*لطفية الدليمي
أقرأ غالباً على صفحات الفيسبوك المشحونة بالصخب مجادلات ونزاعاتٍ ووجهاتِ نظر متباينة ومتطرفة حول الفن الروائي ، وقد علقت في ذهني بعض الملاحظات التي تراكمت لدي منذ زمن حتى بلغ التراكم حداً رأيت معه أن أعلّق على بعض التفاصيل الخاصة بالفن الروائي من وجهة نظر شخصية خالصة توصلت إليها كمؤشرات ، وأود التأكيد بدءً أنني لست بصدد الحديث عن الثيمات الكبيرة الخاصة بوظيفة الفن الروائي وطبيعته وأجناسه – تلك الثيمات التي كتبت عنها بشيء من التفصيل في تقديمي لكتابي المترجم ( تطوّر الرواية الحديثة ) الصادر عن دار المدى عام 2016 ، بل سأؤكّد هنا على بعض التفاصيل المُغْفلة التي غالباً ماتُهّمشُ ولا يُعنى بها بعضُ قرّاء الرواية وكتّابها . سأناقش هذه التفاصيل بهيئة مقاطع مستقلة لتأكيد الفكرة المقصودة :
– الرواية صناعة غربية خالصة : لا ينبغي أن تغيب عنا حقيقة مهمة وهي أن الرواية منتج ثقافي غربي – إعتبر بعض المعنيين بتأريخ الرواية نشر رواية سيليستا لفرناندو روخاس في إسبانيا سنة 1499 تأريخاً لولادة فن الرواية – ، وقد تطوّر هذا المنتج الثقافيّ بطيئاً في أعقاب عصر النهضة الأوربية وترسّخ نوعاً أدبياً في القرن الثامن عشر كاستجابة مباشرة لمتطلبات الكتابة في بيئة عانت تحولات جذرية نجمت عن مفاعيل كتابات مفكري عصر التنوير الأوربي – تلك المفاعيل التي قادت إلى عصر الثورة الصناعية وثورات الحداثة العلمية والفلسفية والليبرالية والسياسية . إن الإشارة إلى حقيقة كون الرواية منتجاً غربياً خالصاً هو لتأكيد الوشائج الحتمية التي تجمع الإبداعات الروائية في جميع الجغرافيات البشرية مع الرواية الغربية ، وحتمية تأثر تلك الإبداعات دوماً بالتطورات التي تطرأ على الرواية الغربية .
ثمة تشابه كبير بين وضع الرواية في بيئتنا مع منتج ثقافي غربي خالص آخر هو الموسيقى السمفونية الكلاسيكية ؛ إذ لم تتأهل الذائقة العربية على إنتاج موسيقى خالصة بسبب غلبة تأثير الكلمة المحكية التي تستمد تقاليدها من تواتر الحكايات الشفاهية غير المحكومة بضوابط وتقاليد صارمة ؛ في حين يتطلب التأليف السمفوني الكلاسيكي عقلية منضبطة إعتادت معايشة البيئات المحكومة بقوانين حاكمة لامجرد الإرتكان إلى أعراف قبلية أو عشائرية ، يضاف إلى هذا أن النتاج الموسيقي الكلاسيكي يمتاز بتلوّنات درامية ثورية هي بعض إسقاطات الحراك الحضاري الديناميكي الذي طال القارة الأوربية ووجد صداه في مُنتجاتها الثقافية .
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن المحكيّات الشفاهية تشغل حيزاً مركزياً بالغ الأهمية في الثقافة الغربية ( الأوربية بخاصة ) وهو مانجده في سِيَر القديسين وحكايات الجنيات والسحرة على سبيل المثال ؛ غير أن انبثاق عصر الرواية شكّل طفرة إرتقائية في أنماط السرد قاربت القطيعة المعرفية ( من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الثقافية ) ؛ وهو الأمر الذي لانجد نظيراً له في بيئتنا العربية التي لبثت ظلال الثقافة الشفاهية تخيّم عليها بالرغم من تطعيم تلك البيئة ببعض ثمار الحداثة المستوردة التي كانت الرواية واحدة من أهم عناصرها الثقافية .
إن ما نرمي إليه من تأكيد عائدية جذور الفن الروائي إلى فضاء مركزي أوربي هو لتأكيد حتمية التأثر بالتطورات اللاحقة التي تطرأ على هذا الفن في مهد ولادته وضرورة ملاحقتها – بإتقان لغة أجنبية أولاً والإعتماد على الترجمات الرصينة ثانياً – وعدم الإنكفاء في إطار البيئات المحلية المغلقة .
– الرّواية هي الوريث الشرعيّ للأسطورة : كانت الأسطورة – وكل مايمت لها بصلة ، إضافة للحكايات الشفاهية – ضرورة حاسمة للحفاظ على التوازن الرقيق الهش بين روح الإنسان البدائي وبنيته الذهنية والسايكولوجية ؛ الأمر الذي وفّر لهذا الإنسان الوسيلة والقدرة لتجاوز محدوديات وجوده الفيزيائي والتفكير بآفاق أبعد من مجرد البحث عن متطلبات أمنه الجسدي وحاجاته البيولوجية البدائية ، و أمسى وجود الأسطورة والملاحم لدى كثير من الشعوب الحية وسيلة فعالة للترابط الروحي بين أبناء الشعب الواحد وصار محفزاً فعالاً للنظر في موروث إنساني مشترك تتأسس عليه فكرة المواطنة والإنتماء المحلي والإنساني ، وأذكر دائماً في هذا السياق الشاعر والكاتب المكسيكي الكبير أوكتافيو باث حائز جائزة نوبل االذي كتب يوماً مامعناه : تتمنى كل شعوب العالم أن تمتلك تأريخاً حضارياً ممتداً في الزمن وأن تكون لديها أساطير وملاحم ترويها لأجيالها ؛ ولو لم تمتلك المكسيك ذلك التأريخ وتلك الأساطير لكان علينا أن نختلق بعضها لنحيا على ركيزة نجتمع حولها .
غدت الرواية اليوم الوريث الشرعي للأسطورة لقدرتها على توفير المحفزات اللازمة لإدامة شعلة التخييل البشري ودفعها نحو آفاق لم تكتشف بعد ومساعدتنا على تجاوز عوامل الكبح واليأس والإحباط التي يحفل بها عالمنا .
– الرواية ليست حكاية مسترسلة بل خبرة مضغوطة : ليس أسهل من وقوع الكاتب المبتدئ في فخ كتابة رواية بهيئة حكاية مسترسلة تتكون من عدة ( حدّوتات ) شبيهة بالحكايات المتحدرة إلينا من عصر الحكايات الشفاهية ، ويعمل الإسقاط القسري لتفاصيل من السيرة الذاتية المفتقرة إلى الخبرة على تشويه تلك الحكايات وإفراغها من أي محتوى معرفي مؤثر . تتأسس الرواية غالباً على حكايةٍ ما ، ولكن مايمنح الرواية قيمة معرفية تقود لخبرة جمعية منتجة هو تغليف تلك الحكاية بجسم معرفي يعمل على تكثيف الخبرات المتحصلة في الحياة وتقديمها للقارئ بهيئة مقايسات محددة مصاغة في قالب درامي جذاب . يمكن لروائي غربي مثلاً أن يكتب عن فيلسوف مشّاء ينهض صباحاً ويتلذذ بتحضير شاي الفطور، ويستمع خلال إعداده الفطور لسمفونية ( الفصول الأربعة ) لفيفالدي ، ثم يخرج في جولة المشي الصباحية المعتادة له ، ويحدث أن يصادفه في جولته شخصان يتجادلان بصوت عالٍ حول أفضلية ( ماركس ) على ( فرويد ) ، وعندما يجتازهما ينبثق لديه هذا التساؤل : هل يستحق أي من ( ماركس ) أو ( فرويد ) أن أخسر نكهة الشاي الصباحي ومتعة المشي الفردوسية ؟ واضح من هذا المثال أن الروائي يريد القول أن المتع الصغيرة الهادئة في الحياة لهي أثمن بكثير من إضاعتها في المجادلات العنيفة ذات الطبيعة الأيديولوجية – تلك المجادلات التي تبدو ألعاباً مؤذية مفتوحة النهايات ولاخير يرتجى منها .
– الرواية الرصينة تهتم بالأفكار لا بالألاعيب اللغوية : إن واحداً من أهم تمظهرات غلبة تقاليد المرويات الشفاهية على ثقافتنا هو الإهتمام المفرط بلغة الحكي عوضاً عن المادة المحكية ؛ إذ صار المطلوب من اللغة أن تختزن شحنة إنفعالية حسية قادرة على الإمساك بالإستجابات الغرائزية لدى المتلقّي عوضاً عن مساءلة أفكاره بهدوء وشغف ، ويُلاحظُ في هذا الصدد أهمية استخدام ( شفرة أوكام* Occam”s Razor ) التي تصبح عدّة لازمة من بين الأدوات الخاصة بأي روائي حاذق ؛ بل ربما إحتاج الروائي العربيّ إلى ( منجل أوكام ) ليزيح به أية زوائد أو حذلقات لغوية من روايته وبخاصة في لغة مثل لغتنا العربية التي يسهل الإنزلاق معها في مصيدة الألاعيب اللغوية المفرطة والتلذذ الهوسيّ بها ، إنما بوسع اللغة العربية ذاتها أن توفّر لنا نصوصاً محكمة دونما ترهلات أو زوائد لغوية ، وأرى أن نصوص ( التوحيدي ) وكتابات المعتزلة تحتكم إلى ضوابط لغوية تؤهلها لتكون نصوصاً معيارية في ميدان الإقتصاد اللغوي والتركيز على الأفكار ، مع الإنتباه إلى أهمية الإنضباط اللغوي المتساوق دوماً مع موسيقية اللغة التي تتعالى على البلاغة المصطنعة .
– الرواية نشاط يسعى لتجاوز المرجعيات الثقافية : ليس ثمة نشاط إبداعي يوازي الرواية في قدرته – ورغبته معاً – على تجاوز المرجعيات الثقافية الراكزة ، ولايعد هذا الأمر صرعة طارئة بل يعود لسمة هيكلية تميز الفن الروائي عن غيره من الفنون الكتابية الإبداعية – تلك السمة التي تجعل من الرواية ذلك النشاط الإبداعي الأكثر قدرة على التعبير عن متغيرات العصر واندفاعاته الإرتقائية والتطورية ، ولما كانت هذه المتغيرات سريعة ومتنوعة وعلى شتى الصّعد لذا صار مطلوباً ومتوقعاً من الرواية أن تعيد النظر في طبيعتها وموضوعاتها ولاتركن إلى أية مرجعية ثقافية راسخة .
لابد من الإشارة هنا إلى أن الميل الروائي لتجاوز المرجعيات الثقافية يتعاظم في الأوقات التي لاتعود فيها تلك المرجعيات كافية لإحتواء المتغيرات الحاصلة في الحياة البشرية ؛ ومن هنا سيكون تجاوز تلك المرجعيات ضرورة إرتقائية لازمة لتطوير الفن الروائي وتثوير أدواته وإمكانياته في التعامل مع المستجدات البشرية ، أما الهوس الفردي بالألاعيب الشكلانية الملفقة التي لايمكن إدراجها في خانة التثوير الروائي فإنها أقرب إلى توصيف العبث غير المنتج طالما بقيت تدور في ساحة الألاعيب اللغوية ولم تأتِ إستجابة لإنزياحات معرفية على أرض الواقع . لابد من الإشارة في السياق ذاته أن المرجعيات الثقافية التي يطالها التغيير هي تلك المرجعيات الخاصة بالوسائل والأساليب والتقنيات الروائية ، و قلّما يطال التغيير الثيمات الوجودية الجمعية المميزة لجوهر الكينونة البشرية التي لاتحدّها محدوديات الزمان والمكان والبيئة المحلية ؛ بل يمكن القول أن هناك مرجعيات ثقافية أساسية وذات أهمية مطلقة في كل الأزمنة والأمكنة مثل الملاحم الإغريقية والرومانية والسرديات الشكسبيرية وملاحم الحضارات القديمة ( كلكامش والمهابهارتا والباغافادغيتا مثلاً ) ، أما في فضاء بيئتنا العربية فيمكن الإشارة إلى النصوص المعتزلية ( كتابات التوحيدي ورسائل أخوان الصفا ) والنصوص العرفانية وكتابات أئمة المتصوّفة وأشعار الرومي كمثال على المرجعيات الثقافية التي يتعذر تجاوزها مهما طال بها الزمان .
– المتعة عنصر أساسي في الرواية : لايمكن أن نتوقع مضيّ القارئ في قراءة أي عمل روائي مالم يبعث ذلك العمل حالة من النشوة والمتعة ( الحسية أو العقلية ) فيه ، إنما من البدهي أيضاً أن تختلف طبيعة المتعة المتحصلة حسب نوعية القارئ ومزاجه وقدراته العقلية وسماته السايكولوجية : ثمة من يرغب في أعمال ذات حبكة بوليسية مثيرة ، أو ذات مخيال ميتافيزيقي ، أو ذات تماس مع التطورات العلمية الفيزيائية أو البيولوجية ، أو تلك التي تعنى بتطور الذكاء الإصطناعي والروبوتات وروايات الخيال العلمي أو تلك الروايات التي تخصّب بذور الأحلام وتدفعنا لتبني أحلام جامحة.
*شفرة أوكام : مبدأ منسوب إلى الراهب الفرنسيسكاني والمنطقي الإنجليزي وليام الأوكامي (1288-1347) . يعتمد المبدأ على أن شرح أية ظاهرة يجب أن يتأسس على أقل عدد من الفرضيات ، ويتم ذلك بترك أية فرضية لاتؤثر أو تشرح الظاهرة أو النظرية ،ويُعَبّر عن هذا المبدأ بالقول إذا تساوت الأشياء فالذي يمكن شرحه بشكل أبسط هو الأفضل .
يتبع
_________
*عن المدى