“بلد صغير” وتحمله معك

*هدى بركات

بلدٌ صغير. وحين تفتش عنه على خارطة أفريقيا يبدو كنقطة صغيرة حمراء. فمساحة رواندا لا تتجاوز ضعف مساحة لبنان. وليس هذا فقط ما يشدّ إلى قراءة رواية غاييل فاي الأولى، بل ما يرويه الشاب ذو الأربع وثلاثين سنة عن ذلك الإنزلاق من الجنة إلى نار الحروب الأهلية، وما يلي ذلك من دبيب البشر في أصقاع الأرض، واقفين دائماً على حافة السؤال: إلى أي “قسم” ننشدّ في مصائرنا؟ إلى جذورنا وإلى الأمكنة التي قدمنا منها، أم إلى ترحالنا في المنافي حيث تتخذ الحياة شكل الأقدار المفروضة التي لا خيار إزاءها.

“بلدٌ صغير” كانت أغنية سمعتُها مراراً لفنّان الراب غاييل فاي قبل ان أقرأ روايته. نصوص الراب اللافتة التي كتبها وغنّاها مع فرقته كانت تروي بحساسية ملفتة محطّات من حياته، كأنّها كانت مقدمة لكتابة الرواية إذ هو تخلّص في نصوص الأغاني من الوقائع الحقيقية لينطلق في سرد خلّاق يعتمد على الخيال ممزوجاً بالذكريات الشخصية، وبما احتفظ به من مسقط رأسه القريب – بوروندي- حيث هربت أمّه التوتسي بعد مذبحة أولى في الستينات… كلّ ذلك يقوم في ظلال اللحظات التي تشفّ فيها الرواية متخفّفة من مشاهد العنف والذبح “على الهوية”… وكان غاييل فاي يعتقد أن الراب يختصر طموحاته الفنيّة ومن أجل الراب ترك عملاً مربحاً في مجال البورصة في لندن، وهو الآن يعيش من أرباح مبيعات روايته التي فاقت كلّ التوقعات.

ذلك أن غاييل الخلاسي – وهو من أمّ رواندية وأبّ فرنسي – عاش سنوات في إحدى ضواحي باريس بعد أن تمّ ترحيل الفرنسيين لإنقاذهم من المذبحة، وحيث إلى جانب تلك الهوية المزدوجة كان غاييل أسود في فرنسا وأبيض في إفريقيا ممّا خلق تلك المسافة المعقّدة والمبدعة التي جعلته يبدأ بكتابة روايته من رواندا حيث عاد مع زوجته لأنها وجدت عملاً هناك.

غابي، بطل “بلد صغير” يشبه المؤلف غاييل كثيراً حين الانطلاق من وقائع الحياة. فأم غابي عاشت تقريباً كافة محطات حياة أمّ غاييل، قبل وبعد افتراق الأبويين. لكن الرواية تذهب إلى تأمّل قنوات الحقد وآلياته وكيف تتحوّل في عيني طفلٍ صغير إلى سمّ يدخل القلوب ويتسرّب إلى مصائر كالأقدار التي لا فكاك منها، والتي شيئاً فشيئاً تهبط بالجميع إلى جهنم. فتصبح الحياة “نحن ضدّ هم”، وما يلي هو فقدان أهل وأحبة في حداد وقسوة المنافي.

هكذا، مثلاً، يجتمع الأهل الناجون لمناسبة سعيدة تبدأ ببهجة اللقاء وبفرح الاحتفاء لكونهم “معاً”… لكن قليلاً قليلاً يهبط الموتى والمفقودون إلى الطاولة ليأكلوا مع الأحياء. ولا بد من اعتصار القلب لاستحضارهم ليكونوا بين من نجوا من الموت. بالإشارات البعيدة، بالصدف البسيطة، بأسماء الأبناء الذين ولدوا في البعيد. الذكريات تنسرب من شقوق الذاكرة مهما إقفلت من أجل أن تسير الحياة قدماً…

العذوبة نفسها. في الرواية كما في الأغاني. والمحاولات الدائمة والمضنية للشدّ باتجاه المستقبل. لكنه هو ذلك المستقبل الذي يستمرّ في المراوغة ويستعصي على الإرادة. وهو إذ يقبع في النسيان وفي جهل الآخرين لا يعود له من سكن سوى في أغوار ذاكرةٍ ممنوعة.

هكذا أيضاً يبدو غاييل فاي الولد الإفريقي اليتيم ولداً للعالم الحالي. فالرواية إذ تستدعي مشاهد المهاجرين من الفقر والحروب، تراهم من حيث لا يراهم أحد. وتقول الكتابة المتمهلة – على لسان غابي – “لن يُذكر شيءٌ عن البلاد التي يحملونها معهم”. لن يذكرها الناظر إلى مأساتهم وهم سيكفّون عن ذكرها.

“بلدٌ صغير” يحكي عن “صغار” العالم أيضاً. وفي هؤلاء اللاجئين التاركين أمواتهم في البحر أو على الحدود المغلقة، الآتين من عوالم بعيدة هاربين من الموت، إخوة لنا. ويشبهوننا كثيراً، تقول الرواية.
____
*المدن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *