قد يوهمك السارد في مستهلّ رواية شكري المبخوت الجديدة «باغندا» (دار التنوير) بأنّه سيقودك نحو اكتشاف سرّ اختفاء «الجوهرة السوداء في تاج كرة القدم التونسية»، باغندا. ولكن، ما إن تتوغّل في القراءة حتى تكتشف أنّ الرواية التي نهجت أسلوب التحقيق (ريبورتاج) ليست سوى رحلة في تاريخ تونس الحديث، ولا سيما المرحلة الانتقالية بين حكومتي الرئيس الأول بورقيبة المعزول وخلفه زين العابدين بن علي.
تنطلق الأحداث من عودة الراوي، عبد الناصر، إلى ملف اللاعب باغندا، الملقب بـ «بيلي تونس»، ليجمع كل ما كتبه من نصوص ومقالات مُنعت من النشر في الصحف التونسية لأسباب يوضحها صفحةً تلو أخرى.
يرتدي الراوي زيّ الصحافي الاستقصائي المسكون برغبة البحث عن مصير لاعب بزغ نجمه على الملاعب فسَحَرَ التونسيين وأذهلهم قبل أن يصير اسماً ممنوعاً وتاريخاً منسياً. «بدأت الحكاية على نحو مفاجئ، وانتهت بسرعة دون أن أتمكن من كشف خفاياها. كان إحساسي بالقهر وتعطشي لمعرفة الحقيقة قد دفعاني طيلة سنة تقريباً، الى الاشتغال على ملف باغندا».
وليس الاستقصاء في رواية المبخوت فكرةً يهجس بها الراوي، بل إنّها تقنية تمتاز بها الرواية، فلا تبدو الكتابة متدفقة كما في السرد الروائي العام، إنما حكايات بعناوين فرعية تتداخل مع رسائل ومقالات يوثّقها بتواقيع وتواريخ.
عبد الناصر هو الراوي في نصّ المبخوت، ولاسمه دلالة جليّة لا تخفى على قارئ سبق أن اطلع على روايته الأولى «الطلياني»، الحائزة بوكر العربية عام 2015. لا نعرف مسبقاً ما إذا كانت المسألة مقتصرة على تشابه أسماء، تقصدها المبخوت من قبيل المصادفة ذات الصفة المزدوجة، أم أنه فعلاً «البطل» نفسه في حكاية جديدة ومتطورة. لكنّ الصفات التي تتراكم خلال قراءة «باغندا» تكشف أنّ راويها هو نفسه عبد الناصر الملقّب بـ «الطلياني» في العمل السابق. ومن تلك التفاصيل التي تقودنا الى حسم فرضية التماهي: هو صحافي، درس الحقوق وانخرط في أحد الأحزاب اليسارية، زوجته الأولى اسمها زينة…
وإذا كان القارئ أطلّ على سيرة عبد الناصر في «الطلياني» عبر ما أورده صديقه الراوي، فإنه يستحيل هنا راوياً يحكي عن شخصية أخرى (باغندا)، أو الأصحّ شخصيات أخرى (عماد بلخوجة، سي عبد الحميد…).
قد يُحيلنا اشتراك الروايتين «الطلياني» و «باغندا» ببطل واحد (عبد الناصر)، إلى مفهوم «الارتباط» بمعناه الأدبي، المعروف نقدياً بـSyllepsis، ويعني ربط الحكايات انطلاقاً من قرابةٍ ما بينها، سواء أكانت موضوعاتية (تيمية) أو مكانية… لكنّ هذا الارتباط لا يكتمل معناه هنا لكونه لا يظهر بوجهه التكراري، إنما يُستعان بالبطل ذاته من أجل حكاية أخرى بأحداثٍ وأجواءٍ وتقنيات مختلفة، وإن ظلّ كشف الخفايا السياسية هاجساً في كلتا الروايتين.
أصل الحكاية هنا مُتصلٌ بمقالٍ أحضره عبد الناصر، الصحافي الرياضي في جريدة حكومية فرنكوفونية، عن اخـــتـــفاء بـــاغندا، اللاعـــب التـــونــسي الأسمر. اعــتــقد أنّ مقالته سبق صحافي ستتفرد الجريدة بنشره وسيجلب القرّاء، أكانوا من متابعي رياضة كرة القدم أم لا. كان الخبر قد تحصّل عليه صبيحة يوم الأحد من أصحابه في مقهى «الحاج الشمنططو» الذين عرفوا أن نجمهم المحبوب، وهو ابن الحيّ المجاور، قد اختفى لأسباب اختلفت على لسان هذا وذاك. لكنّ الأكيد أنّ «اختطافه» يدخل في سياق الاعتداء المتعمّد من جهة لم تكن محددة. ولأنّه لم يكن يعمل بقاعدة «ليس كل ما يعرف يُقال»، نشر مقاله في الصفحة الأولى بعدما تعذّر عليه الاتصال برئيس التحرير ليخبره بنيّته، وتصرّف بتغيير موقع الإعلانات والأخبار الأخرى. ما اعتقده إنجازاً مهنياً كان له وقع المصيبة على الجريدة التي اعتذرت سريعاً عن المقال لتُغلق بعدها ملفّ باغندا ويدخل طيّ النسيان.
بعد تلك الحادثة كاد عبد الناصر يخسر عمله، بل مهنته، لولا محبة رئيس التحرير له، غير أنّه تيقّن من ذلك الحين أنّ كواليس الرياضة لا تختلف عن كواليس السياسة، وأنّ رجال المال يتحكمون بكلّ الأعمال، وأنّ الصحافة ليست مهنة البحث عن الحقيقة كما اعتقد طويلاً، إنما مجرّد «شقشقة لفظية وبلاغية غثّة باردة وانبطاح لذوي السلطان من دون مبرّر». لكنّ إحساس الراوي الداخلي بضرورة إنصاف ابن الحيّ الذي لعب معه كرة القدم في أزقة الحواري قبل أن يصير نجماً، دفعه إلى الاحتفاظ بأقاصيص ومقالات وشهادات أخرجها بعد سنوات ليصنع منها كتاباً يُعيد فيه باغندا- الأسطورة- إلى ملعبٍ من ورق.
من المقالة الأولى عن سرّ اختفاء باغندا إلى الكشف عن محاولة قتله بحادث سير مدبّر لم يقضِ عليه وإنما أقعده في كرسيه المتحرّك حتى موته، يتابع القارئ عبدالناصر في بحثه عن شخصية أخرى (عماد بلخوجة) تتجاوز بأهميتها ومساحتها بقية الشخصيات، ومنها باغندا. هو رجل أعمال نزّاع إلى السلطة، ذكي بدهاء، حقّق مآربه بأساليب غير مشروعة، يُلقب بـ «الذئب الشاب». سيطر على الحياة الرياضية في تونس، أهمل الألعاب الفردية واهتمّ بكرة القدم. انتُخب رئيساً للاتحاد التونسي، وبنى فندقاً جهزه خصيصاً للاعبي الفريق الذي انتدب لهم مدرباً من البرازيل، اكتشف مهارات فتحي بركة المشهور بـ «باغندا»، فأخرج منه قدراته الاستثنائية. لكنّ نجوميته جعلته «يشطح» بعيداً عن رغائب «أسياده». هذا التمرّد على الكبار كلّفه محاربة علنية في الوسط الرياضي وفي الصحف قبل أن تصل الأمور إلى حدّ القتل المعنوي ثمّ الجسدي. يصوّره الراوي كأنّه فراشة تحرق أجنحتها بنور الشهرة والنجاح: «اختار باغندا جحيمه. فضل نار الاحتراق على نار القهر والعجز».
شخصية عماد بلخوجة تتفوّق في رمزيتها ربما على شخصية باغندا ليغدو رمزاً لكلّ رجل نافذ يشتري صمت الصحف ليحقق نزواته و «جرائمه» القذرة. وهذا ما يتكرّس في خاتمة الرواية حيث يظلّ سؤاله معلقاً: «لقد ذهب باغندا من الوجود والذاكرة، وغادر عماد بلخوجة الاتحاد التونسي. ولكن كم من باغندا ومن بلخوجة يعيش بيننا…؟»
قد يشعر القارئ أحياناً بأنّ الكاتب يُقيم في روايته مقاربة بين باغندا، اللاعب الذي بدأ حياته نجماً وانتهى منسيّاً، وبين الحبيب بورقيبة، الرئيس الأول لتونس الذي بدأ حاكماً «مدى الحياة» وانتهى معزولاً في قصر «المانستير». وأيضاً بين بلخوجة (رئيس الاتحاد) وبن علي (رئيس البلاد)، فالأول هو نسخة متخيلة من الثاني. بدّل الأنظمة، اشترى الإعلام، قيّد الحريات، منح زوجته صلاحيات واسعة وجعل منها سيدة أعمال معروفة، ما يذكرنا بصورة ليلى طرابلسي (زوجة بن علي) التي لم تسلم من غضب الشعب حين هبّ ثائراً في «ثورة الياسمين». والأهم أنّ بن علي كان قد سلّم رئاسة نادي الترجي الرياضي في تونس إلى صهره الأول سليم شيبوب، ما يومئ إلى تداخل العلاقات وفسادها بين عوالم الرياضة والسياسة والأعمال.
ختاماً، يترك فينا تحقيق عبد الناصر الخطير إحساساً بنمط الحياة التي تدور كما الدولاب، فلا تُبقي أحداً في مكانه، وهو يُقفل كتابه كمن يردّد شعاراً ثورياً: «مات باغندا… عاش باغندا».