يتغيرون فنتغير، أو يغضبون فنغضب؛ هذه قاعدة تخرج عليها فضائيات عربية نادرة فيما يتعلق بالتغطية وأولوياتها، ولسان حالها يقول، لدينا ما نغيره ولدينا ما نغضب بشأنه من دون انتظار جهبذ فضائي أو مستشار إعلامي ذي سطوة يدفعنا دفعاً إلى غرفة إعادة النظر وتحسين السلوك، ومن ورائه بالطبع أكثر من جهة مهدِّدة.
يسمى هذا في عالم اليوم استقلالية الرؤية، أو اختيار فرد أو فضائية مصيراً شبيهاً بمصير المهمشين، وما أكثرهم وأصدقهم.
من المؤكد أن الناس لا ينظرون من الزاوية نفسها، ولا يشربون من النهر ذاته، ولا يرقصون في الملعب نفسه، بل ومن المؤكد أنهم لا يطلون من النافذة نفسها على المشهد نفسه، بل يختلفون مثلما تختلف الأشجار والسماوات بين جغرافية وأخرى، وكلما اختلفوا كان هذا أجمل، وكان عالم الفضاء أوسع من حبة جوز.
كل هذه بدهيات، ربما يُظنّ أن التأكيد عليها سذاجة ومبذول قول واستخفافاً بعقل القارئ، ولكن هذه السذاجة مطلوبة الآن وملحّة، مثلما هو ملحّ وساذج تكرار بطل رواية «العام 1984» عبارة «أن واحداً زائد واحد يساوي اثنين»، فقط ليحفظ سلامته العقلية.
نصلُ الآن إلى المقصود بعد هذه الجولة في عالم التلميحات، إلى ظاهرة الحركة الواحدة المتماثلة وراء كواليس الفضائيات، حركة التجدد والتغير، ليس في عناوين وأساليب ولهجة البرامج فقط، وإنما حتى في مستلزمات الزينة ولفت النظر الباهر وغير الباهر المسمى «ديكورات»، أو زخرفيات بتعبير كائن عربي منقرض.
هذه الحركة إذا أردتَ معرفة مصدرها، أو الدافع المحرض عليها، لن تجده فيما تعرف من مخرجين ومعدي برامج وحلاقين وخبراء تجميل، بل فيما تراه على شاشات أخرى شهيرة في عالم الغرب. أي أنها استنساخ طويل الأمد غير ذكي في غالب الأحيان، هذا إذا افترضنا في الاستنساخ ذكاءً.
اللافتُ للنظر في هذا الاستنساخ أنه لا ينتج تماثلاً جوهرياً بين الأصل والصورة، بل تماثلاً شكلياً، لأنك لكي تستنسخ شاشة فضائية عليك أن تستنسخ معها بيئة ثقافية اجتماعية، وذاكرة هذه البيئة أيضاً، تماماً مثلما يحدث حين تستنسخ جامعة أو مركز بحث أو متحفا أو دار أوبرا أو لجنة عمل أو جريدة، فلا يكفي الاسم والمبنى والألقاب، بل تظلّ بحاجة إلى عنصر مفقود عصي على الاستنساخ.
تخوّف بعض السذج من تقنية الاستنساخ التي بدأت في عالم الخراف، وتصور أنها حين تمتدّ إلى عالم البشر ستأتي له بنسخ مطابقة لهتلر مثلا أو موسوليني أو فرنكشتاين أو إبليس ذاته، وما علم أن الكائنات وليدة بيئتها أولا، لا كواليس المختبرات. قد تولد وسيلة إعلامية على غرار ولادة النعجة «دولي»، ولكنها ستكون مضحكة في عالم البشر المختلف بالتأكيد عن عالم النعاج.
* * *
ومع هذا، كنت أتخيل أو أتوهم أن سكان الفضائيات سيكونون أفضل من غيرهم من سكان وسائط الإعلام الأرضية. فهم في موقع مطلٍّ أو مشرفٍ يسمح لبعضهم بتقمص نظرة النسر المحلق وحدّتها، ويسمح لبعض آخر بارتداء مسوح العرّاف الذي يقرأ العلامات ويتنبأ بسقوط المطر. وحين علمتُ لأول مرة ببركات الأقمار الصناعية، أي مدّ البث التلفازي على مساحة الكرة الأرضية، أدركتُ آنذاك أن كائنات جديدة ستأتي في مقبل الأيام، وعالماً جديداً سينشأ على صعيد الإعلام والمعلومات، وآفاقاً أوسع ستنفتح أمامنا نحن التقليديين الذين أصابنا الضجر من العالم الأرضي الضيق وأصبناه به.
اليوم أجد نفسي مضطراً للاعتراف بأن الوهمَ طارَ والخيال تلاشى، فلا النسورُ حلقت، ولا الأمطارُ تساقطت. كل ما حدث هو أن الأقمار الصناعية لم تستخدم إلا في نقل ثرثرات المقاهي العربية المعتادة، وإرسال ما كان معاركَ أزقة وحارات، وربما معارك ديكة، إلى مدى أبعد، باستثناء وصول أخبار الكواكب الأخرى إلينا وعروضها وبرامجها مما سهل زيادة كميات البضائع المستعارة في سيرك الوسائط الفضائية العربية.
ولا أجد بداً من ذكر هذه الصورة التي تراودني أمام سكان الفضائيات، سواء من غنّى وطرب أو خطب وثار أو جادل وتحامق أو حملق وأثار الغبار: صورة صيادين يتلقطون ما يطفو على وجه مياه البحر، أو ما يقذف به رحالة سفن عابرة للمحيطات تتقاذفه الأمواج، وإن غاصَ غواصٌ منهم، غاص في شبر ماء، وإن خاطر وألقى شبكته لم يلقط إلا الحصى.
عالم فضائياتنا، على العكس من تخيلاتي وأوهامي الماضية، لا يقترح ولا يكتشف. كأن أصحابه لا طاروا ولا ارتفعوا، ولا غاصوا ولا انغمروا، بل هم أناس وقعت في أيديهم مصادفة بضائع قافلة عابرة فتناهبوها واتخذوا منها حليهم وأزياءهم، وحاكوا أصوات أصحابها وحاديها، بقدر ما صورت لهم أحلامهم هذه الأصوات وهذا الحداء. وطال الاحتفال، وتوزعوا الألقابَ والجوائزَ تماماً كما يحدث في أي مسرحية، ولكن الفرق هو أن هذه مسرحية لا يهبط ستارها، بل تتواصل مع تواصل ساعات الليل والنهار. ربما هذا هو الفرق الوحيد الذي يميز حال الحاضر عن حال الماضي.
كنا نختم السهرة مبكرين، وأصبحنا الآن نواصلها جائلين بين فضائية وأخرى، ثم نستيقظ، فنكتشف أننا لم نعرف غير ما عرفنا بوسائلنا التقليدية، فلا الفكرُ تطوّر ولا النظرُ صار أكثر حدة، بل ربما كان حالنا أفضل مع أحجامنا الحقيقية كسكان أرض، ومحصولنا أغنى مع سلالنا الصغيرة. ألا يكون الإنسان أكثر صدقا ً مع نفسه ومع الناس إذا تخلى عن أخيولاته وأوهامه ؟
* * *
والآن إليكم هذا المهمَّش في فضائية مهمشة.. كما رآه مشاهدٌ مهمش؛ إنه المؤرخ الأمريكي «هاوارد زين» (1922-2010) صاحب كتاب «أصوات تاريخ شعب الولايات المتحدة» الذي جمع في سلّته ما أهمله التاريخ، أو ما يُستبعد عادة من وسائل الإعلام السائرة، ويقصى عن مناهج التربية والتعليم، على حد تعبيره.
أذكر أن هذا المؤرخ الطاعن في السن ظهر قبل وفاته ببضعة أشهر فرحاً وسعيداً على شاشة فضائية «الديمقراطية الآن» بمناسبة عرض مسرحي لنصوص وخطاباتٍ مأخوذة من كتابه، مع عدد من الأغاني التي نسيتها الأجيال. وعبر عن امتنانه العميق لمشروع نيويورك الثقافي الذي أعدّ هذا العرض تحت اسم «أصوات متمردة»، أو إذا اردنا الدقة الدلالية، أصوات من خارج السياق.
خلال هذا اللقاء مع المؤرخ المهمش عرضت الفضائية لقطاتٍ من قراءات درامية أداها ممثلون لخطابات ورسائل وقصائد وأغنيات وعرائض احتجاج لأشخاص من أمثال «سيورنر ترث» و«فريدرك دوجلاس» و«مالكولم إكس»، بالاضافة إلى أصوات معاصرين معارضين للحرب من أمثال «كاميلو مياي» و«باتريشيا تومسون».
بعبارة مختصرة؛ كان العرض المسرحي لكلماتِ أناس قالوها عبر مراحل متعددة من التاريخ الأمريكي، ناضلوا ضد العبودية والعنصرية والحرب والاضطهاد، جمعها هذا المؤرخ بعناية ليحفظ للأجيال ما يعتبره صفحاتٍ بيضاء في هذا التاريخ جديرة بالتذكر، وبخاصة في الوقت الراهن.
بالطبع ليست هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها نصٌ من هذا النوع إلى قراءة درامية، ففي العام 2005، حوّلت فرقة مسرحية بريطانية يوميات ورسائل الشابة الأمريكية «ريتشل كوري»(1979-2003) الإلكترونية إلى عرض درامي يروي قصتها منذ أن كانت طالبة ثانوية وحتى انضمامها إلى منظمة التضامن الدولية مع الفلسطينيين، ونهايتها تحت أسنان جرافة صهيونية صنعتها شركة «كاتربلر» خصيصاً لما أصبح يسمى الآن إبادة المدن.
حديث الفضائية مع المؤرخ لم يتطرق إلى أسئلة عن طبيعة العرض الدرامي، ربما لأن هذا النوع من الأعمال أصبح مألوفا في العالم الغربي، ولكنه انصرف إلى استقصاء رؤيته لقضايا ذات صلة بخطابات ورسائل وقصائد أولئك المناضلين القدماء والمحدثين؛ النظرة إلى المهاجرين، الحرب، الاضطهاد، فأضاف لمحاتٍ إلى شخصيته المهمّشة أيضاً والمقموعة الموضوعة خارج السياق رغم أن كتابه وصل إلى ملايين القراء.
كان «هاوراد زين» مهمّشاً يتحدث عن مهمشين وفي فضائية مهمّشة وسط وسائط إعلام مستبدة في معمعة، ولكن فرحته بالعرض المسرحي كانت مؤثرة، وكأني به لمس أن حياته كمؤرخ خارج السياق لم تكن عبثاً، وكذلك كانت فرحتي بفضاء حقيقي يختلف عن فضائنا الافتراضي المحتشد بالمعامع.
_____
*الخليج الثقافي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
ثقافة الهامش*يوسف ضمرةعندما يعتقد الغرب (ماكس فيبر مثالاً) أن الفن معطى غربي تماماً، وأن الموسيقى تطورت…
-