قرن بلفور

*خيري منصور 

أحيانا تنسب أعوام أو عقود أو قرون لأحداث فاصلة تشطر التاريخ إلى ما قبل وما بعد، ورغم أن عام 1917 من القرن الماضي شهد أحداثا جساما منها حرب كونية وسقوط امبراطورية وحراكات وطنية من أجل الاستقلال، إلا أن وعد بلفور بما انتهى إليه كان عاما أطول من قرن، لأن تداعياته وما ترتب عليه تجاوز الذكرى المئوية بعد عام واحد من تحويل العالم العربي إلى كسور عشرية.
وقد يبدو عنوان من طراز عام أو قرن وعد بلفور سياسيا خالصا، لكنه من صميم الثقافة وجدليتها على الأقل من خلال ردود الأفعال عليه، ومنها ما كتبه شعرا وأدباء بدءا من فلسطين ذاتها، وقد يكون وعد بلفور مناسبة نموذجية للتفريق بين المواقف تبعا لمنسوب الوعي، فمقابل من شجبوه شعرا ونثرا ورأوا فيه افتراء تاريخيا وجغرافيا، هناك من كانت مواقفهم على العكس من ذلك، لأن وعيهم السالب وضيق الأفق بالنسبة إليهم صور لهم الاحتلال البريطاني، ثم الانتداب على أنه الخلاص، جريا على عرف موروث بدأه امرؤ القيس حين لاذ بالقيصر للثأر من أبناء عمومته، لكنه دفع الثمن ومات بعد أن تقرّح جلده في جبل عسيب، لأن الحلة التي أهداها إليه القيصر كانت مسمومة. وقد تكون ثنائية الغساسنة والمناذرة أمثولة في هذا السياق، حين تولى الطرفان حراسة ثغور الروم والفرس، وكم كان المتنبي بليغا وحصيفا حين تساءل على أي جانبيه يميل ما دام خلف الروم روم وخلف الفرس فرس أيضا.
في عام بلفور قبل قرن نشر الشاعر الفلسطيني علي الريماوي قصيدة أقتطف منها:
وهذا نهار حلّت فيها قيودنا
وقد نشط الإقدام وانطلق الفكر
وحل محلّ الظلم عهد محبب
وقد لاح بعد الظلام لنا فجر
بريطانيا العظمى وأنت شهيرة
وعندك طبعا يجمل الحمد والشكر
عهدناك للإسلام أكرم دولة
عهدناك والعمران دينك والبر
فهل خطر ببال ذلك الرجل أن بلاده كلها من البحر إلى النهر سوف تسقط في قبضة الاحتلال بدءا من مسقط رأسه؟ وكيف أوهم نفسه بأن بريطانيا تستحق من أهل فلسطين أن يسبّحوا بحمدها؟ أما كونها للإسلام أكرم دولة فذلك ما نعفّ عن التعليق عليه.
وهناك قصيدة أخرى تذهب إلى ما هو أبعد في مديح الاحتلال البريطاني كتبت في عام بلفور لإسكندر الخوري سأقتطف منها عيّنة من بيتين فقط:
بني التايمز قد فزتم
وبالإنقاذ قد جئتم
بلاد القدس شرّفتم
فأهلا أينما بتّم
ولكي تصل المفارقة السوداء ذروتها قرأت هذه الأبيات عشية رحيل المطران كبوتشي، الذي كان لأكثر من ستة عقود وفيا وأمينا للفادي، وفي تلك الآونة صدرت كتب في بغداد والقاهرة وبيروت رأى مؤلفوها أن بريطانيا هي النموذج والمثل الأعلى والخلاص، منها ما كتبه حافظ عفيفي باشا وأمين المميّز وآخرون
إن لوعد بلفور رغم صيغته السياسية بُعدا ثقافيا يخص الإنكليز أيضا، لهذا ما أن أزفت مناسبة مئويته حتى استعد أكاديميون ومثقفون وناشطون بريطانيون لإدانته تاريخيا وأخلاقيا، وطالبوا بلادهم بالاعتذار على ما اقترفت ضد شعب خُلع من جذوره وتشرّد في القارات الخمس بعد أن تعرّض لتطهير عرقي. نعرف بالطبع أن الأحكام بالجملة على الشعوب هي أحكام جائرة، لأن بريطانيا كبلنغ وبلفور واللورد كرومر وتشرشل وبلير ليست بريطانيا شكسبير وبرتراند رسل وهارولد بنتر، وللمفارقة كان الفيلسوف برتراند رسل داعية السلام والمدافع عن حقوق الإنسان قريبا مباشرا لجون رسل، الذي أوغل في دم المصريين وكان نموذجا لمستعمر سادي. وربما كان الأكاديميون البريطانيون هم أول المبادرين لمقاطعة إسرائيل وجامعاتها، لكن من لا ناقة لهم ولا جمل في وعود كارثية ومواقف مضادة للعدالة يدفعون الثمن ولو لبعض الوقت.
مئوية بلفور تتزامن مع لحظة توحش فيها التاريخ، بحيث أصبحنا نحصي أيامنا بعدد الذبائح البشرية والمقابر الجماعية، وليس بملاعق القهوة كما يقول الشاعر ت. س. إليوت، ولأن جمرة الضمير أغرقت وأطفئت في المحيط الأطلسي فإن المنتظر هو أضعف الإيمان، بحيث يتوقف أكاسرة وقياصرة الألفية الثالثة عن الوعود لمزيد من الانتهاك والتشريد. فما حدث الآن، وبعد قرن من بلفور هو أن هناك من يعلنون بدم أنكلوساكسوني بارد أن التحالف بينهم وبين الاحتلال مقدس.
لقد حدث خلال قرن من التداعيات لذلك الوعد ما يتعذر إحصاؤه بأذكى حواسيب الدم والدموع، بحيث بلغ الصراع ذروته بين مستوطن ومواطن وبين سارق ومسروق وجلاد وضحية، والمفارقة الأخرى هي أن هناك وعودا مضادة لوعد بلفور لكنها بقيت لستة عقود ممنوعة من الصرف، بل هي وعود عرقوبية، منها إنصاف الضحية وتدارك ما تبقى. وهذا بحد ذاته يحسم المعادلة طرفاها القوة والعدالة لصالح القوة، أما الضحية فالمطلوب منها أن تكون طائعة وخرساء، لأنها تعاقب حتى على الأنين الذي سرقه الجلاد منها وارتدى قناع الضحية.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *