الإعلان التَّخارُجيّ _ بَيان شِعريّ

خاص- ثقافات

*د. مازن أكثم سليمان

                                       

 أوَّلاً: إشكاليّة البَيان:

يُولَدُ الشِّعرُ وينمو ويتخلَّقُ على حبْلٍ مُضطَّربٍ قلِقٍ، تُناديهِ دوماً الحوافّ الخطِرة، وينأى بطبيعتِهِ الكيانيّة عن كُلّ ما هو مُستقِرّ ومُنسجِم ومُتآلِف، نحوَ كُلّ ما هو مُتغيِّر ومُتحوِّل ومُدهِش.

إنَّهُ الانفتاحُ الدّائمُ في عُقر دار الوجود، وهو الصّراعُ الذي لا يُستَنْفَد. وجودُهُ علَّتُهُ، وعلَّتُهُ لا تنفصِلُ أبداً عن أسئلةِ الحداثة وكينونةِ التَّجديد وحُلمِ المُجاوَزة والانبثاق نحوَ المَجهول. لهذا يحمِلُ في أصل تكوينه لعْنَتَهُ العظيمة وخُلودَهُ العتيق، ويعيشُ بلا هوادة أزمَتَهُ الوجوديّة المُلِحّة: أن يكونَ مَسْكَنَ الجَمال الحيّ وشمسَ الأصالة الكاشفة!

فالشِّعرُ مأزومٌ بما هو التباسٌ جدَليٌّ بينَ زمن الوجود في العالَم وزمنه الخاصّ، وكُلُّ انقطاعٍ تراكميّ يعتري تاريخه في حقبةٍ ما أو في عصرٍ ما، يُسَوِّغ لهُ الخِيانة مثلما يدعوه إليها كُلّ اتصالٍ تراكميّ يدَّعي التّماسُك! فمن طبيعة الشِّعر المُتجدِّدة أن تهترئَ أسئلتُهُ في فَجوات الوجود، وحينها عليه بكُلِّ جسارةٍ أن يُواجِهَ اختبارَ القطيعة: والقطيعةُ ابنةُ النَّسْفِ البارّة، وشريكةُ العُلُوِّ المُخاتِلة؛ ذلكَ أنَّ الأزمةَ بوصفها نداءَ التَّجديد والإشراق هيَ دائماً عُلُوٌّ: إنَّها باستمرارٌ حركةٌ _نحوَ_  الانفصال، وبحثٌ دؤوبٌ عن كينونةٍ حُرّة، وتخفُّفٌ لا نهايةَ لهُ من كُلّ اطمئنانٍ للمُنْجَز.

لقد ازدحمَتْ وتزاحمَتْ في أدبيّات الحداثة الشِّعريّة مقولاتٌ عريضة من قبيل الحديث والمُعاصِر والجديد، أو من قبيل التّجاوُز والتّفجير واكتناه المَجهول، وتحوَّلت هذه المقولات إلى عُدَّةٍ آليّة شكليّة في مُعظَم الأحيان، مُشكِّلةً غشاوةً تحجبُ طبيعةَ الحداثة الحُرّة، ووظيفتَها الأصليّة المُتطلِّعة دوماً إلى خَلْقِ شعرٍ ثوريٍّ مُغايِر!

ولعقودٍ خَلَتْ، تراكَبَتِ التّجاربُ الشِّعريّة على أُسُسٍ مرجعيّةٍ أقلُّ ما يُقال عنها إنَّها أصبحَتْ أُسُساً تقليديّة؛ إذ تقومُ في الأغلب على مُحاكاة أو تقليد تجارب فرديّة سابقة أو مدارس شعريّة أو تيّارات بعينها. لتبدو الصّورةُ العامّةُ بهذا المَعنى غير مُبَشِّرةٍ، ولاسيّما في ظلِّ سيادة أنماطٍ قَبْليّة لم تلبث أن تغدو نوعاً من الإيديولوجيا المُعادية لحُرِّيّة الشِّعر، ثُمَّ ليزيدَ من سوداويّة المشهد مآلُ الجَماليِّ  _نظَريّةً وشِعراً ونقداً_  بوصفِهِ الضَّحيّةَ الكُبرى في كُلِّ ذلك.

وهكذا، تعيشُ الحداثة الشِّعريّةُ اليومَ استعصاءً يُعيقُ استئنافَها لا بوصفها حقبةً زمنيّةً كما يتراءى للبعض خطأً، إنَّما بوصفها دعوةً دائمة ومفتوحة إلى التَّجديد والتَّثوير والحُرِّيّة، فكُلُّ استئنافٍ لها بهذا الفَهم، هُوَ مُجاوَزةٌ لها في الوقت نفسه، واستعصاؤها بما هو أزمةٌ كيانيّة من طبيعة الشِّعر، هو اختبارٌ خطير للقدرة على الخيانة، ولمدى إمكانيّة مُواجَهة التَّحدِّي الوجوديّ (الثَّقافيّ _ الجَماليّ) بقطيعةٍ تشفي غليلَ الأسئلة اللّجوجةِ الحارّة، وتمدُّ حبالَ النّجاةِ للرّوح الجَماليّ المَغدور، وتستدعي حداثةً شعريّة حُرّة جديدة لا تكفُّ عن الانفتاح _ نحوَ_ المُجاوَزة والتَّباعُد والاختلاف.

لهذا تنطلقُ الإشكاليّةُ النَّظَريَّةُ الأكثَر عمقاً ودقّة ممّا هو سؤالٌ مَسكوتٌ عنهُ يتعلَّقُ بِمساءَلة مُنطلَقات الحداثة الشِّعريّة نفسها؛ أي إنَّهُ يتعلَّقُ بإمكانيّة أن نسأل: هل تصحُّ مَقولاتُ الحداثةِ الشِّعريّة ومَفاهيمها النَّظَريّة والإجرائيّة في كُلِّ زمانٍ ومكان؟ أو بمَعنىً آخَر: ألا تحتاجُ الحداثةُ نفسُها إلى إخضاعٍ مُستمرّ للتَّفحُّصِ والمُراجَعةِ والنَّقضِ تبعاً للمُقتضيات المُستجِدّة وجوداً وفنَّاً؟

ثانِياً: الحداثة الشِّعريّة بينَ الشِّعر الرُّؤيويّ والشِّعر اليوميّ:

احتفَتِ الحداثةُ الشِّعريّة بتيّاريْن عامّيْن اتَّبَعَهُما الشُّعراءُ بغيةَ الفوز بأهدافها الشِّعريّة المُشتهاة. حيثُ عرَّفَ التَّيّارُ الأوَّلُ الحداثةَ الشِّعريّةَ بأنَّها رُؤيا، وكُلُّ رُؤيا هيَ تغييرٌ في نظام الأشياء وعلاقاتها، وتفتيتٌ لمَنطِقها ورَوابِطها، وانغماسٌ في قلب حركيّة التَّحوُّل والتَّحويل، وسعيٌ دؤوبٌ إلى خَلخلة البِنى والمَفاهيم القائِمة، وإعادةُ خَلْقٍ وتشكيلٍ لزوايا النَّظَر إليها.

إنَّ الرُّؤيا هي إعادةُ تركيبٍ للرُّؤى الجزئيّة في رُؤيا كُلِّيّة لعالَم مُتكامِل قائِم بذاته، ومُختلِف عن العالَم الوقائعيّ؛ فهيَ لا تنقلُ العالَم مُجزَّءاً إلى أشياء، إنَّما تكشفُهُ في كُلِّيَّتِهِ الحقيقيّة، وفي وَحدتِهِ الكونيّة، وفي شُموليته العميقة.

لهذا، تنتقِلُ الرُّؤيا من حالة الانفعال بالأشياء، إلى حالة الكشف والاكتشاف ولا مَحدوديّة الخَلْق. وذلك في إطار تجربةٍ جماليّة مُتكامِلة تتخطَّى العُصور الماضية والعصر الحاضِر على السّواء، نحوَ رُؤية ما تحجبُهُ الأُلفةُ والعادة، وهو الأمرُ الذي يُفضي إلى اكتشاف عَلائِقَ خفيّة ضمنَ تداعيات خلّاقة توليديّة قادِرة على تجاوُز الأشكال الفنِّيّة المألوفة إلى أشكال غير مُحدَّدة بقالبيّة جاهِزة.

لكنَّ هذا التَّيّار الرُّؤيويّ واجَهَ نقضاً له من داخل مفهوم) الكشف( نفسه عند تيّار واسِع من الشُّعراء؛ إذ قدَّمَتْ تجاربهم اقتراحات جادّة لمُفارَقة التَّوغُّل الحداثيّ في العوالِم الميتافيزيقيّة غير المَرئيّة والمَجهولة، نحوَ الغوص في تساؤلات الإنسان اليوميّة في العصر الحديث.

لقد دعا التَّيّارُ الشِّعريّ اليوميّ إلى التقاط حركيّة الحياة اليوميّة، وتفاصيلِها، ولحظاتِها الإنسانيّة البسيطة، بغيةَ كشف المَساحات الصَّغيرة المَعيشة، وصَيرورتها، ومَشاعرها العابِرة المُتحوِّلة، مُستنِداً إلى حركة الشُّعور في الكلام، لا إلى حركة اللّاشُعور في اللُّغة، ومُعتمِداً في تعيين الكشف على توتُّر الكلمات العاديّة والمُمارَسات اليوميّة والرُّؤى الجزئيّة، لا على الرُّؤى الكُلِّيّة الشُّموليّة المُؤسَّسة على حركيّة تداعِي الصُّوَر الشِّعريّة.

وهكذا، تصدَّرَ هذان التَّيّاران المشهدَ الشعريَّ لِعقود، وتناحرا لِرغبة كُلِّ منهما في احتكار الحداثة، أو تجاوَرا أحياناً وتعايَشا حتّى في تجرِبة الشّاعِر الواحِد، وبدا الاطمئنانُ رخيّاً راسِخاً عندَ مُعظم الشُّعراء، ظنَّاً منهم أنَّهُم باتوا يملكونَ الوصفات الآليّة الإجرائيّة التي تسمَحُ لهم بِمُجرَّدِ تطبيقها بالقبض على الجديد، وبسط الكُشوف الشِّعريّة غير المَسبوقة!

ثالثاً: المُطابَقات المركزيّة المُسَبَّقة:

إنَّ أيّة مُقارَبة مُعمَّقة تستهدف تفكيك مَفاهيم الحداثة الشِّعريّة، تستدعي بالضَّرورة أن نلتفتَ مُباشرةً إلى مفهوم الذّات. فنقدُ الحداثة الشِّعريّة لا ينطوي _فقط_ على نقد الذّات، إنّما يقوم في جوهره على مُعاينة توضُّعات الذّاتيّة المُبدعِة، وتحوُّلاتها، بدءاً من عالَمِها الوقائعيّ، وانتهاءً بعالَمِها الشِّعريّ.

والذّاتُ _في فَهمِها الأوَّليّ العام_ هي كُلّ ما يتّصل بحالة الفرد، وموقعه الاجتماعيّ، وعلاقته بمُحيطه، وإدراكِهِ نفسِهِ وخبراتِهِ والآخرينَ في هذا المُحيط. فالإنسان دائماً موجود في عالَم يُحيط به ويُكوِّنه، ومعَ آخرين يُؤثِّرونَ فيه، ويُؤثِّر فيهم، ولذلكَ فإنَّ أيَّ حوار مع مَفهوم الذّات هو بالضَّرورة حوار مع علاقتها بالمُحيط الخارجيّ.

تقومُ الرُّؤيا الحداثيّة على حركيّة تقليديّة، يستدرِجُ بها الشّاعِرُ العالَمَ الخارِجيَّ إلى داخلِهِ، بغيةَ مَحْوِ الفَواصِل بينَ الذّات والموضوع إلى حدِّ التَّوحُّد مع الإنسان والمجتمع والكون؛ فالخطُّ البيانيُّ لهذهِ الحركيّة ينطلِقُ من العالَم الوقائعيّ (الخارِجيّ) إلى اللّاوعي الدّاخليّ، ومن الواقِع الفيزيقيّ إلى الواقِع النَّفْسيّ، ومن الغرَض الشِّعريّ إلى الرُّؤيا، مُحاوِلاً أن يبلغَ الكشفَ اعتماداً على سلسلة تحوُّلات يُفترَضُ أن تبسطَ عالَماً جديداً.

تُعَدُّ خلْخلةُ وَحدة الذّات، والنَّظَر إليها بوصفِها تعدُّداً، من أهمّ خُطوات الفكر المُعاصِر الذي سعى إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور بتحطيم النَّظرة التي ترى أنَّ الذّاتيّةَ مبدأٌ مُوَحِّدٌ لكلِّ ما هو موجود، وأنَّ الوعيَ الذّاتيَّ حَكَمٌ وحيدٌ على الحقيقة، والتي كانت مُرتبطةً فقط بما تُقرِّرُهُ الذّاتُ المُتعالِية، وما تُسوِّغُهُ وترفعُهُ إلى مُستوى اليقين. وهي المَسألةُ التي وضَعَتِ الإنسان في مَركز الكون بوصفِهِ العقلَ والأنا والفاعِلَ الإنسانيَّ المُفكِّرَ، والمُتأكِّدَ المُتيقِّنَ من هُوِيَّتِهِ، في مُقابِلِ الموضوع بوصفِهِ الشَّيءَ الموجودَ في العالَم الخارِجيّ، والذي ينبغي أنْ تتمثَّلَهُ الذّات الواعِية حاضِراً أمامَها، ثُمَّ تُطابِقَ بينَهُ وبينَ عقلها وفكرها، في وَضْعٍ يسمَحُ لها بالتّحكُّم قَبْليّاً به. وهذا الفَهم ليسَ سوى تثبيت ميتافيزيقيّ لمركزيّة الذّات بِوصفهِا وَحدة شُموليّة مُسيطِرة تقنيّاً على العالَم، إذ تتجرَّدُ بذلكَ من بُعدِها التّاريخيّ لتكونَ هُوِيّة مُستقرّة وكونيّة، تطمسُ كُلَّ العناصِر التي تُعاصِرُها، وتَسْتَبْعِدُها، لكونِها مركزاً مُتعالياً يُمثِّل المَبدأ الواحِد والثَّبات والدَّيمومة والتَّطابُق.

إنَّ الحداثةَ الشِّعريّةَ ليستْ في أدبيّاتها وتطبيقاتها سوى احتفاء مُستمرّ بالذّات الميتافيزيقيّة الواعية، والتي تفترسُ بوفائها لميتافيزيقا الحُضور إمكانيّات الاختلاف الوجوديّ الشِّعريّ؛ ذلكَ أنَّ شُعراء الحداثة ما برِحُوا يتحرَّكون في إطار وَحدة الذّات ونظام التَّمركُز. ولم يكُنْ اعتمادُهُم على اللّاوعِي الباطنيّ لبُلوغ الرُّؤى الكاشِفة سوى تثبيت مُموَّه لآليّة نفْسيّة مُتعالِية لطالَما قالت بوجود جوهر بذاتِهِ يُسمَّى (النَّفْس( التي تُذيبُ الأشياء والعالَم الخارِجيّ في وعيها، إذ حافَظَتْ هذه الذّاتيّةُ في مُحصِّلتها النهائيّة على سُلطة الوعِي المُهيمِنة على العالَم الخارِجيّ، والتي تُحضِرُهُ موضوعيّاً، وتطويه ليتطابَقَ مع مركزيَّتِها، مُتحكِّمَةً مُسَبَّقاً بما افتُرِضَ أنَّهُ أنساقٌ كُلِّيَّةٌ لاواعِية، وعلى الأغلب كانَ هذا على حساب تجرِبة الوجود الحُرّ الذي هو شرطٌ حاسِم لكُلّ انبثاقٍ شِعريّ!

ويبدو لي أنَّ أزمة الحداثة المُزمنة، ومَعنى الجَماليّ المَغدور فيها، يرتبطان في العمق بكون الشِّعر الحديث عَجِزَ _في مُعظم الأحيان_ عن بُلوغ الكشف المُبتغَى، وظلَّ يُكرِّرُ باستمرار مُطابقاتٍ ميتافيزيقيّة خارِجيّة وقَبْليّة؛ أي بعبارةٍ أُخرى، بقيَ شُعراءُ الحداثة مَرهونينَ للموجودِ تحتَ اليدِ، وللمُتَحَكَّمِ به مُسَبَّقاً، وللمَطويِّ على مركزيّة الذّات، من غير أن يفتتِحوا عصرَ مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور، وذلكَ _نحوَ_ الاحتفاء بالكشف الأصيل للمَسكوت عنه والغائِب والمَجهول، و_نحوَ_  الانغماس بجَماليّات التَّعدُّد والتّجاوُز والاختلاف.

رابعاً: نحوَ مُجاوَزة نظام التَّمركُز، واستعادة الوجود الشِّعريّ الكاشِف:

إنَّ أيّة مُحاوَلة لاستئناف الحداثة الشِّعريّة ومُجاوَزتها، ينبغي أن تنطلِقَ من السَّعي إلى مُجاوَزة نظام التَّمركُز الميتافيزيقيّ، ولاسيما من مُحاوَلة نسف الثُّنائيّات الميتافيزيقيّة المُتقابِلة بغيةَ تمزيق سُلطة الذّات المُتحكِّمة مُسَبَّقاً بِعوالِمِها الشِّعريّة، وتشتيت تمثُّلها الواعِي للخارِج الذي تُحضرُهُ قسراً وتطويه على مركزيَّتها.

ولعلَّ الخُطوة الطَّموحة الأُولى لتحقيق ذلكَ تكونُ بِمُجاوَزة ثُنائيّة) الخارِج _ الدّاخِل) الميتافيزيقيّة، فمُشكلةُ الوجود الخارِجيّ في العالَم، وعلاقةُ الذّات به، مُشكلة زائفة؛ ذلكَ أنَّ الكائِن الإنسانيّ بما هو موجودٌ في العالَم؛ فهو موجودٌ بطبيعته دائماً خارِجَ ذاته.

إنَّ الذّات لا تحتاجُ بحالٍ من الأحوال أنْ تُغادِرَ فضاءَها الدّاخليّ، فهيَ ببِنيتها الأوَّليّة موجودة في الخارِج؛ إذ لا يُوجد أيُّ انفصالٍ بينَ الكون والإنسان، وجميعُ الفعاليّات المُوحِّدة للذّات لا تكشفُ إلا تبعثرها وانفصالها عن نفْسها، فهيَ مكانٌ كُلُّهُ خارِجٌ وتشظِّ واختلاف.

غير أنَّ الفَهْمَ الميتافيزيقيَّ للذّات عَجِزَ عبر تاريخه الطويل عن إدراك كينونتها الأصليّة، واستمرَّ _مَأخُوذاً بإغراء الإحضار والمُطابَقات_ بمُمارَسة أفعال التَّحكُّم المُسَبَّق الكابِح لانفتاحاتها الوجوديّة والمُموِّه لها، وذلكَ انطلاقاً من رغبة تسلُّطيّة مُتعالِية ظلَّتْ تتوهَّمُ أنَّها قادِرة على طيِّ الوجود على ما تظنُّ أنَّهُ تمركُزٌ مُغلَقٌ يجلبُ أمانَ المَعنى المُستقرّ، والحقيقةَ الثابتةَ الغرّاء. لكنَّ ذلكَ لم يكُنْ في جوهره سوى تكرار دؤوب واهِم ومُخفِق لفعل جُلَّ ما أنجزَهُ هو توليد غشاوة زائِفة تُموِّهُ الوجودَ الأصيل للذّات في العالَم، وتكبَحُ ظاهريّاً حركيَّتَها الحُرّة، وتُعرقلُها بقيودٍ استبداديّة ليستْ من أصلِها، لا تلبثُ أنْ ينكشِفَ تمزُّقها وتشظِّيها بتأثير تغيُّرات الحياة وصَيرورتها الطَّبيعيّة.

وبهذا الفَهم المُغايِر للذّات يحلُّ التَّعدُّدُ غير المُتناهي مكانَ الوَحدة والانسِجام غير المُتناهي، وتسقطُ الهُوِيّة المُتعاِلية لتظهَرَ الانفصالاتُ التي تخترِقُ الذّات، وتقتحِمُ فكرةُ الغَيْريّة استقرارَها الزّائف ويقينَها الهشّ، مُؤكِّدةً أنَّ الأصلَ هوَ انتشارُ الدَّلالةِ وتشتُّتِها المُستمرّ باتجاه العُبور والتَّجاوُز والانفتاح _نحوَ_ المَجهول. وهذا الفَهْمُ يقلبُ جذريّاً القانونَ الحركيَّ القديمَ للحداثة الشِّعريّة، حيثُ لا تعودُ الحركيّة تنطلِقُ من الخارِج المُتبعثِر نحوَ الدّاخِل المُتماسِك؛ وإنَّما تنطلِقُ _بصورةٍ نظَريّة توضيحيّة فحسب_ من الدّاخِلِ نحوَ الخارِج، أو لنقُل على نَحْوٍ مُباشَرٍ: هيَ حركيَّةٌ مُنتشِرَةٌ في الخارِجِ أصْلاً.

إنَّ ما يُمكِنُ أن أدعوه بـِ) تعثُّر الكشف في الحداثة الشِّعريّة( ناجِمٌ عن تغوُّلِ ذاتِ الشّاعِر على فعل الانبثاق الإبداعيّ _ الشِّعريّ؛ إذ لطالَما صادرَتْ هذه الذّاتُ مُسَبَّقاً الشِّعرَ ورُؤاهُ وكُشوفَهُ، سواء أكانَ ذلكَ فيما عُرِفَ بالشِّعر الرُّؤيويّ،  أم كانَ ذلكَ فيما عُرِفَ بالشِّعر اليوميّ!

لقد تاهَ الشِّعر الحديث في ثُنائيّة ميتافيزيقيّة مُصطنَعة، فتوزَّعَ هذا الشِّعْرُ بينَ وَهْمِ إحضار المَعيش ومُطابَقتِهِ في القصيدة اليوميّة، ووَهْمِ إحضار الغائِب ومُطابقتِهِ في القصيدة الكُلِّيّة. ففي الشِّعر اليوميّ عمدَ الشّاعِرُ الحديثُ إلى إلحاقِ ذاتِهِ الشِّعريّة الافتراضيّة بذاتِهِ الوقائعيّة المَعيشة، فطوى قصيدتَهُ على مركزيّة العالَم اليوميّ المُسَبَّق، وتوهَّمَ أنَّهُ بذلكَ ينجو من الإيديولوجيا بالقبضِ على حركة الشُّعور في الكلام بوصفها قبْضاً على سياقات العالَم الخارِجيّ التي ينبعُ منها الكشف. أمّا في الشِّعر الرُّؤيويّ، فقد عمدَ الشّاعِر الحديث إلى إلحاق ذاته الشِّعريّة الافتراضيّة بذاتِهِ الوقائعيّة المُؤدلَجة، والمُتكوِّرة على رُؤىً شموليّة، فظنَّ أنَّهُ يقبضُ بذلكَ _وتبعاً لحركة اللاشُعور في اللُّغة _على أنساق كُلِّيّة ينبعُ منها الكشف، غيرَ أنَّ هذا الفعل لم يكُن في مُعظم الأحيان سوى استجابة قَبْليّة تطوي القصيدة الحديثة على مركزيّات إيديولوجيّة تُصادِرُ مُسَبَّقاً الرُّؤى والمَجهول.

وهكذا، سقطَتِ معظمُ القصائد الحديثة _كي لا أقعَ في التَّعميم والإطلاق_ في المُطابَقات الميتافيزيقيّة الزّائِفة، وكشَفَتْ آليّاتُ خَلْقِ العالَمِ الشِّعريِّ مأزقَ الحداثة وتناقُضاتِها، فهيَ من ناحية أُولى تنصاعُ لسُلطة الذّات الواعية التي تتحكَّمُ بالقصائد قبْليّاً وتُخضِعُها لمُطابقاتها الوقائعيّة، وهيَ من ناحيةٍ ثانية، تمسَخُ هذه الذّات وتُفقِرُها عندما يتمُّ اختزالُها إمّا بمُحتوىً إيديولوجيّ، أو بمُحتوىً يوميّ ليسَ سوى إعادة تدوير مَقلوبة للإيديولوجيا، ليخسَرَ الشِّعر الحديث بناءً على ذلكَ خُصوصيَّتَهُ الوجوديّة (الثَّقافيّة _ الجَماليّة)، وتخسَرَ الذّاتُ الشِّعريّة الافتراضيّة إمكانيّات انفتاحها الحُرّ المُختلِف_ نحوَ_  المَجهول.

إنَّ الدَّعوة إلى مُجاوَزة ثُنائيّة) الشِّعر الرُّؤيويّ _ الشِّعر اليوميّ( البالية، هيَ في عُمقها دعوة إلى مُجاوَزة نسيان الوجود الشِّعريّ الأصيل، انطلاقاً من مُجاوَزة نسيان الوجود في العالَم، وهو الأمرُ الذي يُمثِّلُ إشكاليّةً حداثيّةً جوهريّة تمَّ بمُقتضاها توظيف اللُّغة لصالح مُطابَقة المُسَبَّقات الإيديولوجيّة _ الاستبداديّة والتَّمركُز عليها، وهذا كانَ يعني في لُبِّهِ فصل اللُّغة عن الوجود بالتَّعامُل معها بوصفها أداةً ميتافيزيقيّة مُتعاِليّة تستعمِلُها ذاتُ الشّاعِر الوقائعيّة تقنيّاً للتَّحَكُّم بعالَمها الخارِجيّ والسَّيطرة عليه وطيِّهِ على مُطابَقات مركزيّة قَبْليّة.

ولعلَّ أصل الإشكاليّة في نظَريّات الشِّعر الحديث تعودُ إلى الفَهم الإبستمولوجيّ (المَعرفيّ( للشِّعر؛ بمَعنى أنَّهُ فَهْمٌ يتأسَّسُ على مُسَبَّقات نظَرِيّة ومَبادِئ عامّة تتَّسِم بالتَّعالي السُّلطويّ والتَّحكُّم الميتافيزيقيّ القائِم على مَبدأ المُطابَقة المَعرفيّة الزّائِف، فالشّاعِر الحديث لطالما ظنَّ _أو ادّعى_ أنَّهُ وحده من يمتلك الحقيقة الكاشِفة في لُغته الشِّعريّة، وأنَّ القيَمَ الكُبرى بأبعادها (الثَّقافيّة _ الجَماليّة) قيَمٌ يُضيفُها هو عبر شعره إلى اللُّغة والعالَم، وكأنَّهُ بهذا التَّوجُّه الاحتكاريّ يُجرِّدُ لُغتَهُ ويعزلُ قصائدَهُ عن الخارِج، بينما هيَ ناجِمة في صلب كينونتها الأصليّة عن حركيّة الوجود في العالَم. ولهذا فإنَّ أوَّل خُطوة لِمُجاوَزة هذه الإشكاليّة تكونُ بإعادة الاعتبار لوَحدة اللُّغة والوجود بوصفها مَنْبَعَ الأحداث والثَّقافة والجَمال في عوالِم الشِّعر. وهوَ الأمرُ الذي يسمَحُ باستعادة الشِّعر أسئلةَ الذّات والوجود الأصيلة، واستئناف الحداثة بما هيَ خيانةٌ لكُلّ استقرارٍ وجُمودٍ ومَألوف، واحتفاءٌ بكُلِّ تجاوُزٍ وتحوُّلٍ واختلاف.

ولا يعني هذا التّفسير أنَّني أُرَوِّجُ هُنا لـِ) شِعرٍ وجوديّ(؛ إذ لا يوجد شيء اسمُهُ (قصيدة وجوديّة( و)قصيدة غير وجوديّة(، إنَّما يُمكِنُ القول إنَّ كُلّ قصيدة مُبتكَرة هيَ قصيدة وجوديّة. ويتّضِحُ هذا المَنحى أكثَر عندما نعِي أنَّ اللُّغة في فَهمِها الأصيل لم تعُدْ هُنا والوجود هُناك، فاللُّغَةُ ليستْ أداة اتّصال فحسب، وليستْ مُجرَّد وسيلة تعبير تحملُ المفردات والأفكار والمعاني: إنَّها المكانُ الذي يكشفُ فيه العالَمُ عن ذاته، وتتحرَّكُ ضمنَهُ حياةُ الإنسان وثقافته. فالتَّجرِبةُ الوقائعيّة ليستْ مُستقلّة عن اللُّغة، كأنَّها مرآتها، أو كأنَّ عَناصِرَ العالَم موضوعات موجودة خارِج اللُّغة، ويتمُّ إحضارُها والتَّحكُّم بها ميتافيزيقيّاً؛ على العكس من ذلكَ: لقد أصبحَتِ اللُّغَةُ كينونةَ الإنسان، وأصبَحَ الإنسانُ كينونةً لُغويّة، وباتَ الوجود في العالَم وجوداً لغويّاً في أصله.

وبهذه الصّورة، يُمكِنُ للشِّعر الحداثيّ أن يُعيدَ النَّظَرَ في مُنطلقاتِهِ الإبستمولوجيّة، وأن يبدأَ بدايةً جديدة تُمَكِّنُهُ من فَتْحِ الشِّعريِّ على مُمكناتِهِ الثَّرّة، انطلاقاً من تخليصِ الوجوديِّ من قُيودِهِ القَبْليّة، ودَمْجِ حركيّتهِ في حركيّة الخَلْق الإبداعيّ الشِّعريّ، ليتمَّ وفقَ ذلكَ بَسْطُ الرُّؤى _نحوَ_ المُستقبَل، وهي المَسألة التي تجعلُ الوجودَ – لِلشِّعر مُحقَّقاً بدءاً من قاعدة أنَّ الشِّعر – لِلوجود.

 خامساً: الذّات بوصفِها دازِناً، وحركيّة التَّخارُج:

لقد دَعَتِ الحداثةُ الشِّعريّة إلى تحرير الوعي من الأوهام والخُرافات والأساطير، لكنَّها أَخْفَفَتْ إلى حدٍّ بعيد في تحقيق ذلكَ، لأنَّها استبدَلَتْ بتلكَ القُيود الكابِحة قيوداً أُخرى، وهيَ المَسألةُ التي تجعَلُ تثويرَ الحداثة قضيّة مُلِحَّة تبدأُ بخيانة أوهامِها المُتراكِمة، بهدف الوصول إلى حداثة حُرَّة جديدة تتعيَّنُ بالانتقال من مَدار تحرير الوعِي إلى مَدار تحرير الوجود!

إنَّ الشِّعر الحداثيَّ الجديد هو الشِّعر الذي لا يكفُّ عن الكِفاح على طريق التَّخفُّف من تحكُّم الذّات بِمُنفتحات عالَمه، مُتحوِّلاً من قصديّات الوعي إلى قصديّات الوجود، وناقِلاً مركزَ ثقل الذّات من الوعِي بوصفِهِ سُلطة مُسَبَّقة كابِحة، إلى الوجود بوصف الإنسان موجوداً في العالَم بطبيعته، ومَفتوحاً بأصله على المُمكنات المُحتمَلَة بما هيَ ظَواهِر وجوديّة ينغرِسُ فيها، فتنبسِطُ فعاليّاتُهُ أمامَهُ، وبأساليب وكيفيّات مُتعدِّدة ومُتنوِّعة في عالَم الخبرة والفَهم والاكتشاف، وهذا الأمر لا يعني أنَّنا نلغي الوعِي، إنَّما ننظرُ إليه بوصفه عُنصراً مُكوِّناً من العَناصِر الكثيرة الغنيّة والمُتراكِبة في وجود الذّات في العالَم.

وأريدُ بهذا التّأويل أنْ أحتفيَ بدلالتيْن جوهريتيْن؛ تتعلَّقُ الدَّلالةُ الأُولى بفكرة أنَّ وجود الإنسان خارِج ذاته، وتحطيمه الدَّؤوب لوَهْمِ المُجاوَرة بينَ كائنٍ يُسمَّى الموجود البشريّ، وفضاءٍ آخَر يُسمَّى العالَم، يسمَحُ لقصديّة الوجود أن تنقُلَ مَفهوم الذّات إلى مَفهوم أوْسَع أصطلحُ عليه بـِ )الدَّازِن( المَأخوذ من مُصطلَح (Dasein) الألمانيّ، والذي أشتقُّهُ عربيّاً على وزن) فاعِل(؛  وهوَ يعني وجودَ الموجود البشريّ _في_ العالَم الوقائعيّ بما هو وجودٌ لُغويٌّ يُوحِّدُ بينَ الذّات واللُّغة والوجود، وهي المَسألة التي تعني أنَّ الوجودَ لم يعُدْ بهذا المَعنى وجوداً واعياً مُتعالِياً مُطلَقاً بماهيّة مُسَبَّقة، إنَّما هو وجودُ الموجود البشريّ في عالَم الخبرة والتَّجرِبة والثَّقافة بوصف هذا الوجود سابقاً على الماهيّة. وبنقلِ هذا الفَهم إلى القصيدة بوصفها عالَماً، يُصبِحُ (الدّازِنُ الشِّعريُّ) هو الكائنُ الموجود _في_ عالَم القصيدة، والمُجاوِزُ لثنائيّة الحداثة الشِّعريّة الميتافيزيقيّة (ذات _ موضوع(، لتكونَ القصيدةُ بناءً على ذلكَ أساليبَ وجودٍ وكينونةٍ وانبثاقاتٍ مُتكاثِرة باستمرار.

وترتبطُ الدّلالةُ الجوهريّةُ الثانية بما اصطلحتُ عليه بمُصطلَح )التَّخارُج( على وزن )تفاعُل(؛ والتَّخارُج مُشْتَقٌ من الخارِج؛ أي المَعروض في الخارِج، وتخارُجُ الدّازِن هو الحركيّةُ القصديّةُ التي تبسطُ بها هذهِ) الذّاتُ _ الدّازِنُ( المُتَّجهةُ _ نحوَ_  العالَم، أو الموجودةُ فيه أصْلاً، أساليبَ وجودِها المُختلِفة، إذ يُؤدي التَّفاعُلُ بينَ الذّات وعالَمها إلى انتشارِ أساليبِ وجودِ الدَّازِن المُتنوِّعة والمُتراكِبة.

وهكذا، ينتقلُ) الدّازِنُ( بمفهوم الذّات نحوَ مُجاوَزة النَّظَر إليها بوصفها ذاتاً إنسانيّة مُتعالِية ومُجرَّدة ومُنفصِلة عن العالَم، ليُنْظَرَ إليها بوصفها هيَ نفسها أساليب وكيفيات وجودها المُتنوِّعة في العالَم. وهو الفَهْمُ الذي يعني أنَّ تخارُجَ) الدّازِنَ الشِّعريَّ( في عالَم القصيدة يُفترَضُ أن يبسطَ أساليبَ وجودٍ جديدة في هذا العالَم، وهذه الأساليب ليسَتْ سوى شيء النَّصّ غير المَحدود، والذي يُعرَّفُ بأنَّهُ ذلكَ الانفتاح المُتعلِّق بالإمكانيّات الجديدة النّابِعة من قُدرة) الدّازِن الشِّعريّ( على أنْ يقذفَ نفسَهُ خارِجَ ذاته، وأنْ يُولِّدَ عالَماً شِعرياً جديداً يُمثِّلُ زيادةً في الوجود.

سادساً: فَصْمُ (الذّاتالدّازِن):

إنَّ  عُمقَ الصِّلة والتَّرابُط الوجوديّ (الثَّقافيّ _ الجَماليّ) بينَ الوجود _في_ العالَم الوقائعيّ، والوجود _في_ عالَم القصيدة، يقودُ إلى تمييزٍ حاسِمٍ _أُشِيرُ إليه بوصفه تمييزاً نظَرِيّاً لا فعلِيّاً_ يفصمُ (الذّاتَ _ الدَّازِنَ) في فَجوةِ انبثاقِهِ الشِّعريِّ إلى الذّات الشّاعِرة الموجودة _في_ العالَم الوقائعيّ، والذّات الشِّعريّة الموجودة _في_ العالَم الافتراضيّ.

     ومَعنى هذا أنّنا أصبحنا أمامَ تأويلٍ جديد للخَلْق الإبداعيّ للشِّعر يرى أنَّهُ عمليّة تخارُجيّة جدَليّة مُتراكِبة بين ذاتيْن: ذلكَ أنَّ الجدَل يقومُ بين قصديّة وجود الذّات الشّاعِرة_ في_ العالَم الوقائعيّ، وقصديّة وجود الذّات الشِّعريّة _في _العالَم الافتراضيّ. وهيَ آليّة تتمُّ تبعاً لـِ (مُحايَثة وجوديّة تخارُجيّة( تُغنِي الذّات وعالَمَها الشِّعريّ على حدٍّ سواء ولا تُفقِرُهُما أوَّلاً، وتُساعِدُنا ثانياً في مُحاوَلة فَهم تلكَ المنطقة الإبداعيّة الكثيفة والغامِضة في عمليّة الخَلْق وتفسيرِها، وتمنَحُنا ثالثاً فرصةً نادِرة لِمُعايَشة قوى الانكشاف الإبداعيّ بوصفها قوى تتحرَّكُ في مَسافة توتُّر تُوَلِّدُ العالَمَ الشِّعريَّ الجديد، وتفتَحُ القصيدةَ _نحوَ_ المَجهول.

     وهذا التّأويلُ يُعدِّلُ جذريّاً عَناصِرَ العمليّة الإبداعيّة التَّقليديّة للشِّعر، فينقلُنا من ثلاثيّة) العالَم _ الشّاعِر _ العَمَل اللُّغويّ الشِّعريّ(، إلى رُباعيّة (الذّات الشّاعِرة _ الوجود اللُّغويّ في العالَم الوقائعيّ _ الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة _ الوجود اللُّغويّ في عالَم القصيدة(. وهو تعديلٌ ينطوي في جوهره على السَّعي في عمليّة خَلْق الشِّعر إلى اكتساب خبرة وجوديّة (ثقافيّة _ جَماليّة) جديدة تهدفُ إلى مُجاوَزة تحكُّم الذّات الميتافيزيقيّة بالعالَم الشِّعريّ، بما هو(أي هذا التَّحكُّم) فعلُ طغيانٍ يفرضُ على هذا العالَم مُسَبَّقات الوعي المركزيّ المُطابِق؛ إذ يأتي الجدَل التَّخارُجيّ المُتراكِب هُنا لِيُطيحَ بسِيادة المُطابَقة، ويفتَحَ العالَم الشِّعريّ على مُمكناتِهِ الثَّرّة، ناقِلاً مفهومَ الاستعارة من مُطابَقات علاقات المُشابَهة الذِّهنيّة بوصفها تصوُّرات مُنعزِلة مُتعالِية، إلى فَهْمٍ عمَليٍّ مُغايِر ينظُرُ إليها بوصفها آليّة تفاعُليّة تقومُ على مَجالات تامّة من التَّجرِبة والفعل والتّأثُّر والتّأثير، وذلكَ بهدف توليد دلالاتٍ جديدة في عالَم القصيدة؛ أي بالانطلاق من تفاعُل الإنسان المُستمرّ مع مُحيطه الخارِجّي، ونشاطه المُرَكَّب والمُتعدِّد ضمنَ هذا المُحيط ، وما ينطوي عليه ذلكَ من تجارب ومُبادَرات وأفعال ورُدود أفعال تُجَذِّرُ الاستعارةَ في أساليب الوجود المُنبسِطة جدَليّاً بينَ العالَم الوقائعيّ والعالَم الافتراضيّ.

إنَّ الماهيّةَ بوصفِها كامِنة في وجود الإنسان ذاته، ولا تتعيَّنُ إلا بعدَ انبساط أساليب وجوده، تتعرَّضُ في عمليّة فَصم (الذّات – الدّازِن( إلى تحوُّلٍ جوهريٍّ، فالقصيدةُ تغدو بوصفها المُحصِّلة الجدَليّة بينَ قصديّة وجود الذّات الشّاعِرة _في_ العالَم الوقائعيّ، وقصديّة وجود الذّات الشِّعريّة _في_ العالَم الافتراضيّ، ماهيةً لهذيْن العالَميْن، وهو ما يُرَى على السّطح البصَريّ الخارِجيّ، لكنَّ هذه الأساليب التَّخارُجيّة _في_ عالَم القصيدة الجديد ليستْ في السّطح البصَريّ العميق سوى أساليب وجود الدّازِن التَّخارُجيّة المَفتوحة _نحوَ_ المَجهول، والتي لَمْ تتعيَّنْ ماهيَّتُها بعد!

وينقُلُنا هذا الفَهمُ الجديد من حالة القصيدة (النِّهاية( بوصفها كانت ماهيّةً فحسب، إلى حالة القصيدة) البداية الدّائمة( بوصفها أساليب وجود الدّازِن الشِّعريّ المُتَّجهة دائماً _نحوَ_ المُجاوَزة والمُستقبَل والاختلاف، وهو الأمر الذي ينقلُ نظَريّةَ الشِّعر من الحداثة المركزيّة الاستبداديّة ذات الرُّؤى المُقيَّدة والكُشوف القاصِرة، إلى الحداثة الحُرَّة الجديدة ذات الرُّؤى المَفتوحة والكُشوف التَّخارُجيّة غير النِّهائيّة.

إنَّ الحداثة الحُرّة الجديدة تُعزِّزُ سمةَ استقلاليّة النَّصّ النِّسبيّة عن مُؤلِّفه، وعن عالَمه الوقائعيّ، وتسعى بذكاء وحِنكة إلى مُجاوَزة ثُنائيّة (مركزيّة المُؤلِّف _ موت المُؤلِّف( بما هيَ ثُنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الميتافيزيقيّ لثُنائيّة (الخارِج / القراءة السِّياقيّة( و)الدّاخِل / القراءة النَّسَقيّة(، ليحُلَّ محلَّها ما أصطلِحُ عليه بـِ (عالَم النِّسْيَاق)!

والمَقصودُ بذلكَ أنَّ الحداثة الحُرّة الجديدة تستطيعُ وفقَ حركيّة الخَلْق الشِّعريّ القائمة على الجدَليّة التَّخارُجيّة المُتراكِبة بينَ الذّاتيْن، أنْ تُخَلِّفَ وراءَها_ وبكُلِّ ضميرٍ مُرتاح _تلكَ الرُّؤى التي كانَتْ تفصلُ اللُّغة عن الوجود، فترى عالَم القصيدة إمّا بوصفِهِ فعلاً تعبيريّاً أنجَزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سِياقيّة) واعِية ومُتحكِّمة به تحكُّماً مُتعالِياً مُسَبَّقاً) مركزيّةُ المُؤلِّف(، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لغويّة لا شُعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفِية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالِية على الوجود في العالَم (موتُ المُؤلِّف(؛ لِتُقدِّم هذه الحداثة الحُرّة الجديدة اقتراحَها الخاصّ المُتمثِّل بعالَم النِّسْيَاق المُغايِر، وذلكَ بوصف هذا العالَم ينطوي على خُصوصيّة ثوريّة تتجاوَزُ ثُنائيّة (السِّياق _ النَّسَق) بطيِّهِما داخِلَ الحرَكيّة القصديّة الجدَليّة للذّاتيْن، ليكونَ النِّسْيَاق بوصفه أساليبَ وجودٍ مُتنوِّعة هو النَّتيجة الحتميّة والجوهريّة لعمليّة إحلال الدّازِن التَّخارُجيّ المَفصوم مَحَلَّ ثُنائيّة (السُّلطة الشُّموليّة للذّات _ المَحو الشُّموليّ للذّات)، وهيَ الآليّة التي تفتَحُ القصيدةَ على مُمكناتِها الافتراضيّة الثرّة عبر الانفكاك قدرَ المُستطاع من المُطابَقات السُّلطويّة المُسَبَّقة التي سلَبَتْها تخارُجَها الحُرّ المُختلِف سواء أكانت مُسَبَّقات خارِجيّة شُعوريّة سِياقيّة، أم كانت مُسَبَّقات داخِليّة لا شُعوريّة نسَقيّة (وهُنا من الضَّروريّ أنْ أُذكِّرُ أنَّ النَّسَقيّة تُعرَّفُ بأنَّها البِنية الكونيّة اللاشُعوريّة للعقل البشريّ، والسّابقة الوعي).

سابعاً: الماهيّة بوصفها انفتاحاً –  نحوَ المجهول:

 أنْ يكونَ الانفتاحُ الشِّعريُّ تخارُجاً يعني أنْ يكونَ دائماً) نحوَ(؛ و)نحوَ) لا تُشيرُ إلى جهةٍ مُحدَّدة، أو إلى بُعْدٍ رياضيٍّ، وإنَّما تعني مُجاوَزة مُستمرّة لِكُلِّ ثَباتٍ أو انغلاق!

وينبعُ هذا الفَهم من تجذُّر وجود) الذّات _ الدّازِن (في الزَّمانيّة؛ وهو الأمرُ الذي يعني أنَّهُ من المُستحيل أنْ يتأسَّسَ الكائنُ على قاعِدَةٍ ثابِتة أو أصلٍ خالِص، ذلكَ لأنَّ الزَّمنَ عامِلُ عدَمِ تشابُهٍ وابتعادٍ واختلافٍ يحملُ معهُ تهديداً دائماً للهُوِيّة، ولهذا ينحو الكائنُ قُدُماً صوبَ التَّعدُّد والتَّبعثُر والانفصال، وتغدو هُوِيَّتُهُ في استحالة كونِهِ (هوَ( دوماً بلا تبدُّل أو تحوَّل أو تقلُّب، أو في استحالة التَّماهي معَ ذاتِهِ وصُورتِهِ في ماهيّة جوهريّة ثابِتة، فهوَ في حالة) قذف( مُتواصِل إلى الأمام، واتّجاههُ_ نحوَ _زمانيّة المُستقبَل هو اتّجاهٌ من أجل ما لَمْ يوجَد بعد، كأنَّهُ يعدو دائماً أمامَ ذاتِهِ. فالذّاتُ _ الدّازِنُ لا يكتمِلُ وجودُها في العالَم الشِّعريّ؛ إنَّما يبقى على الدَّوام بحثاً عن تحقيق كمال الكينونة التي هيَ ليستْ سوى مُجرَّد إمكانيّة تنبسِطُ بوصفها ماهيّة مفتوحة_ نحوَ_ المُستقبَل؛ بمَعنى أنَّ الدّازِنَ الشِّعريَّ النِّسْيَاقيَّ هو مُحصِّلة الحركيّة الجدَليّة التَّخارُجيّة المُتراكِبة بما هيَ حركيّة تبعثُر وتشظٍّ واختلاف _نحوَ_ المَجهول.

إنَّ فصمَ) الذّات – الدّازِن( ليسَ في جوهره سوى إجراء نظريّ ضروريّ نُعَلِّقُ به فَهْمَ القصيدة بوصفها ماهيّة مُكتمِلة، لنحتفيَ اعتماداً على حركيّة الجدَل المُتراكِب بينَ قصديّة وجود الذّات الشّاعِرة _في_ العالَم الوقائعيّ، وقصديّة وجود الذّات الشِّعريّة _في_ العالَم الافتراضيّ،  بتشتيت هذه الماهيّة لحظةَ انفتاح عالَم الوجود الشِّعريّ للدّازِن النِّسْيَاقيّ على مُمكنات مُتحوِّلة ومُتغيِّرة باستمرار. فالتَّشتيت أو الانتشار هو نقضٌ لمركزيّة الذّات ووَحدتها، وهو توليد للفوارق ومسافات الاختلاف بالتَّعدُّد ونفي المحدود والمُغايَرة وعدم التَّشابه وإرجاء المَعنى. ذلكَ أنَّ هذا الإرجاء يعني تكاثُرَ الوجود بطريقة يصعبُ معها على الذّات ضبطهُ والإمساك به أو السَّيطرة عليه، إلا في ضوء اللَّعِب الحُرّ لأساليبهِ بما هي حركيّة مُستمرّة تُثير عدم الاستقرار والثَّبات بوصفها تستجمِعُ المُتناقضات، ثُمَّ تبسطها في الحركيّة _نحوَ_؛ أي بوصفها اختلافاً مُتحرِّكاً ديناميكيّاً_ نحوَ_ المُستقبَل والمَجهول.

لقد أُسِّسَتِ الحداثةُ الشِّعريّة على ميتافيزيقا الحُضور التي تنظرُ إلى الرُّؤيا الحداثِيّة بوصفها حركيّة انتقال من الرّاهِن المُتحوِّل العابِر في العالَم الوقائعيّ، إلى الكُلِّيّ الثّابِت الدَّائِم أو الأبدِيّ في عالَم القصيدة. وهو اعتقادٌ يقومُ في خلفيَّته الفلسفيّة على فَهم الوجود انطلاقاً من الموجود، وعلى فَهم المَجهول انطلاقاً من المَعلوم، وعلى الاعتقاد أنَّ الماهيّة تسبقُ الوجود.

لكنَّ حداثتَنا الحُرّة الجديدة تقلبُ هذه الآليّات، وذلكَ بما هيَ مُحايَثة وجوديّة تسعى إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور اعتماداً على حركيّة الجدَل التّخارُجيّ المُتراكِب، فتنطلِقُ من الوجود _بوصفه أساليبَ الوجود المُنفتِحة بينَ العالَميْن الوقائعيّ والافتراضيّ_ لفَهم الموجود، ومن المَجهول _بوصفه تلكَ الحركيّة المُلتبِسة بينَ المَرئيّ وغير المَرئيّ_ لفَهم المَعلوم، ليتمَّ بناءً على ذلكَ تأويل أساليب الوجود وكيفياته المُنبسِطة في عالَم القصيدة بينَ السّطح البصَريّ الخارِجيّ، والسّطح البصَريّ العميق بوصفها سابقةً الماهيّة.

إنَّ حركيّة الجدَل التَّخارُجيّ المُتراكِب) بينَ الذاتيْن (تُفكِّكُ التَّمركُز الميتافيزيقيّ الاستبداديّ على الموجود بوصفه مَعلوماً يتمُّ إحضارُه وتمثُّله والتّحكُّم به وفقَ سُلطة الذّات الواعِية، ثُمَّ يُطلَقُ عليه زيفاً اسم الوجود، ليكونَ ماهيّةً مُسَبَّقة لهذا الموجود. فتبسطُ حركيّةُ الجدَل أساليبَ الوجود الشِّعريّ أمامَنا، وتجعلُ منها مُنطلَقاً أوَّلاً لفَهم الموجودات وعالَم الأشياء، وذلكَ باندفاع هذه الأساليب المُستمرّ _نحوَ_ المَجهول، وبوصفِ هذا الاندفاع حركيّة الماهيّة التي لا يُمكِنُ القبض عليها في صورة ثابتة مُطلَقاً. فمَعنى أنْ تكونَ الماهيّةُ غير مُتعيِّنة، لكون أساليب وجود) الذّات _ الدّازِن( المُنبسِطة في عالَمها الشِّعريّ أساليب وجودٍ تخارُجيّة مَفتوحة_ نحوَ_ المَجهول، يعني بطريقةٍ ما، أنَّ هذه الماهيّة هي بحدِّ ذاتها ذلكَ الانفتاح المُستمرّ وغير المُكتمِل_ نحوَ_ المَجهول؛ إذ إنَّهُ بعدَ أن تبسطَ الآليّاتُ الجدَليّة النّاهِضة بينَ أساليب وجود الذّات الشّاعِرة الوقائعيّة وأساليب وجود الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة مُحصِّلَتَها التَّخارُجيّةَ في عالَم النِّسْيَاق، تغدو الماهيّةُ هيَ نفسها حركيّة انفتاح أساليب الوجود النِّسْيَاقيّ الشِّعريّ المُتسارِعة بلا هوادة _نحوَ_ المَجهول.

وبهذه الصّورة، تقومُ الحداثةُ الحُرّة الجديدة على فكرة أنَّ المُتحوِّل يُفضي دائماً إلى مُتحوِّل؛ أي إنَّ القصيدة بوصفها عالَماً وجوديّاً مُحايِثاً لا تملكُ مَوْقِعاً إقصائِيّاً مُتعالِياً كي تُنتِجَ رُؤىً شُموليّة ثابِتة ونهائِيّة، إنَّما هيَ فضاءٌ مُتغيِّرٌ ينقلُ مَفهومَ) رُؤية المَجهول( في الحداثة من دلالة رُؤية ما هو ثابِت وأبديّ، إلى دلالة رُؤية ما هو مُتقلِّب في حركيّته ومُتحوِّل باستمرار، وهيَ الآليّة التي تُحقِّق النَّقلة الشِّعريّة الحاسِمة في الحداثة التَّخارُجيّة الجديدة، والكامِنة بفَتْحِ قصديّة الوجود _بوصفها انبثاقاً مُجاوِزاً لمركزيّة قصديّة الوعي السُّلطويّ_ على ما فوقَ (أو على ما بعدَ) هذه القصديّة الوجوديّة، وهو ما يُمكِنُ الاصطلاحُ عليه بـِ (القصديّة النِّسْيَاقيّة).

ثامناً: إشارات خِتاميّة:

يعيشُ الشّاعِرُ التَّخارُجيُّ الجديد وجودَهُ الشِّعريّ مَأخُوذاً بالمُستقبَل، وليسَ هاجِسُ المُستقبَل سوى هاجِس انشقاق واستباق، ولهذا لا يكونُ جوهرُ القصيدةِ في ائتلافِها بوصفه جواباً، إنَّما في اختلافاتِها النِّسْيَاقيّة المُتراكِبة والمُتلاطِمة بوصفها أسئلةً تُوَلِّدُ أسئلة. وهذا ما لم تنجحِ الحداثةُ الشِّعريّةُ في الوفاء الدّائم بمُقتضياتِهِ، ولاسيما أنَّها خَسِرَت الرُّؤى الكاشِفة في مُعظَمِ الأحيان لصالِحِ سُلطة الذّات القَبْليّة.

وهكذا، يتأسَّسُ وفاءُ الشّاعِر التَّخارُجيّ الجديد لِلشِّعر بما هو غنائيّة الصَّيرورة والتَّحوُّل على اكتساب خبرة وجوديّة مُفارِقة تسعى إلى ترويض الذّات الواعِية بفصمها الجدَليّ المُستمرّ، والانضواء في حركيَّتها التّخارُجيّة المُتراكِبة، وذلكَ بوصفها تفتتِحُ عالَماً تعدُّديّاً واختلافِيّاً تنبسِطُ فيه الماهيَّةُ _نحوَ_ المَجهول، ليكونَ هذا) الشّاعِرُ _ الدّازِنُ النِّسْيَاقيُّ الجديد) مُحرِّرَ نفْسِهِ من أوهامِ المُطابَقاتِ المُسَبَّقة، وحامِيَ حِمَى المُباعَداتِ والمُجاوَزات، وحارِساً أبديّاً لحِكْمَةِ التَّخارُج، وليُوصفَ دائماً بأنَّهُ ذلكَ الخائنُ المُحترِفُ الذي يعي كيفَ يُقصِي ذاتَهُ المُتسلِّطة في فعل الخَلْق الإبداعيّ، وكيفَ يُطلِقُ ذاتّهُ الحُرّة المُنغمِسة بذكاءٍ مُبدِع في المُنفتَحات النِّسْيَاقيّة المُغايِرَة، ساعِياً بلا توقُّف إلى تخليق وجودٍ زائدٍ ليسَ في جوهره سوى استنطاقٍ لا حُدودَ لهُ لحساسيّاتٍ شِعريّة مُتوالِدة باستمرار، ومُنفتِحة على تحقيق مُجاوَزة وجوديّة (ثقافيّة _ جَماليّة) مُختلِفة.

إنَّ انقلابَ الحداثة الحُرّة الجديدة على الحداثة البالِية القديمة، يعني أنْ نُخلِّفَ وراءَنا تلكَ التَّكتيكات القاصِرة، وأنْ نتلقَّفَ شُروطَ الخَلْقِ الشِّعريِّ الجديد بوصفها استراتيجيّات كينونة مُستقبليّة، تسمَحُ لنا باستئناف الحداثة الشِّعريّة لا بوصفها حقبة زمنيّة مُعيَّنة أو مُحدَّدة يُرادُ مدُّها وإسقاطُها على زمنٍ آخَر، إنَّما بوصفها دعوةً ثوريّةً دائِمة إلى النَّقضِ والتَّجديدِ والحُرِّيّة؛ أي بوصفها دعوةً مفتوحة إلى مُساءَلةٍ حركيّةٍ مُستمرّة للتَّحوُّلات الوجوديّة والهُوِيّاتيّة الكيانيّة ذاتيّةً كانت أم جَمعيّة، محليّةً أم كونيّة، وبوصفها بطبيعة الحال سعياً دؤوباً لخَلْق تناصّات فنِّيّة مُجاوِزة ومُغايِرَة تُضيفُ أشياء النَّصّ غير المَحدودة إلى الأحداث الخارِجيّة، مُتحاوِرَةً مع صَيرورتها، ومُتبادِلَةً التَّأثُّرَ والتّأثيرَ فيها، من دون أن تكونَ عبئاً مُترهِّلاً عليها.

لذلكَ منَ الضَّروريِّ أنْ أقولَ في هذا المَوْضِع: إنَّ البُعدَ الزَّمنيَّ المُضْمَرَ في هذا البَيان الشِّعريّ يقودُني إلى وصفه بأنَّهُ بَيانٌ ما بعد حداثيّ من ناحيةٍ أُولى؛ ذلكَ أنَّهُ يسعى إلى تفكيك ثوابت الحداثة الشِّعريّة مُستعيناً بأدواتٍ مَعرفيّة تنتمي إلى أجهِزةٍ مَفاهيميّة ما بعد حداثيّة. وهو من ناحيةٍ ثانية بَيانٌ ما بعد ما بعد حداثيّ؛ ذلكَ أنَّهُ يُطلُّ على فَضاءات الحداثة وما بعد الحداثة من جهةِ تجذُّرِه الزَّمكانيّ في عصر العولَمة والثَّورات الرَّقميّة والمَعلوماتيّة وفضاءات العَوالِم الافتراضيّة على نَحْوٍ كونيٍّ عام، ومن جهةِ انتمائِهِ إلى إرهاصات الرَّبيع العربيّ ثُمَّ إلى ثوراتِهِ ثُمَّ إلى تداعياتِهِ على نَحْوٍ تحقيبيٍّ خاص. فضلاً عن أنَّ هذا النَّصّ _ البَيان يهدفُ في مُستوىً أعمَق من مُستوياتِهِ المَعرفيّة والفنِّيّة إلى مُجاوَزة الحداثة وما بعد الحداثة على حدٍّ سواء باقتراحِهِ مُحايَثةٍ وجوديّة تخارُجيّة تسعى إلى إنقاذِ الجَماليِّ المَغدور بهجران ثُنائيّة (مركزيّة المُؤلِّف: السُّلطة الشُّموليّة للذّات) و(موت المُؤلِّف: المَحو الشُّموليّ للذّات)، عبر إحلال هُوِيّة نِسْيَاقيّة تؤكِّدُ بوصفها أساليب وجود الدّازِن المُفارِقة أنَّهُ من الضَّروريّ _إنْ لَمْ نقُلْ من الحَتميّ_ في هذه المرحلة العالَميّة المُتشظِّية والاستثنائيّة أن تنبثقَ حركة حداثيّة حُرّة وجديدة تهدفُ إلى القطيعة مع الإخفاقات القديمة التي تأسَّسَتْ على آليّاتِ خَلْقٍ استبداديّة مُخادِعة، وهو الأمر الذي يُراهَنُ في بلوغِهِ على استجابة الدّازِن النِّسْيَاقيّ الجديد للتَّحدِّي الوجوديّ عبر الانغماس في حركيّة الجدَل التَّخارُجيّ المُتراكِب القائم بينَ الذّات الشّاعِرة الوقائعيّة والذّات الشِّعريّة الافتراضيّة، بما هيَ حركيّةُ فَصْمٍ تطمَحُ إلى الانتقال من مَجال القصيدة (النِّهاية)، إلى مَجال القصيدة (البداية الدّائمة)، مُحاوِلينَ أنْ نُحقِّقَ على هذا النَّحْوِ أهمَّ أهدافِ حداثتنا الحُرّة الجديدة، وهوَ: السَّعْيُ إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور؛ على أنْ نعيَ تماماً أنَّ هذه المُجاوَزة بوصفِها طُموحاً مَشروعاً وضروريّاً، لا تتحقَّقُ بقرارٍ حاسِمٍ أو بفعلٍ نهائيٍّ، إنَّما هيَ طرائقُ وجودٍ شعريٍّ، وكيفيّاتُ فَهمٍ وتقليبٍ تأويليٍّ، تُبقِي الشَاعِرَ التَّخارُجيَّ الجديدَ _في_ عالَم الدِّرْبة والمُكابَدة والتَّجريب، بما هو عالَمُ البَحث الدَّؤوب والصِّراعُ الأصيل في الطَّريق التَّخارُجيّ_ نحوَ _.

   دمشق في كانون الأوّل 2015

____________________

_ سيرة مُختصَرة

_ مازن أكثم سليمان _ مواليد سورية.

_ دكتوراه في الدراسات الأدبيّة من جامعة دمشق.

_ بدأ بنشر الشعر والدِّراسات النّقديّة منذ عام 1999.

_ صدَرَ له ديوان شعر عن دار الفاضل بدمشق عام 2006 بعنوان: (قبلَ غزالة النّوم(.

_ يتابعُ نشرَ الشعر والنُّصوص الفنِّيّة والدراسات النقدية والفكرية والمقالات في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية العربية.

_ أطلقَ بَياناً شعرياً بعنوان: (الإعلان التَّخارُجيّ) عام 2015.

_نشرَ جميعَ قصائد ديوانه الشِّعري الثاني في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونيّة العربية خلال أعوام  (2014 _ 2016).

_ لديه أكثر من مخطوط شعري ونقدي قيد النشر.

 

 

 

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *