يوليسيس… جيمس جويس

*مراجعة: فرانك ماغيل / ترجمة: هديل الدغيشم

يوليسيس عملٌ روائي من كتابة الكاتب الإيرلندي جيمس جويس (١٨٨٢-١٩٤١)، ويدخل تحت تصنيف الواقعية النفسانية. ويعتبر استكمالًا لقصة ستيفن ديدلوس التي رُويت في رواية ”صورة الفنّان في شبابه“، وبُنيت تلك الرواية النفسانية البارزة على متوازيات هومر؛ لذا فإن تفاصيل اليوم الواحد- بأحداثه، وشخصياته، ومشاهده- في دبلن عام ١٩٠٤ م. تبدو مطابقة لتلك التي في أسطورة الأوديسة.

الشخصيات الرئيسية

ستيفن ديدلوس: شاب إيرلندي مُختال وحسّاس، يمتهن مهنتي الكتابة والتدريس. ويسميه أحد أصدقاءه ”كينش“ (مستقيًا الاسم من كلمة كينشن، والتي تعني الطفل). يتفحّص ستيفن جميع مراحل وجوده في رحلته للبحث عن طبيعة ومعنى الحياة. فالتاريخ بالنسبة له كابوس يحاول الاستيقاظ منه، فإنه حين يسترجع ماضيه وطفولته لا يتذكر إلا فقر أسرته، وإدمان والده على الكحول.  ولم يكن عشقه لموطنه إيرلندا إجابة شافية لرحلة بحثه، إذ لا يراها سوى خنزيرة عجوز تأكل جراءها. حتى عقيدته لم تكن كافية لجعل الحياة هادفة. لا يستطيع ستيفن فضّ ذكرى صلوات والدته وهي على فراش الموت؛ وهو يعبّر عن معتقداته وعجزه عن الانصياع لطلبها، مما أشعره بالقلق وجعله سابحًا في الندم. ترمز شخصية ستيفن إلى تليماخوس، الابن الباحث عن والده. في الواقع، يجد ستيفن رمزًا للأبوة في شخص الكهل ليبولد بلوم، الذي وجد الشاب (ستيفن) متورطًا في عراك مع جنود بريطانيين، وخلّصه من شراكهم واعتنى به. غير أن ستيفن رفض دعوة بلوم للعيش تحت كنفه، وخرج متسكعًا في شارع حالك الظلمة، واتجه إلىالبرج، حيث يعيش أسلوب حياة فاجر بصحبة بعض الشباب والطلبة الذين يعرفهم.

ليبولد بلوم: مسوّق إعلانات تجارية يهودي، ويمثل- رمزيًا- شخصية يوليسيس والد تليماخوس. أما توْقه للابن فينبعث عن فقدانه لابنه رودي، منذ زمن بعيد، وهو وليد عمره أحد عشر يومًا. ويعدّ زوجًا صبورًا، تقيم زوجته علاقة محرمة مع مدير أعمالها، إلا أنه بالتالي يقيم علاقته الغرامية ويخفي حقيقتها. يعكس بلوم دور أي رجل يتماشى بتثاقل مع رتابة الحياة اليومية؛ يرتاد الحانات، والمطاعم، ومكاتب الصحف، والمستشفيات، وبيوت الدعارة في دبلن. كان يتمنى الخروج عن المألوف، إلا أنه كُتب عليه أن يتصالح مع أسلوب الحياة الحقير.

مالتشي موليغان: يدُعى “بَك” طالب طب وصديق لستيفن، دائمًا ما يبرز فلسفات ستيفن وآراءه. ويتعارض كلا الرجلين حيث أن أحدهما له فكر علمي والآخر فلسفي. تدريبه الطبي أورثه روحًا غليظة لا تأبه بالموت والمعاناة، قائلًا بأن الموت مجرد أمر بغيض لا أهمية له. ويرى بأن عقيدة ستيفن ليست سوى طُرفة، ولو لم تكن كذلك للبّى نداء والدته للدعاء لها، ويشكّ أيضًا بأن ستيفن سيؤلف أي مؤلفات وكتب ناجعة. مثله الأعلى الطبيب والشاعر الإيرلندي أوليفر جون غوغارتي.

ماريون تويدي بلوم: تُدعى مولي، وتختلف أصولها تمامًا عن زوجها. ترعرت مولي في موقع عسكري في غيبرالتر، وبطبيعتها المُترفة ولكونها مغنية من الدرجة الثانية، فهي ترى بأن الحياة مع زوجها في دبلن باهتة ومملة، لذا تحاول مولي الهروب عن الواقع المضجر باللجوء إلى العلاقات الغرامية مع رجال آخرين. وآخر علاقاتها الغرامية كانت مع شاب فحل يُدعى بليز بويلان. وأشعرها اقتراح زوجها بأن يعيش ستيفن معهما بقشعريرة، متأملة ببهجة فكرة تواجد شاب معهما في المنزل. وتشكّل أفكارها وأحلام يقظتها الجزء الأخير من الكتاب، حيث أنها لا تفكر إلا في الحاضر، غير أنها بدأت تستذكر بشغف حادثة  جنسية حدثت لها في فتوتها. وترمز إلى بينيلوبي بالنسبة إلى يوليسيس بلوم.

بليز بويلان: عشيق مولي ومنسق رحلاتها الفنية، إلا أن خدعة العلاقة العملية بينهما لم تنطلي على بلوم.

هاينز: شاب إنجليزي يعيش في برج بصحبة ستيفن، وبَك، والطلبة والفنانين الآخرين. انغماسه في الكحول والعلاقات الإباحية دفع ستيفن الزاهد إلى الانعزال أكثر من ذي قبل. ولأن حالة هاينز المادية ميسورة أكثر من البقية، فقد كان ضحية لتهكمهم.  وهو معادٍ للسامية ويخشى أن يحتل اليهود الألمان بريطانيا.

بادي ديغنام: صديق بلوم، يموت متأثرًا بجلطة.

الأب كوفي: من يتولى مأتم بادي دينغام.

السيدة برين: إحدى الجارات التي يروي لها بلوم موجز مأتم دينغام.

السيدة بورفوي: جارة أخرى، تقول عنها السيدة برين بأنها في مستشفى الولادة. كانت زيارة بلوم للمستشفى للسؤال عنها سببًا في لقاءه بستيفن، حينما كان الأخير يشرب مع عدد من طلاب الطب.

دافي بيرنز: صاحب حانة فريدة، يرتادها مختلف الناس لمناقشة العديد من القضايا.

بارني كيرنان: صاحب حانة أخرى، يتشادّ فيها بلوم كلاميًا مع رجل إيرلندي وطني، ويُطرد منها.

السيد ديزي: مدير المدرسة التي يعمل فيها ستيفن، يقيّم مهارات ستيفن ويخبره بأنه طالب علم أكثر من كونه معلم. وفي التأسي على توافد اليهود إلى بريطانيا، يبيّن ديزي لستيفن بأن إيرلندا هي الوحيدة التي لم تؤذ اليهود، ذلك أنها لا تتيح لهم الدخول إليها.

تالبوت، وكوشرن، وآرمسترنغ، وكومين، وإيدث، وإيثل، وليلي:  بعض طلبة ستيفن الذين، بتبلدهم ولا مبالاتهم، يسببون إحباطًا لمعلمهم الشاب، وذلك بدوره يزيد من احتمالية نقد ديزي لأداء ستيفن.

ميلي: ابنة بلوم، إلا أنها لم تغنه عن توقه وشوقه للابن، ولم تكن سببًا لكبح رغبات مولي وميولها إلى العلاقات الغرامية، أو تحررها من الشعور الضجر.

غيرتاي ماكدويل: شابة تستعرض نفسها أمام بلوم على شاطئ صنداي ماونت.

مايلز كرافورد:  محرر صحفي.

الحكاية

في صباح السادس عشر من حزيران/ يونيو ١٩٠٤م. صعد بَك موليغان سُلّم البرج العتيق وأعدَّ نفسه للحلاقة، وبعد لحظات انضم إليه ستيفن ديدلوس وصعد قمة السُلّم وصار يتأمل خليج دبلن. عندما تحدّث موليغان عن تلألؤ البحر صباحًا وانعكاس شُعاع الشمس؛ لاحت لستيفن ذكرى والدته فجأة، فقد دُعي للعودة من باريس قبل وفاتها بعام. واسترجع ذكراها حينما كانت تتوسّل إليه للدعاء لروحها، لكنه قابل إلحاحها بالرفض، اعتراضًا على تعاليم الدين والكنيسة التي غمرته في فُتُوَّته.

وبعد تناول الإفطار، ذهب ستيفن وموليغان صحبة الشاب الإنجليزي هاينز للتسكع، وبالرغم من محاولات ذلك الأخير لإظهار ودّيّته إلا أن ستيفن لم يطيقه، حيث كان هاينز يمضي ليالٍ عدة منهمكًا في الشراب. بدأ ستيفن يشعر بأن حياته بدت بلا جدوى واتخذت منحنىً منحلًا، بصحبة موليغان ورفاقه طلبة الطب.

كان ستيفن معلمًا، ولأنه كان يوم إجازة فقد كان الصِبية ضجرين، إلا أن أحد طلبته الصغار كان عاجزًا عن حل المسائل الحسابية البسيطة، ولبرهة، رأى ستيفن صورة طفولته الحرجة في ذاك الصبي. وتنفس الصعداء عندما أنهى الدرس وأذن بالانصراف.

ذهب ستيفن لاحقًا يتجول على الشاطئ وحيدًا، ويفكر بماضيه وأمسه؛ بالأدب وبأيام دراسته، وتعاسته في دبلن، وعوزه المادي، وغرق أسرته في فاقة شديدة بينما يداوم والده النبيل برثاثة هيئته على ريادة حانات دبلن بشكل يومي. وبينما يواصل ستيفن مسيره، رأى جيفة كلب تطفو على السطح، سرحت به إلى طفولته حين أرعبه كلب شارد؛ فظنّ ساخرًا بأنه لم يكن من أبطال إيرلندا.

وفي تلك الأثناء، نهض ليبولد بلوم من فراشه متثاقلًا ليُعدّ إفطار زوجته. إن بلوم، اليهودي الذي يعمل مسوّقًا للإعلانات، يتسم بحلمه على زوجته منذ ستة عشر عامًا ويبدو حُزنه جليًّا للعيان، حيث كان يعلم بعلاقتها الغرامية بمنسق حفلاتها الرياضي الإيرلندي بليز بويلان. على كلٍ، تناول بلوم إفطاره وقرأ برقية من ابنته ميلي، التي كانت تعمل في متجر للتصوير في مولينغار. استرجع على إثرها ذكرى ابنه رودي، الذي وافته المنية وهو وليد يبلغ من العمر أحد عشر يومًا. وأعاد بلوم قراءة البرقية مُتسائلًا عن طالب شاب ذكرته ليلي، وللحظة، جزع خوفًا من أن تسير ابنته على خطى والدتها.

خرج بلوم للتنزه كعادته الصباحيّة، وتوقف عند مكتب البريد لاستلام برقية مُرسلة إلى ”المحامي هنري فلاور“ من سيّدة يُظهر توقيعها بأن اسمها مارثا. عاد بلوم إلى منزله واستهل قراءة البرقية، إلا أنه كان تعِسًا لقراءته غزلًا لم يكن موجهًا إليه. ذهب بلوم مُتلكئًا إلى كنيسةٍ ما واستمع إلى جزء من القداس، ثم انضم إلى جماعة نائحة في طريقها إلى مأتم صديق قديم، يُدعي بادي ديغنام، توفَّي متأثرًا بسكتة. وأثناء المأتم، تأمل بلوم الأب كوفي، الذي بدوره أعاد إليه ذكرى نجله الصغير رودي ثانيةً، ووالده الذي كان ضحية انتحار.

أمّا بالنسبة ليومه العملي، فقد كان يجري مكالمة في المكتب الصحافي ليُنسق لطباعة إعلانٍ ما، وبينما كان يمضي وقته هناك رأى ستيفن وتبادلا النظرات، إلا أنهما لم يحاولا التحدث معًا. غادر بلوم مبنى الصحافة متجهًا إلى جسر أوكونيل، وصادف السيدة برين في طريقه ووصف لها باقتضاب مأتم دينغام، وأطلعته بدورها على أن السيدة بورفوي كانت في مستشفى الولادة في شارع هولز. واصل بلوم مسيره، متأملًا دبلن في يومٍ صيفي، فدخل حانة دافي بايرن وطلب شطيرة بالجبنة. وذهب لاحقًا إلى المكتبة الوطنية للإطلاع على ملفات بعض الصحف. مهتاجًا ومتأثرًا بالكحول التي تناولها على الغداء، بدأ بالحديث بإسهاب وتفصيل لبَك موليغان وبعض الأصدقاء الأدباء عن نظريته العبقرية حول مسرحيات شكسبير، و”ثاني أفضل سرير“ المذكور في وصية شكسبير. ومرة أخرى رأى بلوم وستيفن بعضهما لكن لم يتحدثا.

وفي يومٍ صيفي، ذهب بلوم إلى فندق أرموند ليتناول الغداء، ورأى بليز هناك يخرج على عجلة من أمره حيث كان على موعد مع مولي. وفي ظهيرة ذلك اليوم اشتبك بلوم في نزاع في إحدى الحانات، حول المال الوفير الذي ربحه بليز بويلان نتيجة فوزه في مباراة ملاكمة. هرب بلوم من ضجيج الزحام وذهب يتمشى على شاطئ صنداي ماونت.

ومع حلول الشفق رأى بلوم الفتاة غيرتاي ماكدويل، ثم قرر الرحيل بطلوع القمر، وارتأى له أن يقف هنيهة عند المستشفى ليسأل عن السيدة بورفوي. وأثناء مشيه بتباطؤ على امتداد الساحل سمع رنين ساعة الوقواق في الساعة التاسعة ينبعث من منزل البابا، وفجأة تذكر بلوم بأن زوجته تخونه مرارًا بينما هو غافل سابحٌ في أحلام يقظته، يتأمل دبلن وشاطئها. وصل بلوم إلى المستشفى وعلم بأن السيدة بورفوي لم تلد بعد. ومرة أخرى رأى ستيفن هناك، يشرب برفقة بَك ماليغان وبعض طلبة الطب، وساءه بأن يرى نجل صديقه القديم- سيمون ديدلوس- مع رفقة تغمرها البذاءة والانحلال. ثم انضم بلوم إلى الشباب وذهبوا سويّة إلى حانة قريبة، حيث حصل شجار هناك بين ستيفن وبَك ماليغان وهما في سكرتهما حول أحقية امتلاك مفتاح البرج القديم؛ سبب ذلك تفكك المجوعة. حينها ذهب ستيفن وأحد طلبة الطب إلى بيت دعارة في أحد الأحياء الفقيرة في دبلن، وتبعهما بلوم بخفية، ثم سَكِروا جميعًا. وأبصر بلوم زوجته وبليز بويلان في وضعية شنيعة مُخلة، وفجأة في الناحية الأخرى، توهجت لدى ستيفن ذكرى والدته وهي على فراش الموت تتوسل إليه بأن يدعو لها، وخرج ثائرًا يركض بين الشوارع وصادف جُنديين بريطانيين فاشتبك في عراك معهما، حتى خلّصه بلوم واصطحبه معه إلى المنزل.

مُتأثرًا ومُنهكًا بليلته الكالحة، بقي ستيفن صامتًا وتبدو على قسماته علامات التجهم بينما كان ستيفن يتحدث عن العلم والفن، وتوّسل بلوم إلى ستيفن بأن يبيت تلك الليلة معه في المنزل وأن يتخلى عن بَك موليغان ورفاقه المتوحشين ويأتي للعيش معه، إلا أن ستيفن رفض، وخرج في عتمة الليل وسكونه الذي لا يقطعه سوى صوت أجراس كنيسة سانت جورج.

أما بلوم فقد ذهب إلى فراشه متثاقلًا، وعندما أخذه النعاس قال لمولي بلهجة حادّة بأن عليها أن تستيقظ باكرًا لتُعدّ إفطاره. بينما بقيت مولي مستيقظة طوال الليل تسرح بأفكارها عن بليز بويلان، وتفكر بغموض الجسد البشري وتعقيداته، وبالناس الذين عرفتهم مدى حياتها، وبفُتُوّتها التي أمضتها في موقع عسكري في غيبرالتر، وفكرت مليًا باحتمالية انضمام ستيفن للعيش معهما. غير أن ستيفن كان كاتبًا يافعًا نقيًا، ليس لعوبًا مثل بويلان. وبينما هي غارقة بأفكارها سمعت صوت صفارة القطار المجلجل، وارتسم لها ماضيها وعُشاقها القدماء، وعلاقتها الغرامية ببلوم قبل الزواج، وبالزهرة التي جمّلت شعرها عندما تقدم بلوم لخطبتها تحت قوس مغربي. تدفقت تلك الذكريات الشجية البينيلوبيّة، بينما في الجانب الآخر يغرق بلوم، الذي يرمز ليوليسيس وحقارته، في النوم وشخيره يملأ الغرفة المظلمة.

قراءة نقديّة

رواية يوليسيس هي محاولة- يتيحها الخيال الأدبي- لاستحضار الحياة في زمن ومكان بعينهما، حيث تدور أحداثها في أحد أيام عام ١٩٠٤ م.  في مدينة دبلن؛ في أزقّتها وشوراعها، ومنازلها، ومتاجرها، ومكاتبها الصحافية، وحاناتها، ومستشفياتها، وبيوتها الدعارية، ومدارسها. وتُعتبر استكمالًا لقصة ستيفن ديدلوس التي رُويت في رواية “صورة الفنّان في شبابه”، بالإضافة إلى كونها سلسلة من متوازيات هومر البارزة، باستقاء شخصياتها ومشاهدها من دبلن لتكون مماثلة لتلك التي في أسطورة الأوديسة. فيمكن بسهولة الإدراك بأن بلوم يمثّل دور يوليسيس، وزوجته مولي تمثّل دور بينيلوبي، وستيفن ديدلوس يمثّل دور تليماخوس- ابن يوليسيس- أما في رواية جويس فهو الابن الروحي لبلوم. وكُتبت الرواية بأساليب وتقنيات روائية مختلفة؛ من أهمها أسلوب تداعي الأفكار والذي لم يحاول فيه جيمس جويس أن يعيد إنتاج معالم، وأصوات، وروائح دبلن فحسب، بل غطى أيضًا الذكريات والمشاعر التي تحويها، والرغبات التي تعتري الناس المُكبلين بسآمة العالم الحديث.

عند تناول رواية يوليسيس لأول مرة، على القارئ أن يُجاهد لإكمال القراءة. فعندما يتشتت التركيز- يستمر لصفحات أحيانًا- فمن الأفضل المثابرة والاستمرار، ومن الضروري أن يدرك المرء بأنها رواية تُعاد قراءتها. حيث أن العديد من أحداثها وعواملها لن يتسنى فهمها إلا بعد المضي في القراءة،فعلى سبيل المثال، تميمة البطاطس التي يملكها بلوم وتُذكر في الحلقة الرابعة لن يتضح تفسيرها إلا في الحلقة الخامسة عشر، تاركةً القارئ يتيه في النص بشكل عشوائي. إلا أن القارئ المُثابر سيرى بأن الرواية سُبكت بتعقيد.

قدم جويس بذاته وسيلة لفهم تركيب النص في مخططين متشابهين، ويرى بأن من ينوي تأويل وشرح يوليسيس فإن عليه إدراكهما. يبيّن هذان المخططان عنوانًا لكل حلقة من حلقات الرواية الثمانية عشر يكون مماثلًا لإحدى حلقات الأوديسة؛ فمثلًا: وقت محدد من اليوم، ولون مُهيمن، وتقنية الكتابة (الأسلوب في حلقة بعينها. فمثلًا: ”السردي، الشاب“، ”التعليم المسيحي، الشخصي“، ”المونولوج، الذكر“)، وفن مُهيمن (التاريخ، والأدب، والفلسفة)، وأحد أعضاء الجسم، ورمز مُهيمن (في الحلقة الأولى ذكر هاملت، وإيرلندا، وستيفن)، وتشابه بين شخصيات هومر وجويس. ويمكن الحصول على هذين المخططين بشكلهما الكامل والحصيف في كتاب ريتشارد إلمان ”يوليسيس على ضفاف الليفي“.

كانت تلك المخططات سلاحًا ذا حدين لنقد جويس، حيث بدت أحيانًا غامضة وعصيّة على الفهم، غير أنه من الصعب التفكير بهامة أخرى من هامات الأدب تأثر نقاده بهذا القدر بإضافة خارجية. فعلى الأقل يقدم المخططان كشفًا للجوانب الأهم والأكثر جدلية في الكتاب، ألا وهي: متوازيات هومر، ونظرية ستيفن حول شكسبير والفن، وأسلوب الحلقات المُتبع.

وبُعيد نشر يوليسيس، أشاد ت. س. إليوت بمتوازيات هومر، قائلًا بأن ”لها أهمية اكتشاف علمي“. ويتضح من مُخططي جويس وملاحظاته أنه اهتم بالمتوازيات بجديّة بالغة لم تصل إليها حتى متجانسات هومر التفصيلية، ويرى إليوت بأنها محيط لإبراز ”صورة العبث الهاءلة للعالم الحديث“.

لطالما كانت شخصية يوليسيس بطل جويس المفضل في طفولته، حيث كانت سمة الكمال هي ما تفرد به عن أبطال الإغريق، ولاحظ بأن يوليسيس كان أبًا، وابنًا، وزوجًا، وعاشقًا، وجُنديًا فرّ من الحرب ذي بدء، ثم صار نسرًا. وعلى الرغم من أنه نموذج مثالي غريب، إلا أنه يلمّح لهدف جويس؛ حيث تُشكّل قصة يوليسيس [في الأوديسة] عرضًا شاملًا لتعقيد القيم والسلوكيات، واستطاع جويس استخدامها بحذاقة ليكوّن تركيب القصة الحديثة على غرارها. ومما لا شك فيه أن الأوديسة ذاتها تأثرت بآراء هومر الحدسيّة حول طبيعة الحياة، وبشكل عام تتماثل هذه الآراء مع تلك الأخرى لدى جويس، إلا أن الأخيرة تنحرف أحيانًا كثيرة عن قصة هومر، ويوحي ذلك بوجود بُنية نصيّة أخرى تحت بُنية هومر، مما يجعل العملين نُظما بأسلوب أشبه بالعملية التوافقية لفرضية رياضية.

إن هذا النموذج ”المتكامل“ البطل الذي ”تجاوز“ يوليسيس نفسه  يمثل الشخص المعنوي الذي تعود إليه ”أعضاء الجسم“ التي ذُكرت في المخطط، ويدعم المخطط الاعتراض العام القائل بأن توزيع الجوانب المناظرة لعمل هومر ليس مطابقًا له تمامًا. ففي حقيقة الأمر، بلوم وستيفن ليسا إلا ”صورة عامة“ عن يوليسيس وتليماخوس، وتبيّن المتناظرات المحصورة في المخطط بأن ستيفن في الحلقة الأولى هو تليماخوس، بالإضافة إلى أنه هاملت أيضًا، وفي الحلقة التاسعة يمثل يوليسيس دور “المسيح، وسقراط، وشكسبير“، ولكل منهم أهميّته. وعلاوة على ذلك، يمكن الإشارة إلى أن ستيفن يمثل صورة شابة ليوليسيس أكثر من تمثيله لتليماخوس والذي يعتبر شخصية ثانوية بالنسبة إلى هومر، وبالتالي يمكن الاستنتاج بأنه لا يوجد تجسيدًا كاملًا لشخصيات هومر، بل يُعدّ تلاعبًا بالأدوار يُشير إلى جوهر الإنسان ”يوليسيس“ المجرد الذي لا ينتمي إلى هومر فحسب، بل إلى جوهر وموضوع يوليسيس بأكمله.

وتحتضن الحلقة التاسعة بعنوان ”سيلّا وكاريبديس“* نظرية ستيفن الجماليّة، إذ قُدّم العمل باعتباره مَثَلًا لإبداع فني بُني على سيرة شكسبير. إن الأسلوب الذي عمل به ”يوليسيس“ في المخطط معقد بعض الشيء؛ يتجلى من المخطط أن سيلّا تأخذ دور ”الحجر، أرسطو، المبدأ“ وأن كاريبديس يمثل ”الدوّامة، أفلاطون، التصوّف“، ويتحتم على ”يوليسيس“ بأن يُبحر بين هذه المخاطر ويُعطى حينها أدوار ”سقراط، المسيح، شكسبير“. وصُوّر هذا الجانب من ”يوليسيس“ بوضوح في ممارسات ستيفن، بينما لا وجود يُذكر لبلوم، حيث أنه الإجراء الذي يجب على الفنان اتخاذه. واشتمل على الغوص والخوض في أعماق العوالم الداخلية والخارجية لتجاربه الشخصيّة، مستنهضة صراعًا بين تخبّط الحياة اليومية وبين الجُبلة الأزلية والمتكررة في نفس الفنّان. وقُورِنَتْ تلك الجُبلة بالشامة التي تتوسط صدر ستيفن ولم تتغير، رغم أن سواها من الشامات في جسمه تغيّرت؛ وقُورِنَتْ في المَثَل بصدمة نفسيّة افتراضية في فُتُوّة شكسبير أدّت إلى سنّ بُنية مسرحياته ومواضيعها في السطو، والإذلال، وآخرًا المصالحة. وفي مستوى نفسيّة الفرد الفنّان، توجِز النظرية الحتميّة التي تطرقت إليها الرواية باعتبارها تاريخية واجتماعية.

أما بالنسبة للحلقات، فإن المخطط بيّن عددًا من مكوّنات كل أسلوب يُميّز كل حلقة عن الأخرى، وذكر جويس لبعض الأصدقاء بأنه اهتم وسعى لأنْ يجعل كل حلقة مكتفية بذاتها؛ ونُشرت بعض الحلقات في مجموعات قصصية لتُقرأ كقصص قصيرة، كذلك فقد مُثّلت الحلقة الخامسة عشر ”سيرسي“ على المسرح عدة مرات، وفي كل حلقة نجِد وجهة نظر سرديّة مُغايرة تمامًا عمّا سواها من الحلقات. بالإضافة إلى التآويل الأدبية التي أسهب بها الكاتب في كل حلقة، محللًا بشكل تفصيلي الانسجام المُستنبط من لهجته، وأسلوبه، وموضوعه. غير أنه من المهم- بعد هذه اللمحة- الإشارة إلى أن أساليب الحلقات المتنوعة تلك ليست إلا جزءًا من أسلوب وتراكيب أخرى هامّة في الرواية.

وامتزج الاستقلال والاتكال المتبادل في أسلوب تركيب الحلقات؛ فيشارك كل من ستيفن وبلوم- المكونان الرئيسان لـ ”يوليسيس“ المُركّب- في ذلك المزيج دون أن يتحولا إلى مجرد شخصيات استعارية، بل إنهما فردان مستقلان. ويذكّرنا هذا الأسلوب بعقيدة الثالوث المسيحي المتناقضة، والتي تفضي إلى أن ثلاثة أشخاص متكاملين متساوين لهم جوهر واحد، وقد قال عنها جويس بأنه عندما يتأمل أحد أجزاء الثالث فإن الآخرَين ينسحبان، وذلك ما يحدث بالنسبة لستيفن وبلوم؛ لذا فإن أي حلقة بمفردها في ”يوليسيس“ قادرة على سلب اهتمام القارئ. وبالتالي فإنها أفضل لمحة عامة تقود القارئ إلى الإبحار في سحر أوديسة جويس.

*أسطورة إغريقية يعتمد فهم الحلقة في الرواية عليها، للاستزادة يمكن البحث: Scylla and Charybdis

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *