لوثة أخلاق

خاص- ثقافات

*د. عريب محمّد عيد

لمّا تتقزّم الأخلاق في أصحابها، لا تجدُ مستقرًّا لها إلا القيعان، ولمّا تسحق الرّذائلُ مكرماتِ الأخلاق في بعض تجمّعات الأفراد الّذين غذّتهم الأنا بـ “غُدّتها الشّوفانيّة” المتضخّمة، لا ترى إلا التّكبّر والاستهتار واللامبالاة، ولا تكتملُ الصّورة بقبحها إلا بتضييع الأمانة وإهانة الآخر وإرهابه وتوسيد الأمر لغير أهله، ويضاف لذلك أكل مال الضّعيف واستحقاره، يصحب ذلك نفخة في بُطنونٍ جرباءَ لا يشبعها إلا أن تُملأ بالحرام وترتع بالقاذورات، ولا ترى هيئة بعض هؤلاء المضمحلّة إلا أن تضعهم تحت المجهر؛ علّك تقع على الميكروب الأخلاقيّ المتكاثر فيهم، وتشاهد صورتهم القميئة الّتي انكمشت  مقابل ما تنازلوا عنه من مبادئ وأفكارٍ، مجهرٌ يحتاج لمادة ملوّنة واقية للآلة بدءًا، تحفظ لها وظيفتها في كشف ما استتر ثانيًا، ثمّ ثالثًا تسعى لتكبير ما صغُرَ وغار واختبأ وكمُن في خلاياهم وأطرافهم من السّوس الّذي ينخر أعضاء لا يسترُ عريّ بعضها إلا أن يتدرّع صاحبها بالدّين أو العلم، أو الحسب والنّسب أو المنصب أو المكانة الّتي تقلّدها ظلمًا وبهتانًا.

عندما تقفُ مذهولا للحظات أمام هذا المشهد المتكّرر في واقع يتقمّص أدواره شخوصٌ ليسوا من روّاد أفلام الخيال وصفحات الرّوايات، بل غدوا أبطالا في مجتمعات الظّلم والفساد، أخبارهم سرعان ما تتناقلها المجلات الإلكترونيّة ومواقع الاتّصال الاجتماعيّ، والعالم الافتراضيّ، ووسائل الإعلام؛ حينها ستدرك حقًا أنّنا في عالم علا شرُّه خيره، وبلع غنيّه فقيره، وتجبّر رئيسه على مرؤوسه، واستطالت به قامات نهضت تعلو على حساب رقاب وأعناق، أناس انتفخت بهم أوداج تتشدّق بإنجازات مسروقة، أو علت صيحاتُ باطلٍ تنافق رياء أمام مسؤول أو صاحب جرّة قلمٍ يطيحُ بتوقيعه رؤوسًا أبت الذلّ؛ ليعلّق مكانها كراتٍ يهرولُ بها، ويتقاذفها حسب أهوائه الممتدّة ومصالحه الخاصّة.

للأسف ستجدك أمام عالم انقلبت فيه الموازين، صار الرّأسُ فيه ذيلا، والذّيل رأسًا، وغدا العادي صديقًا، والصّديق عدوًّا، والعزيز ذليلا، والذليل عزيزًا، إلخ، فالمتناقضات تتبادل المقامات، والهوّة تتفاقم بين المتناقضات، تراقبُ كما الرّائي بمنظاره يقرأ ويتابع؛ قد تنكر وتتألم وترفض وتسعى للتّغيير؛ لكنّك سرعان ما تدركُ حجم طوفان الرّذيلة الجارف، ولوثة الأخلاق الّتي باتت المثال والنّموذج الذي يُحتذى، لتختار موقعًا من اثنين: إمّا أن تكون حجر عثرةٍ يقاوم هذا الانسياب، ويتحمّل تبعاته، أو تتبع منسابًا موضع السّيل لتحطّ في منبعه الرّافد وتنساق إليه وتندمج فيه وتندغم.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *