محسن الرملي*
من يتعرف على شاعر إسبانيا الكبير أنطونيو ماتشادو سيحضر في ذهنه شاعرنا بدر شاكر السياب، حيث الحساسية الشعرية المرهفة، وطغيان حضور الموت، وحنين استرجاعات الطفولة ومناجاة الأنهار والبحار والرحيل والفقدان، وفي النهاية، الموت خارج الوطن الذي أحب.
ولد ماتشادو في الأندلس، في مدينة إشبيلية 26 يوليو 1875م، وكان والده معروفاً باهتمامه بدراسة الشعر الشعبي والغناء والفولكلور الإسباني، وقد أمضى أنطونيو طفولته في إشبيلية حتى الثامنة من عمره ثم انتقلت عائلته إلى مدريد سنة 1883: «طفولتي هي ذكريات عن فناء دارنا في إشبيلية»، حيث أثرت عليه هناك ثلاثة عناصر رئيسية امتدت بتأثيرها إلى شعره، وهي: (الضوء والعطر والصوت). اشتركت هذه العناصر في تكوينه الشخصي والشعري، فحتى الأحلام التي كانت تراود الشاعر، كما يقول، هي عبارة عن مناظر طبيعية من النور والأريج والإيقاع تتفاعل فيما بينها برقة وشفافية، الأمر الذي ظل يفجر مكامن الشوق والحنين فيه إلى تلك الأجواء الشعرية الساحرة، البيئة الأندلسية الفاتنة.. إلى ذلك الفناء الإشبيلي وتلك الحديقة التي ظل يحن إليها كلما ابتعد، حتى تحولت إلى حديقة باطنية تنبت في وجدانه وتزهر، ليكتب حين كان في مدريد وسغوبيا أن:
«هذا النور من إشبيلية
حيث ولِدتُ مع حركة ماء النبع»
استقرت العائلة في مدريد ودخل مع شقيقه الأكبر، الشاعر المعروف أيضاً مانويل ماتشادو، إلى معهد التعليم الخاص فقرأ وحفظ الكثير من الشعر الكلاسيكي. توفي والده سنة 1893م وبعدها بعامين توفي جده فأثر ذلك عليه نفسياً وعلى العائلة اقتصادياً، فاشتغل أنطونيو في المسرح إلا أنه سرعان ما سافر ليلحق بشقيقه مانويل في باريس، وبعد إتقان اللغة الفرنسية أخذ يعمل كمترجم في دار نشر غارنير الفرنسية التي كان يعمل فيها شقيقه، وهناك تعرف على جانب من طبيعة الحركة الأدبية في عاصمة النور كما تعرف بعدد من المثقفين والكتاب المعروفين مثل أوسكار وايلد والشاعر الفرنسي بول فيرلان والفيلسوف هنري برغسون والكاتب الإسباني بيو باروخا، والكاتب والدبلوماسي الغواتيمالي إنريكة كاريليو وعدد من السورياليين الذين لم يستسغ طروحاتهم معتبراً إياها غير معقولة وأقل إنسانية، فيما كان يركز هو على الصدق الإنساني، وكتب عدداً من قصائده التي ضمنها لاحقاً في ديوانه الشهير (عزلات) الذي نشره حال عودته إلى مدريد سنة 1903م.
مرحباً أيها الحب
انتقل من باريس إلى مدينة صوريا حيث تم تعيينه لتدريس اللغة الفرنسية، وهناك بدأت مرحلة مهمة وعميقة في حياته، بعد أن تعرف إلى ليونور وتزوجها سنة 1909م وكانت هي فتاة جميلة في السادسة عشرة من عمرها، أحبها بقوة وسافر معها إلى باريس ولكنهما رجعا بعد أن دهمها المرض، ثم ماتت في صوريا سنة 1912 فحزن عليها أنطونيو حزناً شديداً.
«في أمسية صيفية
كانت الشرفة مشرعة
وباب بيتي مفتوحاً
دخل الموت إلى بيتي
وراح يدنو من سريرها
لم يلتفت إلي
وبأنامل رقيقة جداً
قطع شيئاً رقيقاً جداً..
بهدوء ودون أن يعيرني اهتماماً،
مر الموت جواري مرة أخرى.
ماذا فعلت؟
صغيرتي ظلت جامدة
وقلبي يتفطر.
آه.. إن ما قطعه الموت..
كان خيطاً بين اثنين».
لقد ساعدت السنوات التي قضاها في صوريا على بلورة شعره بشكل لا يتعارض وإنما يكمل ما سبق من تجربته في وحدة متجانسة ومتطورة، فإذا كانت إشبيلية هي جنة اليقين والطفولة الضائعة فقد كانت السبيل الحقيقي واليد التي تقوده إلى نقاء ذلك العالم العذري، ثم فيما بعد إلى النضج في صوريا التي كانت، بالنسبة له، هي «إسبانيا الحقيقية.. إسبانيا الحية، الإنسانية والحب…»، وبعد فقد ليونور طلب نقله إلى مدينة أخرى فنُقل إلى باييثا، وهي قرية في صوريا… ومر كل شيء كما مرت الطفولة فيجد الشاعر نفسه معزولاً فيها، حيث تخيم عليه، هذه المرة، إسبانيا الموت، في مجتمع غير إنساني كما كان يشعر به ماتشادو، مجتمع أناني وغير حقيقي، متعصب للقيم الزائفة، فيعتزل الناس ويقضي في تلك القرية ستة أعوام تقريباً، ينكب فيها على قراءة الشعر والفلسفة، غارقاً في وحدته ويناجيها:
«عجباً.. أيتها الوحدة، يا رفيقتي الوحيدة!»
أيّها الشعر.. كن لنا عزاءً
الوحدة التي تجدد التسلية عبر استعادة ذكريات الحياة الشخصية الماضية، حيث الحب للأرض والحب للمرأة.. الضائعين، فراح الشاعر يحل هذه المتناقضات ويبحث عن العزاء في الشعر الذي تأثر عنده بشكل إيجابي كبير فكتب ديوانين هما: (حقول قشتالة) 1917م و(أغنيات جديدة) 1917-1930م وكان يقول: «إن الخمس سنوات التي قضيتها في صوريا هي بالنسبة لي اليوم، مقدسة، فهناك تزوجت وهناك فقدت زوجتي.. تلك التي كنت أحبها، ومولعاً بها حد العبادة. لقد تفتحت عيناي وقلبي على ما هو قشتالي في جوهره».
ثم انتقل إلى مدينة سغوبيا وتعرف فيها إلى امرأة جميلة مثقفة هي بلار بالديراما التي كان يسميها في قصائده الأخيرة (غيومار)… وبعد إعلان الجمهورية سنة 1931م عاد إلى مدريد، إلى بيته القديم مع أمه وإخوته. ووقف بقوة إلى جانب الجمهوريين حين نشبت الحرب الأهلية الإسبانية في يوليو 1936م ولكن بعد أن سيطر الجيش بقيادة الجنرال فرانكو على العاصمة، هرب ماتشادو إلى بالنثيا ثم إلى برشلونة 1936م ثم إلى فرنسا مع والدته، فقطعا الحدود مشياً تحت المطر والبرد، وبعد فترة بسيطة من وصولهما مرض أنطونيو وتوفي بتاريخ 22 فبراير 1939م، وبعد أشهر قليلة توفيت والدته، وما زال قبراهما هناك في قرية كوينيرو الفرنسية قرب الحدود الإسبانية.
أيّها الماشي، آثارك هي الطريق
«الموت.. هل هو السقوط مثل قطرة من بحر
في المحيط الواسع؟
أم أن أكون ما لم أكنه،
شخص بلا ظل وبلا حلم
وحيداً أُغادر
بلا طريق ولا مرآة؟».
***
انتبهوا:
قلب وحيد
.. ليس بقلب
النحلة تغني
للوردة لا للعسل.
***
إن العين التي ترينها
هي ليست عيناً لأنكِ ترينها
.. هي عين لأنها تراكِ.
***
في عزلتي
رأيت أشياء بالغة الوضوح
.. أشياء غير حقيقية.
***
ابحث عن الآخر في مرآتك
لأن الآخر يمشي معك.
***
أقول حقيقة أخرى:
ابحث عن نفسك التي لم تكن ملكك يوماً
ولن تكونها أبداً.
***
حقيقتك؟.. ليست هي الحقيقة.
تعال معي نبحث عنها
واحتفظ بحقيقتك.
***
في وحدتي
أشعر بوجود أصدقائي معي
وحين أكون معهم
كم أشعر ببعدهم عني!
أعطيك نصيحة.. كشيخ:
لا تأخذ بنصيحتي أبداً.
***
دائماً، حين يرى بعضنا بعضاً
نتواعد على الغد
ولذلك لا نلتقي أبداً.
***
في بحر المرأة
قليلون يغرقون ليلاً
وكثيرون عند الفجر.
***
أيها الماشي، آثارك هي الطريق
ولا شيء غير ذلك
أيها الماشي.. ليس ثمة طريق
وإنما يتشكل الطريق عند المسير
وحين نلتفت إلى الخلف
سنبصر الطريق الذي..
لن نستطيع معاودة السير فيه أبداً.
أيها الماشي.. ليس ثمة طريق
وإنما مجرد خربشات على سطح بحر.
***
أنا لم أسع وراء المجد أبداً
ولم أقصد أن أزرع في ذاكرة الناس أغنيتي
إنني أطوف في عوالم بديعة
.. مهذبة ورقيقة
مثل فقاقيع الصابون
ويعجبني أن أراها تتلون
بالشمس والقرمز
وهي تطير تحت السماء الزرقاء
تتأرجح.. ثم فجأة
تتلاشى.
– الاتحاد الثقافي