الآخر في خطاب طه حسين ومالك بن نبي


رامي أبو شهاب*

تنطوي مفردة الآخر على جملة من التساؤلات التي تتبدى بوصفها محاولة لفك انغلاق هذا المفهوم الطارئ في الثقافة العربية، وخطابها. فالآخر نموذج غير متشكل، ولا قائم سوى للذات المنتجة التي تعيد تشكيل وصوغ فكرة الاختلاف، لينبثق من كواتها أزمة الأنا غير المنجزة ثقافياً.

ما من شك في أن الذات العربية المعاصرة مسكونة بهاجس الآخر، الذي بات أكوانا من المستويات المعرفية ذات الطابع الإشكالي، إذ ثمة في الفكر العربي الحديث سعي لخلق خطابات تتصل بالأنا، غير أنها غالباً ما تحضر بوصفها أزمة معرفية وإنشائية على محور الاختلاف عن الآخر، الذي يتحدد بالغربي الذي يشكل مصدر قلق وجودي للذات العربية، التي انحلت عُراها خلال فترة الحكم العثماني؛ لتخرج مرتبكة من تلك الحقبة، وبوجه خاص في زمن مفاهيم ونشوء القوميات الأوروبية، وما تلبسها من داء الهيمنة لكل ما هو خارج نطاقها بوصفه مختلفاً.
هذا الوضع دفع « الأنا» العربية للبحث عن علامات حضورها مادياً وسيمولوجياً، ونتيجة لهذا كان لا بد من خلق ثقافة، ولكن أي ثقافة؟ هذا التساؤل تبرره أزمة الكتابة العربية حول الذات والآخر على مستوى الانبهار النموذجي والارتهان للغربي، إلى درجة أن الثقافة العربية المعاد تشكيلها في ضوء اللغة والهوية والقومية والتاريخ ما انفكت تبحث عن صيغ أخرى للتماهي أو الاتصال بالغربي، أو الانفصال عنه.
في كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» نقرأ قلق الأنا، بيد أنها الأنا المصرية في سياقها الثقافي والحضاري، وذلك بعد أن تبددت، واعتراها التهميش والتصدع نتيجة التفوق الغربي، ولهذا كان لابد من ترميمها، فما كان من طه حسين إلا أن ساق الدليل تلو الدليل على اتصال العقل المصري بالعقل الأوروبي، غير أن هذا التماثل، وفعل الاتصال استوجب مقاربة أخرى تدعو إلى معاكسة ذلك عبر الدعوة إلى الانفصال عن الآخر، الذي ينبغي فهمه أولاً، وقبل كل ذلك يجب إخضاع الأنا للتحليل، ولكن في ضوء الآخر، فالأمة حين تواجه تراجعاً على مستوى القوة المادية، فإنها بحاجة إلى البحث عن حلول، غير أن هذا المسعى يجب أن يتوخى مشكلة الأفكار التي ينظر لها على أنها الأداة والسقالة من أجل الخروج من الأزمة الحضارية، وهذا يتضح جلياً في مسلك مالك بن نبي وسعيه لتحليل أزمة الذات العربية كما تجلى في كتابيه «شروط النهضة، و»مشكلة الثقافة».
وعلى ما يبدو فإن الآخر الغربي هيمن على العقلية العربية المنزعجة من تواضعها حضارياً، فطه حسين ومالك بن نبي اتفاقا على ضرورة الخلاص من الضمور الحضاري، ولكن عبر مقاربتين متناقضتين، طه حسين بدا أقرب إلى العناية بمشكلة الثقافة في دائرة ضيقة، ولاسيما في حدود الأنا المصرية، حيث دعا إلى الانعتاق من نمذجة الشرق، في حين أن مالك بن نبي كان أكثر شمولية بسعيه للبحث عن مشكلة الثقافة على مستوى الشخصية المسلمة، وهنا يلاحظ أن كلا التوجهين اتفقا على قيمة التحديد على نطاق الثقافة، وذلك بجعلها إشكالية تتسم بالأنا المنعوتة في مواجهة الآخر عبر البحث عن نمذجة من المدلولات التي تعمق خاصية الاختلاف في حدود من المستويات والأطر، كأن تكون مرجعيات تاريخية أو مرجعيات أيديولوجية. 
الآخر في كلا التصورين هما آخران مختلفان كلية، فالآخر من وجهة نظر طه حسين ينتج بسبب أزمة تتأسس على مشهد تعالي مفردات الهيمنة والاستعمار، فالغرب استطاع أن يمتلك الذات المصرية بقوته وتفوقه المادي والفكري والحضاري، وكي تخرج الأنا من أزمتها، ينبغي لها أن تمتد لتطال الآخر، وأن تجعله جزءا من ذاتها، وبذلك يوضع معنى التفوق ليضحي فارغاً، كون الآخر امتداداً للذات، وهكذا يبطل مفهوم الهيمنة، وتصبح الذات فعل امتداد كونها تتسم بذلك المرتكز الحضاري والثقافي والعقل المشترك، وبهذا يخلص طه حسن إلى أن ثقافة مصر لن تعرف التقدم إلا إذا أخذت بنموذج الآخر، ولاسيما علومه وثقافته. 
يبحث مالك بن نبي مشكلة الثقافة سالكاً مسلكاً نفسياً، إذ لا بد من وضع حدود للثقافة فكان أن لجأ ابن نبي للاتكاء على تعريف عالم النفس يونغ، الذي يشبه الذات بجزيرة في مجال غير محدود يمثل اللاشعور. هذا التعريف يكاد يذهب بنا إلى أن الذات تتشكل بوصفها جزيرة، أي أن هنالك حدوداً، ما يعني أن الآخر ذلك الفضاء الذي لا يتصل بالجزيرة، أي حالة انفصال، وهكذا تبدو الذات العربية ثقافياً، قد انغلقت لسنوات أو لقرون، أو هي لم تدرك حدودها، ولن تغمر واقعها ثقافياً، ومن هنا فإن صدمتها مع الآخر تتصل بإشكالية ثقافية، وكأن هذه الجزيرة فقدت خصوصيتها، ولهذا انبثقت تلك الحلول التي تتطلب اتصال الأنا مع ذاتها، وفي الوقت عينه انفصالها عن الآخر.
إن صدمة معرفة الآخر، أفضت إلى اختلالات هرمية، وتصدعات في الذات، ولكن أي ذات؟ وهل الذات التي نتحدث عنها تدرك مجالها الحيوي ثقافياً وحضارياً ودينياً، وهل هي الذات العربية أم الذات الإسلامية أم الذات المصرية؟ ولعل الثقافة في فكر مالك بن نبي تُحال إلى كونها علامة على العبقرية الأوروبية، وهي بذلك غدت معنى مخترعاً للإشارة، أو بوصفها خطاباً على خصوصية معينة، فالبحث الذي أقامه المفكر الجزائري في سياق التاريخ، توصل إلى عدم تبلور الدلالة المعاصرة للثقافة التي اتخذت في الأزمنة الغابرة شكل الثقافة، فهو حين يبحث عن تموضع هذه الكلمة في الثقافة العربية، يتوصل إلى أنها لم تمتلك بعد تقاليد لتحديد مرجعها الصحيح، فهي لم تعبر تلك المستويات من التقدم، كما حضرت في مفاهيم عصر النهضة الأوروبي، وتطورها في العصر الحديث، فهي حيناً تتخذ طابعاً ماركسياً، وحيناً مفهوماً آخر كما في المدرسة الأمريكية. 
غير أن مفهوم الثقافة يتسم بأنه ينشأ عن علاقة متبادلة بين سلوك الفرد وأسلوب الحياة في مجتمع، بالتجاور مع مشكلة إنتاج الأفكار، بيد ما يعنينا مفهوم الثقافة، خاصة من حيث تعالقها بالمجتمع والإطار النفسي، ولكن في تلك المساحة المشتركة التي تربط الأنا بالمجموع نتيجة توفر الخصائص ذات الطبيعة الواحدة، إن كان على المستوى النفسي، أو على المستوى الاجتماعي، وهنا ينتفي كل ما هو طارئ.
يورد مالك بن نبي مثال الطبيب والراعي البريطانيين حيث ينتجان نمطا سلوكيا واحدا تجاه حادثة ما، كمسرحية «روميو وجولييت»، في حين أن موقف الطبيب والراعي العربيين سيتخذ مظهراً آخر إزاء مشهد الانتحار، ونعني الضحك لا البكاء، ولعل أبلغ ما يمكن أن يقال بخصوص ذلك التوصيف الذي استخلصه مالك بن نبي للاختلاف الثقافي بين الإنسان المسلم، الذي يتسم بالحساسية الأخلاقية مقابل الغربي الذي يتسم بحساسية جمالية إزاء موقف واحد، ونعني انتحار روميو بأنه نتيجة ذلك الإدراك لهيمنة مفهوم الثقافة، وتأصلها في فضاء محدد. 
هذا النموذج الذي يهدف مالك بن نبي من خلاله إلى تبرير الاختلاف الثقافي، ولكن عبر المراهنة على أنساق من البراهين والعلل، غير أنه بدا أقرب إلى تأويلات تتصل بالسياقات التي تصنع الذات لتكون مغايرة عن الآخر، فالقيمة الجمالية سمة مشتركة بين البشر، كما هي القيمة الأخلاقية، ولكن ما يجعلها فاعلة هو ذلك التضامن العقلي بين مجموعة بشرية معينة، تواضعت على قيم محددة لتكون نمطاً مشتركاً من التصورات إزاء مشكلات محددة، غير أن الأنا تبقى عرضة للتغير والتحول، كون الثقافة أشبه بالكائن الحي الذي يتعرض للتبدلات والتحولات، ومن هنا فإن ثقافة أمة، هي شيء غير مكتمل ولا منجز وقابل للتحول، مع أن ذلك ربما يحتاج إلى زمن طويل. 
إن الذات (غير المحددة) التي يحاول مالك بن نبي أن يؤطرها في سياق من الاختلاف الثقافي، إذ هو يجعلها (متصلة بالثقافة الإسلامية) مقابل انفصالها عما سواها، في حين نجد أن طه حسين يحاول أن ينزع الذات المصرية من سياقها، ليعيد تشكيلها ثقافياً في ضوء الآخر، ولكن عبر البحث عن قواسم مشتركة، فالعقل المصري كما يقول عميد الأدب العربي، قد تأثر بالعقل اليوناني كما أثر به. 
هكذا تمضي تلك المستويات من القراءة التاريخية لفكرة قوامها انفصال العقل المصري عن الشرق مقابل اتصاله مع الغرب. وهكذا نجد أن مفهوم الثقافة ومعنى الآخر يبدو قلقا لدى المثقفين العرب، حيث يتحول الآخر إلى نقيض الأنا لدى مالك بن نبي، في حين يجعل طه حسن من الأنا امتداداً في الآخر، فالانتقال من هذا الجانب إلى ذلك الجانب من شأنه أن ينزع إشارات النقص، في حين أن مالك بن بني أقام حدوداً وأسواراً عالية كي يجعل من الأنا تلك الأنا، ومن الآخر ذلك الآخر، وليجعل من الشخصية المسلمة تلك الجزيرة التي ينبغي أن تدرك اختلافها، بما انكشف لها من قدرة على استشعار تلك المناطق المظلمة في دواخلها. 
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *