عبر بثّ إذاعي منذ أعوام ، في تصريح للشاعر المغربي حسن نجمي،عقب صدور ديوانه “المستحمات” أكدّ أن عملية تشذيب القصيدة وتنقيتها من الزوائد التي قد تشوه حضورها كملكية للكل الإنساني فيما بعد لحظة الولادة،هي عملية يستحسن أن تتمّ في الذهن لا على الورق.
مما يعني أن شطب المفردات القاصرة والعاجزة عن لعب دورها شبه الكامل داخل حدود فسيفساء البوح،على نحو محقّق للوظيفة الأدائية المتناسقة والمتناغمة،إنما هو شطب وتقويم يستغرق مرحلة مخاض قبلية ممهدة لميلاد النص الورقي.
بحيث أن ما لا يصلح تتكفّل بإقصائه لحظة الانشغال الذهني، أما البياض فهو مستقرّ القصيدة المكتملة والناضجة.
بالطبع،سيقود هذا إلى حقول إبدالية للعتبة في المنجز الشعري الثاني للمتألق خليل الوافي،ويغري بإيحاءات النص الضمني والمجاور المكتوب صمتا و وجعا مضاعفا.
إنها كتابة اختراق وصولا إلى العمق والحدّ العاكس لتوأمة بين الثيمة والذات، ما ينمّ عن تجربة حقيقة صادقة غير مفبركة.
كتابة خارج الزمن ،ليست تنتمي إلى جيل بعينه دون آخر محدد، لذلك فهي تستدعي شخوصا غير معلومة وعبر ذوات تأنف عن تسويق الوهم أو ما تحتّمه أسلوبية التلاعب والتمويه والمراوغة حدّ إفساد البعد الرساليّ كأولوية يجدر أن تبزغ على حساب اللبوس الجمالي أحيانا.
زمن الكتابة يضيء أمكنة الخطاب ويحتوي جرح العروبة ها هنا تماما ،صانعا بذلك الصدى المطلوب ، باعتبار النسيان الوارد للتدليل على ذاكرة حادة لا تختبئ وراء الثقوب أو تتنكّر للرمز والموروث ،بل نلفيها تستثمرهما بشكل جيد وغرائبي .
هكذا تُستنفذ أو تكاد تجليات النسيان بوصفه قاعدة وبؤرة لتجديد خطاب الذاكرة،وأيضا ضربا من تجاوز وامتصاص لصدمة الاحتكاك بالواقع.
إنها مطالعة من قبل شاعرنا ،تصول في رحابها تقنية السهل الممتنع كالمعتاد، لتنسج ملامح عوالم طيفية ومحايثة لا تحاكي الراهن في غير نقاط الطرفاوي والعابر، تاركة مهامّ بصم التّتمّة لمخيلة المتلقي.
هكذا وكأنما عنوة ،والتزاما بوعي متّقد ، تُترك خلف تخوم الممارسة، بضع خيوط على عذريتها وفي الطرف الحرّ للعبة الكلامية ،قصد استنفاذ ألوان الماوراء ،تطلّعا إلى ذروة الإدراك الجمالي والقطوف المعلوماتية المهضومة، بأقل طاقة استيعابية ممكنة.
………..
” أرى أسراب الطير
تعود من جهة الشمال
توصي الفاتحين بعروبة الضاد..
في وشاح عروس
لم تفرح بعذرية الزغاريد
خلف الباب…
تبرأتُ من صمت القبيلة،
وأراني في عيون اليمامة
أنتعل حلم السفر.. ”
……………
” وأنا أتهجّى سفر النهاية
في أول البوح..
تراني ألملم وجعي
عاريا أخرج من صمتي
لم أدرك أني حي في حدود ذاكرتي،
وفي قصائدي العاجزة عن قول الشعر”
………………
” ــ قال :
أي شيء يكسر الموج
في تفاصيل النشيد.؟
ــ قلت : صمت الصدى
يردّد ابتذال الجسد..
صخب الروح
يعيد للتربة عبق الانتماء ”
…………….
” قريبة مني حدّ السيف؛
بعيدة عني حدّ الحيف.
أراها..
تمسح عن دمعي
ذبول الفراشات في يدي
ولي بوح متمرّد ”
……………..
” عفوك…
لا شيء يحملني إليك طاهرا:
جراحات الأمس؛
قصائد الصمت؛
وطن يبحث عن وطن. ”
……………..
“قلت لها:
دثّريني بالبياض
عسى وحي جنونك
يسلّمني إلى قافلة
تغيب في سراب القوافي.
هو..
لم يكن وحيدا
حين قابلته خارج الزمن ”
…………….
” ما زلت أرى
ما أراه الآن،
وأخجل مما تراه عيني.
ما ذا دهاك أيتها العير؟
لم أجد أثري على الرمل
حين وقفت على مضارب القبيلة
أبحث عن قلادة أمي
وأشيائها التافهة في ركن البيت،
وسيف جدي
ذاك الذي تزينه ألوان الصدأ،
وخريطة وطن
لا تحمل رائحة التراب..
لا تحمل سلالة دمي.”
…………..
” راحل يا أمي
في مدن المنفى
أعيد ترتيب بيت الوطن
في ذاكرة الطفولة
عابرا مسالك الصحو..
أطل على مشارف عربستان،
أصبغ وجهي
بوحل الطوفان.”
…………..
” صُكِّ الباب..
لي كل المنافي،
وأنا الوطن الضائع في السؤال،
أسال أرض الخراب
عن وجهتي .. ”
……………
” هذا أنا.. بالعربي،
أنفث الزهر على مقابر الجبل
كلما ابتعد الصيف بعيدا
خلف مدار المطر.
أتهجى رماد الثلج،
أرسم سويداء ليل
يركب بياضه الأبدي
في انحصار الماء.
أطل على ذكرياتي القديمة
في دفاتر لا يعرف
أقالها غيري.
وهذا أنا .. بالعربي،
أصنع من لغتي
وسادة قبري.”
إنها شعرية انسجام تام مع الذات وشتى عناصر الطبيعة والوجود،في استفزاز صارخ للقرين بلسان كامن و فعل فردوسي للغة العارية المكشوفة.
تلكم مؤشرات تقليص الهوة بين الذاتي والموضوعي، قدر الإمكان بالاتكاء على تنويعات إيقاعية سابحة ضد تيار تضخّم الأنا، تبعا لخارطة طاعنة بلذة الحرف في عنفوانه ولملمته لهواجس هوياتية متناصة مع زخم المقاربات المفجّرة لحس الانتماء لقضايا العروبة المصيرية والكبرى.
إنه نص النّفس الملحمي يمليه حيز الانتشاء بتاريخ المجد الضائع،يحاصر اللحظي في مضايق معينة ويختزل المعنى فيها وفاء للهمّ الجمعي المترجم لذات التعدّد في واحديتها،واطرادا مع انتشار طقوس تشخيصات ومعالجات نسقية تروم فلسفة خلاص الواقع والإنسان.
حقا، ما أجمل البياض حين يُبطَنُ بنبرة هادئة ودفينة ومتمرّدة تغالب صوت الانهزامية وتنبش مشاكسة مرايا الآني المهشّمة ومستحضرة لطفولة بعيدة جدا ومقيمة تضيء المسافة نحو سماء الحلم المشروع.
كذلك هي فلسفة الحدس المعلنة في نصوص منطلقة من ذاكرة قوية يقول صمتها كل شيء تقريبا،موبخة عالم المفارقة المصطبغة بعذابات المنفى الروحي، تجترحها كتابة المحو منتجة للمشاهد الطافحة بجرحنا الوجودي.
أنامل إرباكية مثلما تباشر تشكيلها دغدغة التجربة ملء حواسّ عطشى لفوضوية الطّرح المزدان بتحولات المعنى وتناسل الدلالة.
إليكم نكهة ” صدى النسيان ” لمن أراد دخول حانات ثمالة الحرف الناري والمقنّع بإرهاصات الذات المتهكمة من كل شيء.
كمنجز باذخ الذي يختصّ بخطاب صور الذاكرة ، هذا الغائب/الحاضر بكل ثقله فينا، كجيل للهزائم والانكسارات.
_________
*شاعر وناقد مغربي