قصة الشاعر الإسباني الذي سجنه فرانكو في مدينة الداخلة المغربية

خاص- ثقافات

علي بونوا *

بيدرو غارسيا كابريرا (1905-1981) شاعر إسباني من جزر الكناري، قاده نشاطه السياسي في إطار الجمهورية الإسبانية الثانية _التي قامت ما بين 1931 و 1939_ إلى معتقل مدينة الداخلة بالصحراء المغربية، في عهد الاستعمار الإسباني وتسمى آنذاك “بِيَّا ثيسنيروس”. وكانت إسبانيا تتخذ منها معتقلا ومنفى تنقل إليه المعارضين السياسيين خصوصا بعد الانقلاب العسكري الذي قاده أربعة من قادة الجيش الوطني ضد الجمهورية وكان سببا مباشرا في اندلاع حرب أهلية دامت ثلاث سنوات (1936-1939) وانتهت بانتصار الوطنيين على الجمهوريين لتدخل إسبانيا في مرحلة الحكم الديكتاتوري برئاسة الجنرال فرانكو. 

بعد سقوط الجمهورية الثانية، التي كانت مساندة من طرف المثقفين وشريحة واسعة من مشاهير الكتاب والمبدعين الإسبان، لجأ نظام فرانكو الفاشي إلى شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف معارضيه، منهم من تم اغتياله أو اعتقاله ومنهم من تم نفيه إلى السجون في المستعمرات الإسبانية في إفريقيا. وكان ذلك شأن الشاعر بيدرو غارسيا كابريرا الذي قُبض عليه في يوم 18 يوليوز 1936 رفقة مجموعة من النشطاء الجمهوريين واقتيادهم، في مرحلة أولى، إلى سجن عائم ثم إلى إحدى المعتقلات بجزيرة “كناريا الكبرى” ليتقرر أخيرا، شهرا بعد ذلك، نفيهم إلى معتقل الداخلة وسط شبه جزيرة وادي الذهب.

ALI_BOUNOUA

وفي يوم 19 غشت (1936)، وهو يوم ذكرى ميلاد غارسيا كابريرا، تم نقل 37 معتقلا سياسيا إلى المعسكرات الإسبانية في الصحراء، ثمانية منهم نقلوا إلى مستعمرة “لكويرة” بينما نُقل الباقون، وبينهم غارسيا كابريرا، إلى الحصن القديم بمدينة “الداخلة”، _بناه المستعمر الإسباني سنة 1884_ حيث وصلوا إليه في مركب لنقل البريد كان يسمى “بـييرا إي كلابيخو”. بعد سبعة أشهر من مرارة الاعتقال قضاها في سجن “بِيَّا ثيسنيروس” لم تخلُ من أعمال شاقة وأخرى شعرية تحكي هذه التجربة، استطاع الشاعر الكناري أن يُعد بمعية عدد من رفاقه السجناء وبمساعدة بعض الجنود الإسبان، خطة محكمة مكنتهم من السيطرة على الحصن ومن تم الهروب الجماعي _على متن ذات المركب الذي جاء بهم_ ليلة 28 مارس 1937 نحو العاصمة السنغالية “داكار”.

لم يمر وقت طويل على وصول الشاعر إلى “داكار” حتى قرر أن يغادرها على متن إحدى البواخر الأجنبية الآتية من أمريكا والمتوجهة نحو أوروبا. وصل شاعرنا إلى ميناء مدينة “مارسيليا” الفرنسية، ومن هذه الأخيرة دخل، عبر القطار، إلى بلاده لينضم إلى صفوف الجيش الجمهوري الذي فتح عدة جبهات للقتال ضد الوطنيين. واختار غارسيا كابريرا دخول جبهة القتال جنوبا من “أندلوسيا” واندرج في خدمة الاستخبارات العسكرية. وذات ليلة، أثناء القيام بمهمة، تعرضت سيارته لحادثة اصطدام مع قطار أصيب خلالها بحروق بليغة نُقل على إثرها إلى مستشفى بمدينة “خاين” ثم بعدها إلى “باثا” بنواحي “غرناطة”. وهنالك تم القبض عليه مجددا وحُكم عليه بالسجن لمدة 30 سنة. وتم إطلاق سراحه سنة 1946 بعد عفو جزئي يمنحه الحرية مع دوام المراقبة.  

 صورة تاريخية - الحصن القديم لمدينة الداخلة

ويُعتبر بيدرو غارسيا كابريرا من أهم رموز الأدب الإسباني في جزر الكناري، خصوصا وأنه كان ينتمي لأدباء “جيل 27” أشهر المجموعات الأدبية في الأدب الإسباني المعاصر. وله 20 ديوانا شعريا ألفها على مدى خمسين عاما من الإنتاج الأدبي إضافة إلى عديد النصوص الروائية والدرامية والمقالات الأدبية والنقدية والفكرية والسياسية المنشورة في الجرائد والمجلات المحلية. في 1987، وبعد ست سنوات من وفاته، جمعت مصلحة الثقافة في الحكومة الكنارية المستقلة كل أعماله وأصدرتها في كتاب، من أربعة مجلدات، تجمع فيها ما تفرق في غيرها من إبداعات الشاعر التي لم ير أغلبها النور إلا بعد هذا الإصدار لأعماله الكاملة.

 

لقد ترك الاعتقال والنفي إلى الصحراء أثرا بارزا في شعر غارسيا كابريرا بصم مسيرته الأدبية. ويتجلى ذلك في تخصيصه لخمسة دواوين شعرية كاملة لتناول مواضيع السجون والنفي والهروب من الصحراء والحرب بما حملته التجربة من مشاعر وتأملات وكوابيس وهواجس وكل تلك اللحظات المريرة في حصن شبه جزيرة وادي الذهب، طيلة سبعة أشهر، بعيدا عن مسرح الأحداث الساخنة التي كانت تمور بها الضفة الشرقية لشبه الجزيرة الأيبيرية ومعها الأرخبيل الكناري. ولعل الديوان المعنون بـ (Romancero cautivo)  أو “الديوان الأسير” أحسن انموذج من بين الدواوين الشعرية الخمسة المذكورة آنفا، والذي يظهر موضوعه من اسمه، وخلد من خلاله مروره من الداخلة ووادي الذهب عبر قصيدة طويلة صدر بها هذا الكتاب.

 

ويتكون “الديوان الأسير”، الذي ألفه الشاعر بين سنتي 1936 و1940، من ثلاث مجموعات قصائد شعرية. كتب الاثنتان الأخيرتان منها خلال تواجده بسجون غرناطة، موطن أعظم شاعر في القرن العشرين، بشهادة كثير من النقاد والأدباء عبر العالم، الشاعر الإسباني الآخر فيديريكو غارسيا لوركا، مؤلف (Romancero gitano) أو “الديوان الغجري”. هذا الديوان أثر بعمق، من حيث الشكل والأسلوب، في شعر غارسيا كابريرا بحكم انتماء الشاعرين معا لمجموعة أدباء “جيل 27” المعتنقين لنفس التيار الفكري – السياسي. وللتذكير فإن لوركا كان جمهوريا أيضا وتم إعدامه رميا بالرصاص على يد الوطنيين عام 1936 وعمره لم يتجاوز 38 سنة. 

 

وفي “الديوان الأسير” تناول غارسيا كابريرا موضوع اعتقاله بالصحراء في المجموعة الأولى من القصائد الشعرية المشكلة للديوان وقوامها 684 بيتا شعريا توزعت على أربعة أجزاء. وتتكون الأجزاء الثلاثة الأولى من ما مجموعه 606 بيتا كتبها وسط معتقل الداخلة، بحيث كان ينظم أبيات الشعر ويدونها على أوراق السجائر بقلم رصاص وكان يخبئها في جيبه، طيلة مدة اعتقاله، مستعملا تلك الحيلة حتى لا يحرمه الحراس من كتابة وتدوين قصائده التي ستصبح لاحقا وثيقة تاريخية ، في قالب أدبي، سجلت مروره من الصحراء المغربية ليصبح بعد سنوات أحد رموز الأدب الإسباني الحديث بجزر الكناري. أما الجزء الرابع والأخير من القصيدة، وعدد أبياته 78، فقد كتبه بعد هروبه من المعتقل عبر خليج وادي الذهب لدى وصوله للسنيغال.

 

وللإشارة فإن الحصن القديم الذي شيده الإسبان منذ سنة 1884 على الطراز المعماري العسكري القشتالي، وهو أقدم بناية أنشأها الاستعمار الإسباني بالصحراء المغربية، وكان مسرحا لما عاشه الشاعر الإسباني بيدرو غارسيا كابريرا من مرارة الحرية المسلوبة، (الحصن) لم يعد له وجود بمدينة الداخلة بعد أن قررت السلطات المغربية هدمه في أواخر سنة 2004 _بعد 120 عاما من بنائه_ وأقامت مكانه ساحة عمومية ينتصب في إحدى جنباتها مجسم لشبه جزيرة الداخلة. وكم من زائر مر من هذه الساحة الفسيحة فجلس في أحد مقاعدها وهو لم يدر أنها كانت في يوم من الأيام مقاما لحصن عتيق ضم بين جدرانه رمزا من رموز الأدب الإسباني المعاصر الذي استقبلته هذه المدينة الصحراوية ليس كمستعمر أو سائح بل أسيرا منفيا خلد مقامه فيها بعمل شعري سيبقى خالدا في الذاكرة الأدبية العالمية المشتركة… فلو سقطت جدران الحصن يوما، لن تسقط أبيات الشعر أبدا.

 Pedro-Garcia-Cabrera-171206

وفي الختام نورد ترجمة الأبيات الأولى من القصيدة التي كتبها الشاعر بيدرو غارسيا كابريرا على أرض مدينة الداخلة:

 

كَانَت السَّماءُ صافِيةً والبَحْرُ راقِداً

إِذْ خَرَجَ مِنَ السُّجُونِ العائِمَةِ

لِجَزيرَةِ «تِنِيريفي»

سَبعَةٌ وَثَلاثونَ مُبْعَداً

فِي اليَوْمِ التّاسِعِ عَشَر مِن أَغُسْطُس

يَوْمَ ذِكْرَى مِيلادِي.

كَانَتْ أَضْوَاءُ الحُزْنِ وَالأَرْضِ

وَالمَدِينَةِ وَالمَراكِبِ

باسِطَةً أَذْرُعَها الطَّويلَةَ

عَبْرَ الهَواءِ وَفَوْقَ المَاء.

فِي وَسَطِ الخَلِيجِ

حَضَرَ نَقْلَنَا إِلَى مَرْكَبٍ جَدِيدٍ

قَمَرُ الكآبَةِ

وَفَيْلَقٌ مِنَ الجُنُودِ.

عَلَى مَتْنِ مَرْكَبِ “بْيِيرَا”

وَاحِداً تِلْوَ الآخَر، حُبِسْنَا

بَيْنَ نَهْرٍ مِنَ البَنَادِقِ

وَغَابَةٍ مِنَ القَلَقِ،

فِي الطَّرِيقِ إِلَى “وَادِي الذَّهَب”

نَحْوَ “لاَسْ بَالْماسْ” أَبْحَرْنا.

خَلْفَنا بَقِيَت العَائِلَة،

وَبَقِيَ الحُبُّ المَكْشُوفُ عَنْه.

يَا سَطْحَ مَنْزِلِي

وَيا زُقَاقَ حَيِّي الزّاهِي

إِذا سَأَلَتْ عَنِّي الرِّيَاحُ

فَقُولُوا أَنِّي قَدْ نُفِيت.
_________________

 

*مترجم وأستاذ باحث في الأدب الإسباني

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *