في كتابها «تاريخ الرياضيات: مقدمة قصيرة جداً» تعرض جاكلين ستيدال، الباحثة في تاريخ الرياضيات في جامعة أوكسفورد، دراسات مشوقة لإلقاء الضوء على سياقات لأشخاص تعلموا الرياضيات واستخدموها وورثوها. تستهل الباحثة موضوعات كتابها (صدر عن «مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ترجمة الدكتور محمد عبدالعظيم سعود ومراجعة محمد فتحي خضر) بسؤال عن سبب تعلّمنا الرياضيات. وتوضح أن النصوص السومرية التي ترجع إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تبين أن القدرة على القراءة والكتابة والتعامل مع الأعداد كانت من الأمور الأساسية للإدارة القوية للمجتمع. وفي مدارس إيطاليا القرن الثالث عشر، تعلّم الأولاد كنظرائهم البابليين القدماء، طُرُق التعامل مع الأعداد والأوزان والمقاييس وغيرها، لإكسابهم القدرة على إجراء المعاملات التجارية.
وتذكّر بأن عالم الرياضيات الويلزي روبرت ريكورد (1512 – 1558) اعتبر الهندسة ضرورة لا غنى عنها في مهن الطب واللاهوت والقانون. وأورد أيضاً أن الرياضيات تشحذ الذاكرة وتجعل العقل أكثر تيقظاً. ولم يكن ريكورد أول من أوصى بذلك. إذ وضع المعلم آلكوين، وهو رياضياتي بارز في القرن الثامن، مجموعة من المعضلات الرياضية الصعبة، تحت عنوان «مسائل آلكوين لشحذ عقل الشباب» التي تعتبر المجموعة الأقدم في الرياضيات المكتوبة باللغة اللاتينية.
ما يساوي لغة بأكملها
في المقابل، ترى ستيدال أن تعلم لغة أجنبية مثلاً يولد أثراً مشابهاً لما تحدثه الرياضيات، لجهة تشجيع الاستنتاج والتحليل وتطوير الذاكرة والتفكير. وتلاحظ أنه في بداية أوروبا الحديثة كانت ممارسة الرياضيات نشاطاً لا يخلو من الأخطار، سواء للممارس أم لموضوعاته المفترضة. وتشير إلى أن كلمة «رياضي» بدأ استخدامها بانتظام في الكتابات الرياضية الإنكليزية اعتباراً من عام ١٥٧٠. وفي مرحلة لاحقة، استخدِمَت في وصف فئتين مختلفتين تماماً: المدفعيّين والمنجّمين. ومنذ منتصف القرن السابع عشر، بدأ استخدام الكلمة في بريطانيا على نحو أكثر عمومية لوصف كتّاب الحساب أو الهندسة، لكنها ظلت تصف المنجمين كذلك. وآنذاك، أضحت توقعات «المنجمين الرياضيين» موضوعاً منتظماً للهجاء والسخرية. ويساعد تذكر الارتباط الطويل بين الرياضيات والتنجيم على توضيح سبب ميل الأكاديميين إلى تحاشي ذلك المصطلح. وعندما أسّس هنري سافيل كرسيّيْن للرياضيات في جامعة أوكسفورد في ١٦١٩ (كانا للهندسة والفلك)، سُنّت تعليمات صارمة بأن الثاني يجب ألا يتضمن أي نشاط تنجيمي.
وتضيف ستيدال أنه قبل مئتي سنة، لم تكن الرياضيات تدرّس سوى لعدد محدود من الفتيات في الدول كلها، بل إن تعليم الرياضيات إجبارياً للفتيان يعتبر ظاهرة حديثة نسبياً. وفي إنكلترا القرن السابع عشر، كان ممكناً إكمال الدراسة الجامعية، من دون التعمق في الرياضيات. لذا، عمد من يحبون الرياضيات إلى تعلّمها بأنفسهم. وينطبق ذلك على الفرنسي بيار دي فيرما (1607 – 1665) الذي تعلّم بنفسه الرياضيات، بل وصل فيها إلى المستوى الأكثر تقدماً آنذاك. وكذلك تعلّم العالِم الشهير إسحاق نيوتن ذاتياً معظم معارفه في الرياضيات، قبل أن يضع معادلاته الشهيرة عن الجاذبية والكون. ومع حلول القرن العشرين، لم يعد التعلّم الذاتي للرياضيات ممكناً إلا للعباقرة كالرياضي الهندي سيرينيفاس رامانوجن (1887 – 1920) الذي ساهم في تطوّر الرياضيات الحديثة. وحاضراً، يحتاج حتى الأشد موهبة في الرياضيات، إلى سنوات من الدراسة المختصة كي يتعرف إلى بعض مسائلها وتقنياتها واصطلاحاتها.
_____