الشعر… هنا، الشعر… هناك لا أحد يقول شيئاً، والكلام كثير!

خاص- ثقافات

*نــــــــــــــــــداء يونــــــــــــــس

إلى أي بئر ينبغي أن أخذنا الدليل/ الشاعر؟ واي لغة مرسلة من مجاز ومعنى ينبغي أن تحمل القوافل إلى النهر لتُجريه، والرائي إلى ما لم يكنه، لماذا يأتي الكلام/ النص/ الشعر/ النبوءة/ الرؤى، متأخراً، ناقصا، متسرعا، بعيدا، فارغا، سؤالا، نيئا، وظيفة؟ لماذا يكون الشعر ماء البئر، النبوءة، المخرج، وأنا؟

الشعر….. هنا!

لماذا الشعر طفلا؟

 ألأن النضج يأتي على مهل؟ أم هي رحلة البحث عن الاختلاف؟ ربما يأتي الشعر على مهل، يحبو، لأن الماء الذي في السحابة طري على فكرة التجربة، ولأن الماء الذي على الأرض لم يختبر أجزاءها الرخوة، ولأن تجربته لم تنضج، بعد، مع الصخر والفيضان، والماء على الأرض كثير.

لماذا الشعر متأخرا؟

 وهنا تعني هذا المكان الذي يحتمل أكثر مما تحتمل الايدلوجيا وأقل مما تشي به حالة الفراغ الكامل، الذي يحتمل الكثير من العاطفة ويأثم بالمعلومة الناقصة، المكان الذي يحتمل ثقل العابرين جميعا، ويفرد رمله في المساءات البعيدة لحكايا البحر والماء، لكنه يفضح نقصه حين يعيد ترتيب الكلام ليعدل المائل فينا وينضج الطري والمبلول، وحين يترك ماء البئر، إلى خفة يد الهواء على السطوح المكشوفة وثقل الشمس على الزرقة المائلة ووشوشة الغصن للماء القليل في فم الطير، وللحصى والتراب.

لماذا الشعر ناقصا؟

أن غياب الحامل التوجيهي والبوصلة العامة أو ضعفهما في التسميات واستيضاح شكل العلاقات، تجعل الشعر الذي يحمل الدلالات كلها، يقدم من خلال الثقوب الشخصية جدا وصْفات لملئ العالم الناقص، هي ليست وصفات لاعلاء الأنا، بل محاولة لاحتواء النقص والنقيض.

لماذا الشعر بعيدا؟

لأن الاسم: الترتيب الكامل للاحرف والذي يعطي ارتباطا دلاليا لما يدل عليك، يشير أيضا إلى الآخرين، اسمك هو فكرة اكتمال السلالة، ونقصك أمام فكرة اكتمال، اسمك هويات الاخرين، وتركتهم الثقيلة، ونقصك الذي يتمثل في كل ما لم تكنه نقيا خالصا. الاسماء حالتنا الجامعة، ونقصنا المشترك. ان فشلنا في تعريف المفرد والجمع، واستندنا إلى تعريفنا من خلال الاخرين في أصل السلالة، كثيمة مجتمعية، وإلى تعريف أنفسنا من خلال الواقع السياسي، الاحتلال مثلا، أو تعريف أنفسنا من خلال النصوص الدينية، فإن الشعب يصبح بعيدا جدا، لا هو الشخصي جدا، ولا الذاتي الذي يخرج من معضلة الاسم وصناعته، إلى صناعة الكلام من طينة في البئر ومن صورتنا في الماء المرشوش بالظلام. الاسم، هكذا، احالة لما سيأتي من اشتبكات التركة والدلاله مع الواقع، الواقع الذي يحمل نقصا، وبحثا عن احالات قوية إلى الله، والمفاهيم.

لماذا الشعر فارغا؟

يبدو الشعر مرشوشا بالفراغ، الفراغ كاملا، وينقص،رغبتنا بملئ الفراغ بالاسم ودلالاته، وبالمسميات والمفاهيم، حاجة، والحاجة نقص، وهكذا تصبح الفلسفة مدخلا لمزيد من التسميات، والتسميات تشي بالنقص إذ تحيل إلى ناقص.

لماذا الشعر سؤالا؟

لأنه الشخصي في مواجهة الاسقاطات الجمعية والحميمي في مواجهة العام، لأن النص الشعري يمكنه الالتفاف على دلالات الأسماء، وعلى جمود الفقه، وعلى التكلس البارد الخشن المقحم، ففي الشعر يمكن للطفل، الذي يسأل عن الله، أن يجرؤ على السؤال، أن يقول “أنت أنا، أن يرقص مثل ابن عربي ونجنسكي، ويصرخ “لأنني هو/ تخرج مني  أشجار وشخوص وماء /…. وأقول هذا أنا”.

لماذا الشعر وظيفةً؟

يمكن أن يصبح الشعر سؤالا، وحقل دراسة، ما هي وظيفة الشعر بعد أوسلو، مثلا، كيف تحول من تحويل الشخصي جدا لصالح المجموعة والشعارات العريضة والاخرين والوطن والقضايا المصيرية، إلى احالات شخصية جدا بعد أوسلو تتعلق بالاسم الذي لا يحمل منه صاحبه سوى المعنى المباشر وتركة السلالة؟ كيف تقزمت القضايا العامة والمصيرية، إلى قضايا فردية ومجزوءة ومجتزأة وكمالية تتكئ على ابجديات العولمة والرأسمالية، وتُعلي الخاص على العام، وتخرج من حالة النقيض الثوري إلى البراجماتيكية الموظفة شعريا وسياسيا واجتماعيا، باحالات واسعة توجه المثقف إلى تعريف النقص من خلال المعنى، والنقيض من خلال اللامواجهة، والذي يتراوح بين الملامح الشخصية، والفلسفية، والغير محورية، والتي تبدو واضحة لدى كُتّاب ما بعد أوسلو، والهم العام ما قبل أوسلو، والتي قدمت كطرح سياسي ووصلت إلى حضورها كنبوءة فاشلة.

لماذا الشعر نيئا؟

لأن النضج الذي كان ضروريا لحمل ومعالجة الفكرة الرئيسية للنقص، وأدوات معالجتها، والتي شكلت اركان الوحدة العضوية للنصوص واحالاتها في شعر ما قبل أوسلو، يبدو مفقودا او مغيبا. لا أحد يقول شيئاً، والكلام كثير!

الشعر ….. هناك!

لماذا الشعر ماء البئر؟

 الماء في البئر هو التحتي، الغامض، المعتم، المجهول، البعيد، العصي، القليل، الثقيل، المرشوش بالظلام، المحمول على فكرة النسيان، الملقى جانبا لحاجة طارئة، المتروك، الناضج، الآسن، المجرب، المختمر، الثقيل، العميق، البعيد، تجمع الصدى، فكرة الخلق، أول الطين، آخر المعنى، الممتلئ بقليله، لناقص إلى القمة العارية. هو الرغبة التي احتالت على ذاتها بالصبر، والحكمة البعيدة، والنقص الماكن، والنقيض الغوي. من الذي يمكنه أن يخض ركود الماء فيه، ويشق السطح الكثيف، ويحمل الكثرة على قلتها السائلة، وينتشل الطين من القاع، لتخرج أشجار وشخوص وماء وذئب، وتصير التمائم يد الرائي الذي يقول “أنا هو”، ويحمل في الخلق الجديد عصاه.

لماذا الشعر ناضجا؟

لان الماء الذي في البئر، الماء الذي في الظلمة والوحدة والاخضرار الطحلبي وحلم الزرقة، والعتم الشهي، بعيد ولأن واحدا يعرف الطريق، حاملا دلوه، ليغرف من القاع الطينة الاولى والكلمات، واحد فقط يمكنه أن يأخذنا معه إلى البئر والحكايات.

لماذا الشعر نبوءةً؟

 الثابت متحول، والمكتمل ناقص، والتمام لعبة الأشياء لاخفاء عيوبها الشخصية، والثقوب هي وسيلة لاختزال العلاقة مع  المحيط، بعلاقة أحادية: من الداخل إلى الخارج، ومن الشخصي إلى العام، ومن النظري إلى الواقعي. ما لم تنصفه المسميات، تشكله النبوءات والرؤى والكلمات.

لماذا الشعر مخرجا؟

 في ظل فشلنا لتعريف ذواتنا، في اطار الكثير الذي لا يعني سوى الغباش، والشخصي جدا الذي ليس سوى مرايا للاخرين، وعندما لا تصبح “من نحن؟” سؤالا، بل اعلانا لفشلنا في استخراج الخيط من الكنزة الناجزة، والطينة من البئر البعيد، والتميمة من فم “هو”، يصير الشعر حالة اخفاقاتنا ونقصنا ونقيضنا المخفي، والشعر.

لماذا الشعر أنا؟

الشعر يقدم الحب مخرجا، والحميمي طوق نجاة، به يرسم العالم مثل وبه يصير الشاعر ما لم يكنه ويحمل المعنى به ما يحتمل من الدلالات البكر، والابجديات الناقصة، في ظل هزائم المعنى المتلاحقة والهزائم الجغرافية الشعر يكفي لتغطية السقوط الكثير..
____
*شاعرة وإعلامية فلسطينية.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *