في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر يعدُّ المفكّر الجزائري مالك بن نبي (1323-1393هـ / 1905-1973م)، أحد أكثر المفكّرين همًّا واهتمامًا بفكرة الحضارة، ويكفي النظر إلى كتاباته ومؤلفاته للتثبت بسهولة من هذه الملاحظة، التي لا يكاد يختلف عليها أحد؛ وذلك لشدة ظهورها ووضوحها، بشكل يغني عن الحاجة للبرهنة عليها، أو الجدل والنزاع بشأنها.
وما يؤكد هذه الملاحظة ويثبتها، أن مالك بن نبي أراد، على ما يبدو، أن يقدِّم نفسه بهذه الصفة ويعرِّف بها، وتعمَّد الإشارة المستمرة إليها، حتى أنَّه اتّخذ منها عنوانًا ناظمًا لجميع مؤلفاته، التي عرفت وتأطرت بعنوان: (مشكلات الحضارة).
ولعل هذه أول محاولة، على ما أعلم، يؤطّر فيها مؤلف جميع مؤلفاته بعنوان واحد، ثنائي التركيب، وكأن مالك بن نبي أراد القول بأنّ جميع كتاباته ومؤلفاته، على تنوع عناوينها، وتعدد قضايا وموضوعاتها، وتعاقب أزمنتها، واختلاف أمكنة تأليفها ونشرها، مع ذلك، فإنها تلتقي وتشترك في إطار فلسفة جامعة لها هي (مشكلات الحضارة).
ومن أكثر النصوص التي كشف فيها ابن نبي عن علاقته بفكرة الحضارة، ومدى تمسكه بها، وكيف أنها تمثل الفكرة المركزية في خطابه الفكري ومشروعه الإصلاحي؛ النص الذي يتحدث فيه عن حاله بقوله: (إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن، هي مشكلة الحضارة).
المشكلة التي يرى فيها ابن نبي أنها تمثل أمّ المشكلات في العالم الإسلامي، وحسب قوله في حوار منشور معه سنة 1971م: (إنَّ المشكل الرئيسي بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة، إذا سلمنا بهذه الحقائق، يبقى علينا أن نفكر في مصير العالم الإسلامي، وكيف يمكن لنا الدخول في دورة حضارية جديدة. هذه القضية باختصار، هي التي وجهت لها كل مجهوداتي منذ ثلاثين سنة).
وبحكم هذه العلاقة، جرى وصف ابن نبي بفيلسوف الحضارة، الوصف الذي ورد وتكرر على لسان عدد من الكتاب والباحثين في مشرق العالم العربي ومغربه، ومازال يرِد ويتكرر في عدد من الكتابات والمؤلفات.
ومن الواضح، أن هذا الوصف ليس بسيطًا أو عاديًّا على الإطلاق، وليس من نمط الأوصاف التي يمكن التساهل أو التسامح في إطلاقها، ونجد من الصعوبة في المجال العربي المعاصر إطلاق هذا النمط من الأوصاف على أحد، مهما كانت شهرته ومنزلته الفكرية والثقافية، مع ذلك سرى هذا الوصف على ابن نبي، ولم يجد اعتراضًا أو تجريحًا من أحد.
وما أود لفت الانتباه إليه: أن مالك بن نبي هو صاحب نظرية في الحضارة، وهذه النظرية تمثل جوهر ولب النظام الفكري لابن نبي، كما أنَّها تمثل الإطار الناظم لجميع الرؤى والأفكار والمفاهيم التي طرحها ودافع عنها في أحاديثه وكتاباته ومؤلفاته، وهذا ما يفسر عنونة جميع مؤلفاته بعنوان (مشكلات الحضارة)، مع أنَّه لم يستعمل تسمية الحضارة في عناوين جميع مؤلفاته.
أردت القول إن نظرية ابن نبي في الحضارة، لها منزلة الأصل في جميع كتاباته ومؤلفاته، وما دون هذه النظرية هي فروع، والأصل حسب القاعدة يتقدم على الفرع ويكون حاكمًا عليه، والفرع يرد إلى الأصل ولا ينفصل أو يستقل عنه.
وعلى هذا الأساس فإن هذه النظرية في الحضارة، هي النظرية التي تتقدم على جميع الأفكار والنظريات الأخرى عند ابن نبي وتكون حاكمة عليها، ولا ينبغي البحث والنظر في جميع الأفكار والنظريات الأخرى عند ابن نبي بطريقة منفصلة أو مستقلة عن تلك النظرية في الحضارة.
فإذا كان ابن نبي كتب عن الاقتصاد، وله محاضرة منشورة في كتاب بعنوان: (المسلم في عالم الاقتصاد) الصادر سنة 1974م، لكنَّه ليس صاحب نظرية في الاقتصاد، ولم يكن خبيرًا أو متخصصًا أو حتى دارسًا للاقتصاد وحقله العلمي؛ لهذا ليس من الصواب المنهجي وحتى المعرفي، الحديث عن الرؤية الاقتصادية عند ابن نبي بطريقة تكون منفصلة أو مستقلة عن نظريته في الحضارة؛ لأنه حينئذ يكون أشبه بحديثٍ وبحثٍ عن فرع لا يتصل بالأصل، ولا يستند عليه.
وكتب ابن نبي عن التربية لكنّه ليس صاحب نظرية في التربية، ولم يكن خبيرًا أو متخصصًا أو حتى دارسًا للتربية وحقلها العلمي؛ لهذا ليس من الصواب كذلك من الناحيتين المنهجية والمعرفية الحديث عن الرؤية التربوية عند ابن نبي بطريقة تكون منفصلة أو مستقلة عن نظريته في الحضارة، وهكذا في القضايا والموضوعات الأخرى.
وهذا يعني لا يمكن فهم فلسفة مالك بن نبي، وتكوين المعرفة بنسقه الفكري، ومنظومته المفاهيمية، من دون الكشف عن نظريته في الحضارة، والإحاطة بهذه النظرية فهمًا ومعرفةً، وذلك على قاعدة “لا يمكن معرفة الفرع من دون معرفة الأصل الحاكم عليه” وباعتبار أن الفرع يرد إلى أصله.
___
*مؤمنون بلا حدود