كتاب الورشة

*أمير تاج السر

صدر منذ أيام قليلة، عن مؤسسة الحي الثقافي- كتارا، كتاب بعنوان: «فصول تجريبية في كتابة الرواية»، وهو نتاج ورشة للكتابة، كنت أشرفت عليها، وشارك فيها على مدى أشهر، إثنا عشر مبدعا من أعمار وجنسيات متباينة، اتفقوا جميعا على حب الكتابة، وثقة كبيرة أنهم قد يصبحون كتابا مميزين ذات يوم.
كانت التجربة عظيمة فعلا، وكونك تشرك عشاقا للكتابة في قرارات مهمة تخص الكتابة، وتقنعهم بقواعد لا بد من اتباعها من أجل عمل جيد، كان مسألة صعبة، لكن أثبتت التجارب جدواها، وأن أي عاشق لشيء حتى لو لم يجربه من قبل، لكن انخرط في الجو الذي يقود إليه، واستنشق رائحته من بعيد، سيحصل عليه في يوم ما. وبالنسبة للكتابة الإبداعية، لم تعد الورش الكتابية بدعة، ترتفع عند ذكرها الحواجب تعجبا، ولا أحلاما بعيدة المدى، قد تتحقق وقد لا تتحقق، لكنها حقيقية وناجحة، وتجرى في أي مكان فيه كتاب مخضرمون مستعدون لإشراك الآخرين في تجاربهم، وآخرون في بداية الدرب يحملون عصيا يتكئون عليها، ويأملون في بلوغ النهاية.
منذ سنوات وحين أبلغوني في جائزة البوكر العربية، برغبتهم أن أشارك في الإشراف على ورشة للكتابة في مكان هادئ رزين، في صحراء الربع الخالي، سيكون المشاركون فيها كتابا شبابا، بعضهم قطع شوطا في الكتابة، وبعضهم ما يزال في أول الطريق، ارتبكت كثيرا، لم تكن لديّ أي خبرة في الإشراف على الورش، ولا أعرف ماذا ينبغي أن يقال في مواجهة كتاب طامحين، وما لا ينبغي أن يقال. وما هي المادة التي يمكن طرحها، وتقود إلى تسهيل الطموح أكثر من تعقيده. أذكر أنني لجأت لناقد عربي كبير، أعتز بصداقته وآرائه، سألته ولم يكن قد أدار ورشة كتابة من قبل، لكنه يعرف كيف يمكن إدارتها، زودني بنصائح جيدة، عن البدء بتعريف الرواية، كيف تبدأ وكيف تنتهي، وماذا يمكن أن يقال فيها، قبل أن نضع خاتمة. كانت نصائح رائعة اتكأت عليها وذهبت إلى الربع الخالي، واندمجت في العمل، ونجحت تلك الورشة، ونجحت ورشة أخرى، خاصة بالجائزة أيضا، في العام التالي، وأصبح الأمر سهلا جدا.. ستبدأ الورشة وستنتهي، وسيخرج المشاركون بآراء وقواعد إن استخدموها، لربما تحقق كثيرا من الطموح الذي يحملونه.
موضوع الورشة، أو الورش الإبداعية، يقود إلى موضوع أكبر لطالما كان الناس يسألونه وما زالوا يسألونه، وسألني عنه أكثر من خمسة أشخاص شاركوا في الورشة الأخيرة التي أقمتها بمبادرة من كتارا أيضا، تزامنا مع معرض الدوحة للكتاب، وفي إحدى قاعاته. هؤلاء الأشخاص صنفوا أنفسهم عشاقا للكتابة، لكنهم لم يكتبوا قط من قبل، وبعضهم لم يقرأ إلا صفحات قليلة في كتب لم يستطع إكمالها.
السؤال:
هل يمكن أن نتعلم الكتابة، حتى لو كنا بلا مواهب؟
الإجابة: نعم.
فما دامت الكتابة الإبداعية، قد تم الاعتراف بها مادة تعليمية، وهناك جامعات غربية تدرسها، ومراكز تدرب الكتاب على تدريسها، فهي إذن مادة قابلة لأن يحضر دروسها موهوب وغير موهوب، على حد سواء، فقط يصبح الموهوب أكثر سرعة في استيعاب الدرس، وأكثر قدرة على الاحتفاظ بقواعده حارة وطازجة في عقله حين يكتب رواية. المدرس يأتي ويتحدث، والطالب يسجل ما قيل، ويأتي بنموذجه العملي الذي يشارك به بعد استماعه للقواعد الأولية، وحين ينبهه تشريح نصه التجريبي إلى أخطائه، ويصححها ويعيد قراءة النص، سيكتشف الفرق حتما، وستصبح المادة المدروسة أقل مشقة في المستقبل، هكذا أفهم دروس الكتابة، ودروس الرسم، ودروس الهندسة، والطب وغيرها من العلوم والفنون.
أعود لكتاب «الفصول التجريبية» الذي ذكرته، إنه كتاب متوسط الحجم، والذين شاركوا في الكتابة فيه، دخلوا الورشة على استحياء مدفوعين بالعشق والطموح، وتعرفوا على شيء من القواعد كما ذكرت، وشاركوا في تحرير نصوص بعضهم بعضا، ومناقشة المشرف في ما كان يتحدث به، وكانت الخلاصة نصوصا جيدة، مختلفة الأفكار، وربما مختلفة الأساليب أيضا، وفقط تتفق في أنها كتبت بطريقة علمية، لا مجال للمصادفات أو العشوائية فيها، ومن الأفكار الجيدة، التي أذكر أنها وردت في الكتاب: موضوع الهجرة واللجوء، وهذا موضوع حيوي يعالج باستمرار في النصوص الإبداعية، منذ أن بدأت الحروب تشتعل، والأوطان تضيق بمواطنيها، واحتمال الموت في البحر أو الصحارى المدقعة، خيار لا بد من تجربته. كذلك عولج موضوع الحب، الموضوع الأزلي الذي لا بد أن يرد في الكتابة، في كل زمان ومكان، وأظنه عولج بطريقة عصرية، دخلت فيها الوسائط الحديثة، والمواقع الإلكترونية، وهناك نصوص التحمت بالتاريخ، وجاءت ببعض قوالب التراث عبأتها بالحاضر، ولدينا أيضا نتف من السيرة الذاتية، في قوالب روائية جيدة.
الآن يوجد إنتاج فعلا، وأعني الفصول الجاهزة داخل الكتاب، ولكن سؤالي الذي أود طرحه هنا، وأحاول أن أجيب عليه: هل يمكن لمن بدأوا معنا وحصلوا على نصوص معالجة، كالتي داخل هذا الكتاب، أن يستمروا في إكمال رواياتهم بالنهج نفسه، ومنحنا أعمالا لم نشارك في معالجتها، ولكن عالجتها أصداء الورشة؟
أعتقد أن الأمر صعب على البعض، وسهل على البعض الآخر، بمعنى أن الذين كتبوا من قبل، ونشروا أعمالا ليست معالجة بالقواعد، يمكنهم بعد أن تدربوا أن يكملوا أعمالهم الجديدة، بلا أي ارتباك، ويمنحوننا في النهاية أعمالا لا تحتاج إلا لتحرير بسيط قبل أن تنشر، والذين كانوا عشاقا فقط، وحولتهم الورشة إلى كتاب، سيحتاجون ربما لزمن آخر من أجل أن ينتجوا أعمالا نظيفة من التصدع والحيرة، وبريئة من الارتباك، لكن لا بأس، فالطريق التي توضع فيها الخطوة الأولى، تحملها إلى النهاية. وربما يكون هؤلاء هم كتاب المستقبل الذين سيكتبون الأعمال الخالدة، التي ذكرها أورهان باموق حين قال، إن الروايات الخالدة، ما تزال تكتب في المستقبل، لم تنشر بعد.
عموما أحيي نشاط الكتابة في كل زمن، وأتمنى أن يكون نشاطا بارزا ومشعا دائما.

____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *