خاص- ثقافات
يحكى قديما أن الإنسان عندما قهرته الحياة ،لجأ إلى المتخيل هروبا وبحثا عن واقع ممكن، وفي سيرورة بحثه ابتكر لعبة لعله بها يستطيع أن يغير أو على الأقل أن يعدل مسار القدر .من أساسيات هذه اللعبة أن تزيل قناعك الشخصي وتعوضه بأقنعة مستعارة لشخصيات قد تتشابه معك أو تختلف في الطيبة والشر والمكر والخيانة … وأشياء آخر.هكذا تبلور المسرح في شكله البدائي ليتطور إلى عرض درامي يجسد تحولات الواقع وتمثلات البشر لذواتهم وللآخر ،ليعرض لآلهة كقربان لنيل الرضا والرحمة والغفران والخصب .لكن هذه اللعبة سرعان ما تحولت عبر الزمن إلى أداة لمكاشفة الذات المبدعة في حميميتها وعنفوانها وتمردها على الثوابت والأشياء ،كما عكست علاقات إشكالية لهذه الذات سواء في صراعها النفسي الداخلي أو في أزماتها مع الآخر لفرض السيطرة والنفوذ في عالم أضحى -في حقب زمنية عدة- غابا قاعدته البقاء للأقوى .
عبر تاريخ المسرح الممتد إنسانيا وكرونولوجيا استطاعت ذوات أن تعانق المجهول وان تتجاوز حدود الوهم والأسطورة ،وبإرادة واعية تعمق ذلك المبدع الذي لا يحمل إلا سلاح الكلمة في غياهب وعوالم لا متناهية تاركا لأجيال أخرى تلته لذة التذوق واستكمال المغامرة ،مغامرة البحث في عمق الكلمة والجسد اللذان توحدا وتعانقا ليؤكدا أن المسرح خلق من رحم الدين لكنه ترعرع في صميم المعاناة والقلق البشريين .
والمسرح العربي لم يشذ عن هذه القاعدة ،مادام الإبداع يؤمن بالتوحد والمشترك الإنساني .إذ شكل ولا يزال بوثقة تنصهر فيها ذات المبدع وأناه لتعانق أحيانا الأخر بحميمية صالة العرض معبرة عن قيم إنسانية خالدة ، أو لتنفرد أحيانا أخرى هذه الذات على الخشبة بهواجسها وأرقها في عزلة اختيارية تبوح فيها للنفس بما لم تستطع أن تكشف عنه للآخر .
لقد شهد المسرح العربي كباقي مسارح العالم مخاض الولادة العسيرة وان كان قد مهدت له من قبل في ثقافتنا العربية أشكال فرجوية تتقاطع مع الشكل المسرحي المعاصر مثل: سلطان الطلبة والحلقة والحكواتي وخيال الظل والقرقوز ..وغيرها من الأشكال البدائية للعرض والإمتاع البصري.ورغم أن هذا الفن قد ولد غريبا في بيئة عربية اعتبرته في البداية لقيطا لأسباب عدة ،إلا أنه قد بلور فيما بعد تحولات المجتمع العربي ليرصد علاقته الحتمية بالإنسان والواقع .وعبر هذا المخاض تبلورت قضايا وإشكالات عدة عكست هم المبدع العربي في تأسيس كيان فرجوي قادر على أن ينال الاعتراف بالتميز .لهذا فمنذ نشأته في ثقافتنا العربية استطاع المسرح أن يتماهى مع قضايا المجتمع ولعل ابرز تلك القضايا قضية الأنا في علاقتها بالأخر .
إن البحث في ماهية هذه القضية في علاقتها بالإبداع خاصة في شقه المسرحي لهو مطلب حتمي وضروري لملامسة انعكاس هذه العلاقة الوجودية على الثقافة والفكر ،كما انه كفيل ببلورة تصورات يقينية عن طبيعة تمثل الثقافة والإبداع العربيين لإشكالية أرقت الفكر الإنساني وتباينت في شأنها الرؤى والأفكار.
كيف هي إذن طبيعة العلاقة بين الذات والآخر في ثقافتنا العربية؟ وما تجلياتها إبداعيا ومسرحيا ؟وهل يمكن للمسرح العربي أن يحمل لواء التبشير بعلاقة متصالحة بين هذه الأنا بتناقضاتها والآخر باختلافه؟
قبل مكاشفة طبيعة وماهية العلاقة بين الأنا والأخر في الفكر الفلسفي والإنساني والمسارات التي قطعتها هذه العلاقة لتقفز من سؤال الفلسفة إلى إشكالات الإبداع ، لابد من الإشارة إلى أن مصطلحات من قبيل (الأنا والأخر) من المفاهيم المستحدثة في ثقافتنا العربية ذلك أنها ذات أبعاد فلسفية فكرية بالأساس ،أي أن الحقل الفلسفي هو البيئة الطبيعية لولادة ونشأة وتطور هذه المفاهيم،لتنتقل فيما بعد إلى الأدب والفكر والثقافة والإبداع، فأنا حسب المعجم الأدبي:” « ego-sujet-moi » تعني شعور بالوجود الذاتي المستمر والمتطور بالاتصال الخارجي والاختبارات والتثقف ثم التأمل والاستبطان ،وهذا الأنا هو مركز البواعث والأعمال التي تؤقلم الإنسان في محيطه وتحقق رغباته وتحل النزاعات المتولدة عن تعارض هذه الرغبات .
-
فنيا : الأنا شعور يبرز الذات بشكل طاغ بحيث ينشط الفنان ضمن دائرة لا تتعدى حدود شخصيته مشيحا بوجهه عن أمالي البيئة التي يعيش فيها ،أو متخذا منها إطارا مجملا أو مشوها لكيانه.”(1)
وإذا كانت الأنا في الأدب رغبة في إبراز سلطة الذات واثبات حضورها في الواقع فان المفهوم فلسفيا يكاد يتخذ دلالات مختلفة نسبيا ، “فأنا عند الفلاسفة العرب إشارة إلى النفس المدركة ،وفي معجم لالاند ( Lalande vocabulaire) تتخذ أنا في الفلسفة الحديثة عدة معان منها :
1-المعنى النفسي والأخلاقي:إذ تشير كلمة (أنا) في الفلسفة التجريبية إلى الشعور الفردي الواقعي فهي إذن تطلق على موجود تنسب إليه جميع الأحوال الشعورية.
2-المعنى الوجودي:إذ تدل كلمة( أنا )على جوهر حقيقي ثابت يحمل الأعراض التي يتألف منها الشعور الواقعي.”(2)
بعيدا عن لغة المعاجم وتلمسا لجدلية الأنا والأخر في الواقع الإنساني ،تكاد تحضر هذه الثنائية بقوة في تاريخ البشرية ابتداء بقصة بدء الخليقة واستخلاف الله عز وجل لأدم عليه السلام مرورا بتمرد الشيطان (الآخر)الذي أعطى للحياة بعدا صراعيا مازالت خيوطه الدرامية مستمرة إلى الآن ،وصولا إلى الأنا المتعبدة والأخر الحاقد (قابيل وهابيل)والأنا الحاملة لهموم الإنسانية (الرسل والأنبياء وورثتهم العلماء)لتستمر هذه الجدلية بشكل متكرر ينأى عن النمطية باعتبار أن لكل شخص في الحياة أناه التي تختلف عن أنا الآخرين نوازعا وتوجها في الحياة ،فتاريخ الإنسانية يؤكد أن كل أنا قد خطت قدماها في هذا الوجود إلا واكتوت بنار الآخر ليكون هذا الأخير بمثابة صخرة سيزيف التي حملها إلى قمة الجبل بسخط أو رضا ،لكنها في النهاية تحولت إلى قدر حتمي لا مفر منه ولا مجال للتخلص من أرقه إلا بتقبله عن قناعة ورضا .
وبغض النظر عن طبيعة العلاقات التي جمعت بين الأنا والأخر في الثقافة والواقع الإنسانيين، فان الفكر الفلسفي ممثلا في ما أنتجه العقل الإغريقي، استطاع بلورة هذه القضية متجاوزا حدود الزمان والمكان ،ومؤكدا أن الأنا كانت وستزال تتخبط في جدال وصراع دائم مع الآخر سواء كان هذا الآخر إنسانا أو قوى طبيعية أو كائنات غيبية.
أما الفلسفة الأوربية المعاصرة فقد حصرت جل العلاقات بين الأنا والأخر في الصراع، فالفكر الأوربي بما عايشه من تحولات القرون الوسطى وما راكمه من تجارب عصر النهضة والأنوار والثورة الفرنسية ومخلفات العصر الصناعي وويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية ، شكل أداة للنظر إلى الآخر كخطر دائم محدق بالذات ولعل هذه الرؤية قد اختصرها الفيلسوف الوجودي والأديب الفرنسي جون بول سارتر في قولته الشهيرة”إن الجحيم هم الآخرون”وأمام هذا الهاجس من الخطر تصبح الذوات في حالة لا آمان وتوجس من هذا الآخر، ولعل هذا ما عبرت عنه ذ سعاد حرب في كتابها “الأنا والأخر والجماعة”بقولها :”إن تصارع الوعي مع وعي الآخر كي يعترف به يؤدي إلى علاقة السيد بالعبد ،إذ يسعى كل وعي إلى أن يعترف به من قبل الوعي الآخر على انه حرية ،عليه أن يتصارع مع هذا الوعي وان يضع حياته في خطر دون أن يؤدي هذا الأمر إلى موت احدهما لان القضاء نهائيا على أحد طرفي الصراع ينهي الجدل .”(3)
الحياة إذن من هذا المنظور جدلية صراعية بين الأنا والآخر ولا مفر إذن من مواجهة حتمية لنيل الاعتراف وفق ديالكتيك هيغلي يرى أن الجدل ضرورة يفرضها الواقع وان الصراع لا مناص عنه من اجل اكتساب الحرية وتحقيق قفزة نوعية في الوعي البشري.
أما نيتشه الفيلسوف الألماني المعاصر، فقد نظر إلى طبيعة العلاقة بين الأنا والأخر من زاوية أخرى وان كانت تتمحور وتدور في فلك سابقيه، حيث عبر عن توجهه الفكري ورؤيته لهذه القضية بفكرة “صراع القوى ،مقسما الذوات (أنا وآخر) إلى قوى فاعلة وقوى ارتكاسية، فالقوى الفاعلة هي السيد النبيل المتعالي، والقوى الارتكاسية هي العبد ،وقد أدى صراع هذه القوى كما يظهر ذلك التاريخ إلى انتصار القوى الارتكاسية.”(4)
لقد حاول سيغموند فرويد في دراسته التحليلية للنفس البشرية أن يوضح طبيعة الصراع الذي تعيشه الأنا في سبيل تحقيق رغباتها وشهواتها، وهو صراع اتخذ بعدا نفسيا داخليا كما تبلور أحيانا على المستوى الخارجي بتعارضه مع قيم الأخر الذي يمثله المجتمع (الأنا العليا)ليكون الضمير (الأنا الأعلى )هو الحكم القادر على تصحيح هذه العلاقة ،لذلك فرغم الدراسات النفسية المتعاقبة للانا في علاقتها بالأخر في هذا التخصص من العلوم الإنسانية تظل الفلسفة الحقل الأكثر تحديدا وتعمقا لماهية هذه العلاقة فالفكر الفلسفي المعاصر اعتبر” العلاقات الإنسانية في جوهرها تتأسس على التموضع:(L’ objectivation) المتبادل من كل واحد للآخر، فعندما تلتقي حرية مع حرية أخرى تعمل كل واحدة على النظر إلى الشخص الأخر على انه شيء ،أي تعامله كوسيلة لأهدافها وهذا ما يجعل العلاقة مع الآخر صراعية ،لان كل واحد سيحاول أن يتخطى هذه العبودية وان يظهر للأخر على انه حرية.”(5).
ما الحل إذن أمام هذه العلاقة المركبة والمضطربة التي اتفقت الفلسفة على رسمها للانا في تفاعلها واحتكاكها بالآخر ؟ وما السبيل لتجاوز حالة اللاحوار التي طبعت ملامح هذه العلاقة والتي اتخذها مفكرو الإنسانية قاعدة كرسها الواقع و صعب على البعض تجاوزها وتبني نقيضها ؟
الفيلسوف الوجودي سارتر يكاد يلامس حلا لهذه الإشكالية إذ اعتبر :”أن الإنسان شغف ليكون إلها ولكن سعيه محكوم عليه دائما بالفشل، بحكم أن العلاقات مع الآخرين هي صراعية ،وأننا في خطر عبودية دائم ،وللخروج من هذا الفشل يهدينا إلى الفن المطلق ،وهكذا نرى في “الغثيان”الدور المهم الذي يعطيه للفن والموسيقى .”(6)
لقد طرح سارتر الفن كأداة مثلى تسمح للإنسان بالخلاص والتحرر من قيود الأخر. وكإجابة عن سؤال لماذا يجب أن نرى عرضا لذاتنا على خشبة مسرح ؟يجيب :”اعتقد أن الناس يعيشون وسط أشياء، لأنهم لا ينجحون أبدا في أن يكونوا أشياء واقعية لأنفسهم فالناس هم أشياء بالنسبة للآخرين ولكنهم ليسوا أشياء تامة بالنسبة إلى ذواتهم .”(7)
ويتفق هيغل مع هذا الطرح معتبرا “أن الفن يبرز حقيقة تتجاوز مظاهر الواقع الحسي ،فالفن يسعى في كافة أشكاله إلى تجسيد الوعي .”(8)هكذا انتقلت جديلة الأنا والأخر من الحقل الفلسفي إلى متاهات الإبداع، فالفن هو الأداة المثلى و الوحيدة القادرة على تجاوز حالة الصراع والعداوة التي تكنها الأنا للأخر لقدرتهما معا على النظر إلى نفسيهما كحالة منفردة، لتكسر الخشبة الحدود الوهمية التي صنعها الإنسان والتي رسخت لفكر القطيعة باعتبار أن الأنا والآخر يمثلان الضد والنقيض وبالتالي فكلاهما خطر على الآخر.
______________
المراجع :
– (1) جبورعبد النور،المعجم الأدبي ،دار العلم للملايين،ط1،1979،ص36.(2)جميل صليبا،المعجم الفلسفي،دار الكتاب اللبناني،1982،ص139-140. (3)سعاد حرب ،الأنا والآخر والجماعة،دراسة فلسفة سارتر ومسرحه،دار المنتخب العربي ،بيروت لبنان،ط 1، 1415 -1994.ص07.(4)المرجع نفسه ص14.(5)المرجع نفسه،ص161.(6)المرجع نفسه،ص30.(7)المرجع نفسه،ص162.(8)المرجع نفسه،ص170.