صدرت النسخة المترجمة بالهولندية من رواية “مياه متصحرة” للروائي حازم كمال الدين عن دار بولس البلجيكية، ترجمتها ساره ميخائيل تحت عنوان “فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي”.
مات حازم كمال الدين. قتله الإرهابيون أم مات في قصف أمريكي؟ لا أحد يدري. إبان حكم الديكتاتور صدام حسين كان حازم هو المخرج الشهير لفيلم “فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي” وهو الفيلم الذي حصد جائزة الديكتاتور الكبرى. في الأصل تعرّض حازم في ذلك الفيلم بالنقد لصدام حسين، بيد أنّ الرقيب تدخّل وحوّل النقد إلى قصة مديح إعلامية لصدام. عندما كان على قيد الحياة لم يكن لدى المرحوم حازم كمال الدين أصدقاء كثر. ولكن ما أن غادر عالمنا حتى ازداد عدد أصدقائه وأصبح غير قابل للعد.
في ذات الوقت تسبّب موته بشجارات عائلية. ففي أي مقبرة سيدفنون ذلك الملحد اليساري. “فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي” رواية رائعة يرينا فيها حازم كمال الدين، الكاتب الذي مازال حيا ويتمتع بصحة جيدة، كيف يمكن للخيال أن يكون أكثر إقناعا من الواقع. كل شيء في عالم “فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي” يغدو رمادا نتيجة الحرب، ماعدا الذكرى. ذكرى ما كان يوما إنسانيا وخفيف الظل، وهو الأمر الذي يرسم من خلاله حازم كمال الدين مصير بديله الميت في الرواية. ولد حازم كمال الدين (1954) في بابل. أواخر سبعينات القرن الماضي هرب من العراق، بعد أن تعرّض للتهديد والاعتقال والتعذيب. كان قد قدّم عرضا مسرحيا ساتيريا تسبّب في الحكم عليه بالإعدام غيابيا. بعد ترحال طويل حطّ في بلجيكا وأصبح مديرا فنيا لمحترف صحراء 93 ولجماعة زهرة الصبار. عام 2014 فاز بجائزة أفضل مؤلف مسرحي عربي لذلك العام في مسابقة التأليف المسرحي التابعة للهيئة العربية للمسرح. حازم كمال الدين عضو الهيئة التنفيذية لفرع مؤسسة القلم PEN القسم الفلاماني لبلجيكا، وهو يعيش ويعمل في أنتوربن.
حازم كمال الدين عن مخاضات فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي:
على ماذا استندتَ في كتابة راوية فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي؟
بطبيعة الحال حاولت أن أكتب أدبا منطلقا من تجربتي الشخصية. لكنني في نفس الوقت، وللأغراض الروائية، أعدت قراءة نصوصي المسرحية القديمة، ثم اعتمدتُ على الأرشيفات العراقية والمصرية والفلسطينية. بدأت العمل على الرواية عام 2013، يوم قدّمت ترجمة لنص آخر لأحد الناشرين العرب. ولأنه كان مجبرا على أخذ الرقيب بالحسبان اشترط عليّ تعديلات جذرية في النص. وهكذا تتابعت دورات التعديل واحدة بعد أخرى. تحولت الشخصية الرئيسية إلى شخصية نسائية. ممثلة يسارية تصاب بمرض الغدة الدرقية الذي يؤدي إلى تساقط شعر رأسها حد الصلع، ما يجبرها على ارتداء غطاءٍ للرأس، هي التي كانت فرعاء في الماضي. باختصار شديد، كانت التغييرات التي طرأت على النص عميقة.
وعندها ابتدأ العمل الحقيقي. رميت بنفسي في دوامة الكتابة، قلبت كل شيء على بطانته، صرتُ أكتب بصوت امرأة، أو على الأقل هذا ما كنت أشعر به. أصبحت أتحرك أثناء الكتابة بطريقة مختلفة، بطريقة تجريدية. تحول العمل إلى طقس، إلى مسرح احتفالي. كنت أشعر وكأنني أتمرن على عرض مسرحي وأبحث له عن مكان للعرض. عندما أدركت أنني أكتب نصا جديدا أصابني الشلل التام.
وكيف بدأت من جديد؟
بعد أشهر توفي فجأة واحد من أعز أصدقائي، الشاعر والفنان التشكيلي العراقي حمادي. كان موته أكبر صدمة في حياتي، على الرغم من أنني لم أخل من تجارب الموت، كما يمكنك ملاحظة ذلك في “فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي”. قبل وفاته ذهبنا، صديقي المصور العراقي كريم إبراهيم وأنا، إلى المستشفى الجامعي في مدينة خينت لعيادته. من شدة ارتباكي لم أصدق الأطباء وهم يخبروننا أن حمادي ميت سريريا. لقد كان خاضعا لجهاز تنفس اصطناعي، بيد أني رأيتُ صدره يرتفع ويهبط فتقدمتُ وصرت أعيط بوجهه أن عليه الاستيقاظ. ظنّ الأطباء أني جننت. بعد يوم، وبعد أنْ أوقفوا عملية التنفس الاصطناعي، ذهبنا إلى مستودع الجثث. هناك كان صديقي مسجى. لن أنسى تحية الوداع تلك أبدا. لقد بدا لي وكأنه نظر بعينين مغلقتين. تلك الصورة هي من صنع “فتنةٌ تضجّ بي حتى يوم مماتي”. لنصف عام بقيت أسيرا لذلك الشعور الغامض بالذنب. كان عليّ أن أكتب. أن أكتب كما لو كان الموت في أعقابي، بحسب كلمات ريلكه. وماذا ستفعل ابنتي الصغيرة إذا ما استيقظت صباحا ووجدتني فاقدا للحياة؟ كيف سيتم توزيع الميراث على أطفالي؟ هل من طريقة لتجنب دفع ضريبة الميراث؟ وأرشيف مخطوطاتي؟ طلبتُ من الجيران أن يطرقوا بابي إذا لم يروني لمدة يومين. طلبت من صديقي الشاعر العراقي ماجد مطرود أن يتلفن كل صباح لكي يتأكد أني ما زلت أتنفس. استنسخت أعدادا كبيرة من مفتاح بيتي ووزعتها على معارفي. من حزيران 2014 حتى كانون الثاني 2015 كنت أحيا ميتا. كلما وضعت رأسي على الوسادة، كنت متأكدا أني لن أستيقظ غدا. وهكذا الحال حتى تمكنت من الانتصار على الشعور بالذنب ومعاودة كتابة الرواية للمرة الألف.
دون سابق إنذار أدركتُ ذات لحظة بأني يجب أن أموت في الرواية.
أخيرا!
أنا هو بطل الرواية الميت.
أنا هو الرجل الذي تناثرتْ أشلاؤه، الذي يرى نفسه يموت، كمثل تجارب العائدين من الموت. لقد جعلت من نفسي شخصية ميتة في رواية على قيد الحياة، متتبعا يوليسيس. كتابي أصبح مبنى جديدا مشيّدا على دعامات قديمة، أصبح جديلة من الجديد والقديم، الأمر الذي تراه كثيرا في مدينتي الجميلة أنتوربن. هل يمكن هذا؟ تساءلتُ مع نفسي. ومرة أخرى قرأت فاوست كريستوفر مارلو وفاوست ولفجانج جوته وفاوست بول فاليري، وما فعل الآخرون بأوديب كمثل سوفوكليس، وسينيكا، وتوفيق الحكيم وأندريه جيد. وهكذا واصلت الكتابة، نسخة بعد أخرى، حتى تمكن ناشري من إقناعي بأنّ “الفتنة التي تضجّ بي حتى يوم مماتي” قد اكتملت.
ما كتبته الشاعرة والروائية يوكه ﭬان لايون شاعرة الأراضي الخفيضة في بلجيكا وهولندا عن الرواية:
من ذلك النزر الذي قرأته لحازم كمال الدين باللغة الهولندية، أثارت انتباهي قوة نصوصه، وطريقته الخاصة على صعيد الشكل والمحتوى، وخفة الظل الذكية من شخص تخضع كتبه للرقيب في وطنه نتيجة لتفكيره المستقل. لديّ فضول كبير للكتاب القادم الجديد. إن الشك لا يراودني إنّه سيفاجئني مرة أخرى ويسحبني إليه”.