن أقدّم مشاهدي الخاصة الجديدة والمبتكرة”. يستمدّ صاحبنا هذه الشعرية البصرية من شغفه بالسينما وولعه بالأفلام، وهو يتحوّل مثل “كاميرامان” يحمل على كتفه وقلبه “كاميرا شعرية”، من أجل كتابة “شعر سينمائي”، في مقابل وجود “سينما شعرية أو شاعرية، مع تجارب الإسباني كارلوس ساورا والمخرجين الإيطاليين بازوليني وفيلليني، والمخرج الروسي تاركوفسكي.
فهل يتحوّل شاعر القصيدة المشهدية إلى كاتب سيناريو؟ ربما، يقول الشاعر، وهو يسرّ إلينا بأنه قد أنجز، قبل فترة، مجموعة من النصوص السردية التي اشتغل فيها على رسومات الفنان ناجي العلي.
“وقد تشاورت مع أحد أصدقائي المخرجين لتنفيذ فيلم بعنوان «رأس حنظلة»، وهو عبارة عن قصة تستلهم روح رسومات ناجي العلي، أعالج من خلالها جانبا من جوانب القيامة الفلسطينية المعاصرة”.
– العرب اللندنية