بعْضُ الأَشياء كَّكل الأَشياء

خاص- ثقافات

*سيومي خليل 

قالَ السَّجين لسَّجَانه بَعدَ أَنْ أَخذ نَفسَا عَميقَا من الهَّواء المُّلوث الذي لاَ يُغادر السِّجن .
حينَ أغَادر السِّجن سَأذهب إلى هُّناك ، إلى الهّنَاك البَعيد ، يُمكن أن يكُون الهُّناك بَحرا لاَ مُّنتهيا ، أَو غابَة تَمنحني أنْفَاسا نَّقية ، سَأغادر البنايات جَميعا ، سَصيرُ عندي رُّهَاب الإسمَنت ، كُّل فَجّ أَنظره سَأمشي فِيه ، سَأُغَادر حَيث أجد بَشرا مِّثلي ، لا يُّحبون الجُّلوس كَثيرا عَلى المَّقَاعد ، ويتَمنون كل ليلة عاصفَة أنْ يطيروا مثل سُّنونو خَفيف الحركة .
نَظر السَّجَان إلى السَّجين ، وابتسم ، تَركه ،وانصرف ، لَكن السَّجين تَخيل أنَّه سَمع السَّجان يَقول :
هَذا من تَأثير الهَّواء المُّلوث الذي لا يُغادر السَّجن .
سَجين آخر كَانَ يَتلصَّص على مَاضيه من شُّق ضيق وحَزين سَمع الحِّوار الذي دَار بَينَ السَّجين والسَّجان ، اقترب من السَّجين بِخَوف كَأنَّه يقترب من ذكرَى مّؤلمة جدا .
لمَا عَليك فعل هذا ؟؟؟ لما ؟؟؟
فأنَا الآخر حَلمت بِذَلك ، حَلمتُ أنْ أخرج من ثُّقَب الحطآن ، منْ الشُّقوق التي لاَ يََستطيع إلاَّ النَّمل الخروج منهَا… أتدري أنِّي فَعلت ذَلك ، لقد صِّرت نَملة لاَ غير ، وهذا أمر غَير صعب كَثيرا ، فَبالإضَافة إلى الهَواء المُّلوث بالسِّجن والذي لا يغَادره ، تُّوفر الإدَارة قطعَا من الحَّشيش السَّيء ، التي تَجعلك تعتقد بالفعل أنَّك كُّنتَ صَباحَا بجبال الهمَلايا ، وأنَّ صَديقتك شَقراء الشَّعر كانت تُّمسك قَضيبك باستمتاع كبير ،وحين جَّنَّ عليكمَا اللَّيل نمتمَا على سحابة وثيرة .
صمت السَّجينَان واللذان كَانَا يبدوان سَجينا واحدا لاَ غير .
فكر أحدهمَا رُّبما في نفس مَا فكر فيه الآخر لكنهمَا مَعَا تَوقفَا عن قَول أَي شيء.
تجشَأ أحدهمَا حَالة مَّقت وَاضحة وقَال :
المُّشكل فِي التُّهمة التي تجعلك في السَّجن ، فَحين تكُون باطلَة يكونُ السِّجن حَقيقيا وليسَ مُّتَخيلا على الإطلاَق ، وحينَ تَكون حَقيقة لا يَهم مَا يَفعله السِّجن بك ، فَستكون قَد استحقَقتهَا .
ضَحك السَّجين الآخر ، ضَحك بألم وَاضح ، كَأنَّه كَان يَبكي ولا يَضحَك ، فَأحيانَا يَصيرُ الشَّيء شَبيها لنقيضه .
السِّجن وَاحد ..
هُو نفسه يَضم شَخصا لَمْ يفعل شَيئا ، وشَخصا نَحر عنق صديقه في جلسة خَمر ، وشَخصا من شِّدَّة الكَّبث أحنى عَجوزا واغتصبهَا ، وشَخصا لحلمه بحياة أفْضل فَّكر في البحث في منزل غَيره وسَرقته ، وشَخصا ضُّبط متلبسَا وهُو يُداعب مُّؤخرته مَع صديق له ، وشَخصا مُّسك وفي جَيبه نَفس قطعة الحشيش التي تُّقدمها إدَارة السِّجن لنا ، وشَخصا كان يُّعلم حنجرته الصيَاح في مُّظَاهرة مَا ، وشَخصا زَّور وثَائقَا ليتزوج من إمْرأة ثَانية ، وشَخصا من شدة غَضبه كَسر عَلامة قف التي تملكهَا البَّلدية ، وشَخصا سبَّ من لا يَجب سبهم …
لاَ فَرق …
ثم أعَاد عَينه إلى شُّق ذَاكرته الضيق كي يَتلصص على نُّور مَا .
حين عَاد السجَّان سَمع السجين نفس العِّبارة التي سمعهَا سابقَا .
هَذا منْ تَأثير الهَّواء الملوث الذي لا يُغَادر السِّجن .
حين سأَل السَّجان السَّجين الثَّاني عن مدة سجنه أَجَابه بأنها مدَّة مَا سَتنتهي يَومَا مَا على كُّل حَال .
ابْتسم السَّجان مَّرة آخرى لكن السَّجين لَمْ يسمع العبارة التي سَمعها السَّجين الآخر واللذان رُّبما كَانَا واحدَا ، بَل بَدأ يفَكر في المُّدة .
قال للسَّجين الآخر الذي ربَما هُو :
لا أَظن هُنُاَك فَرق في المُّدد السِّجنية ، فإن كَان يَوم في السِّجن يُشبه يَوما آخر ، فمنطقي أنْ تََكون كُّل مُّدة كَيفمَا كَانت طَويلة جِّدا إلاَّ يَومَا واحدا ، إنَّ الأَمر يُشبه مَّجموعة من البيض ، فَمهما كَانَ عَددها فهي تُّشبه بَيضة وَاحدة ، وبالمثل إنْ عشت يَومَا واحدا بالسِّجن فَكَأنَّك عشت مدة طويلة جدا ، فما عشتَه في ذَلك اليَوم هُو نَفسه مَا سَتعشه في تلك المدة ،مَع اختلاَفات بَسيطة لا يُنتبه لهَا .
في لحظَة مَا فكَّر السَّجين في نفس مَا فَكر فيه السجين ، والذي يُّمكن أنْ يَجعلنا نَستنتج أنَّ جميع السُّجنَاء همْ سَجين واحد …
لَقد فَّكر الجميع في السِّجن ؛ مَا هو ؟
إنَّه هَذا الذي نَّحن بِه … قَال أَحدهما الذي هو الجَميع.
إنَّه الفَّقر الذي نَحن فيه … قَال آخر الذي هُو الجَّميع .
إنه الظّلم الذي نحن معه …قال آخر .
إنه ….
في الأخير قََالَ السَّجَّان الذي هُو نَّفْسه السَّجّين إنَّه الحَياة .
قَال السَّجَان :
أنَا لاَ اختلف عَنْكم كَثيرا فَحين أُغلق عَليكم الأَبواب واذهب إلى بَيتي ، لأنَام مَع زَوجتي ، وأُلاَعب أبنَائِي ، وأشَاهد النَّاس منْ نَافذة غُّرفتي تَتأمل بَعضهَا بَعضَا، وتُّحدث بَعضا عن مشَاريعها المُّستقبيلة ، ويَحدث أنْ أُشاهد شجَارا دَاميا ين اثنين ، وغزَلاً واضحا بين اثنين ، وشَخصا يَمُّر كئيبا إلى جهَة مَا …حين يَحدث أنْ أَرى كُّل هَذه الأشياء انْسَى أنِّي خَارج السِّجن ، فنَفْس مَا يَقع داخلهُ يقعُ خَارجهُ ،وأتَخيل نَّفسي دَاخله ، فَالخَارج والدَّاخل لاَ حُّدود بَينهمَا ، فَأشعر أنِّي أنَا الآخر سَجين وضعهُ غَيرُ سجين …
آه … قَالَ الجَّميع .
يَحدث أنَّ بَعض الأشيَاء تُّشبه كُّل الأشياء .
وأنَّ ألمَا فِي المَّعدة هُو كُّل الألَم مَادمَا لهمَا نَفس المنطلق وإن اختلفت حدّتهما، وأن فرحةَ الجَائع بكسرَة خبز تُّشبه فَرحة تلميذ بِنَجاج مَّدرسي ، وتشبه فَرحة فَتاة بِزَوج كبير في العمر ، وتشبه كل الفرح …أَه …بعض الأشياء تّشبه كل الأشياء .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *