نيل غيمان: أهميّة المكتبات والقراءة

*ترجمة: راضي النماصي

تقديم

يعتبر نيل جايمان (1960، المملكة المتحدة) ضمن كوكبة أهم المؤلفين المعاصرين لما يسمى بالفانتازيا والخيال العلمي حول العالم أجمع. ألقى جايمان هذه الكلمة خلال احتفال «جمعية القراءة» التطوعية بعامها الثاني. من مؤلفاته «المحيط في نهاية الدرب»، «كورالين»، «آلهة أمريكية» وغيرها.

النص

أشكر «جمعية القراءة» على إتاحة هذه الفرصة للحديث معكم، وهي منظمة خيرية في المملكة المتحدة تعمل على إحياء القراءة في المجتمع ودعم البرامج الثقافية والمكتبات، لأن كل شيء – وكما يقولون – يتغير عندما نبدأ بالقراءة.

يهمني في البدء أن أوضح غرض خطابي لكم الليلة، وهو عن المكتبات والقراءة لأجل المتعة وأهميتهما. وأنا أنطلق في خطابي هذا من كوني قارئًا قبل أن أكون الكاتب الذي يعتاش من كتبه منذ ثلاثين عامًا، وأنطلق قبل كل ذلك من كوني مواطنًا بريطانيًا يهتم ببلاده ويرجو لها الخير.

أود أن أذكر لكم قصة. كنت في نيويورك ذات مرة للحديث حول بناء السجون الخاصة في الولايات المتحدة، وتعتمد هذه السجون في تشييدها على عدة أمور، ومنها بالطبع عدد المساجين في الحي المراد بناء السجن فيه. استطاع المكلفون عمل حساب تقريبي لهذا العدد عبر عملية خوارزمية بسيطة، وهي – أي العملية- أن تقوم بحساب عدد الأطفال الأميين – وبالتأكيد هم لا يستطيعون القراءة للمتعة – بين سني العاشرة والحادية عشر. وبالطبع، أرجو منكم ألا تعتقدوا أن الأمر بهذه البساطة، إذ لا يمكن أن تنعدم الجريمة إذا ما رأينا حال مجتمع متقدم، لكن الأرقام تقترب من هذه الفرضية بشكل كبير، وذلك لأمر بسيط، وهو أن الأشخاص المتعلمين من قراء السرد.

توجد للسرد منفعتان، إحداهما هو كونه باعث على الاستمرار في القراءة، وذلك لأن التشويق القائم على مشكلات الشخصيات في كتاب ما، ومعرفة كيف ستنتهي عبر القراءة وإتمام الكتاب هي باعث حقيقي للغاية من أجل إنهاء الكتب التي يقرؤها من أجل المتعة، وتكون بعد ذلك نواة بحث عن الكتب وينشأ سلوك قراءة دائم جراء ذلك.

في هذه الأيام، تصدر عدة أصوات مزعجة حول أننا لم نعد نعيش في عالم القراءة التقليدية، وأن الزمان قد تجاوزها؛ ولكن ما يحدث الآن يربطنا بالكلمات أكثر من ذي قبل: فبينما ينزلق العالم نحو منحدر الشبكات ويتفكك أكثر فأكثر على مستوى الفرد والجماعة، نجد أن الحاجة إلى التواصل والمتابعة واستيعاب المقروء أكبر. لأن الأشخاص الذين لا يفهمون بعضهم لن يستطيعوا التواصل أو تبادل الأفكار والآراء فيما بعد. أما برامج الترجمة المنتشرة هذه الأيام فستبقى ضامرة ولن تتجاوز ما هي عليه.

ولكي نتأكد من أننا نربي جيلًا متعلمًا تقل فيه الجريمة ويزيد فيه الوعي، فإن أسهل طريقة هي أن نعلمهم القراءة، ونريهم أنها نشاط قابل للاستمتاع. مما يعني لاحقًا أنه من اللازم أن نبحث عن الكتب التي تمتعهم ونوصلها إليهم، وبالتالي سيقرؤون بكل اهتمام وشغف.

دائمًا ما أرى إحدى أنواع كتب الأطفال وقد تم وصفها بالسيئة بين الفترة والأخرى، وتأتي الآراء بمنعها من كل مكان، وهذا أمر لا أعتقد بصحته أبدًا. سمعت أحدهم يصف إنيد بلايتون[1] بالكاتبة السيئة، وكذلك ر.ل.ستاين[2]، والعديد من المؤلفين غيرهم قد وصموا بذلك اللقب. أصبحت مجلات الرسوم في عين البعض تثقيفًا سخيفًا، ولا أعتقد أن ذلك الرأي المطالب بمنع أي كتاب للأطفال سوى مجرد كبر ينم عن سخف وحماقة.

لا يوجد كاتب أطفال محبوب وسيء في الوقت ذاته، لأن كل طفل يختلف في تكوينه؛ وهو يبحث عما يحبه وينتمي إليه ويشد انتباهه؛ ومهما كانت الفكرة التي يطرحها الكتاب سخيفة وقديمة، فهي لا تعد كذلك بالنسبة إلى الأطفال. لا تمنعوا أولادكم وبناتكم من القراءة لأنكم تعتقدون أن ذلك الكتاب سيء، فقد يكون ذلك الكتاب مفتاحًا لهم لولوج عوالم أخرى قد تفضلونها؛ ومن نافلة القول إن الذائقة تختلف من شخص إلى آخر، حتى بين الآباء وأبنائهم.

لا يحتاج أي شخص ليدمر حب القراءة في طفل ما إلا إلى إعطائه كتبًا مملة تنفره منها، سواء في أسلوبها أو فكرتها. وسيقود ذلك إلى جيل يؤمن بأن القراءة نشاط ممل. وقد يحدث ما هو أسوأ، وهو أن يعتبروا القراءة أمرًا كريها.

يجب أن يرتقي أطفالنا في القراءة كما لو كانوا يصعدون سلمًا، فحب عادة القراءة في البداية لن يقود إلا إلى تثقيف حقيقي.

ولا تفعلوا مثل ما فعلت حينما كانت ابنتي تقرأ في صغرها إحدى كتب ر. ل. ستاين، إذ أهديتها فيما بعد رواية «كاري» لستيفن كينغ[3]، وذلك لظني بأنها لو أحبت القراءة لستاين فسيعجبها كينغ. لم تقرأ هولي – وهذا اسمها – بعد ذلك سوى قصص هادئة عن المراجيح إلى أن بلغت، وما زالت تحدق في برعب كلما ذكرت لها اسم ستيفن كينغ.

ثاني منافع قراءة السرد هي بناء العاطفة، ولنقارن بين حالتين. عندما تشاهدون التلفاز أو إحدى الأفلام، فإن ما ينبع داخلك هو أنك ترى أشياء تحدث لأشخاص آخرين لا يهمونكم، وينتهي كل ذلك بمجرد انتهاء ما تشاهدون. ولكن عندما يقع بين يديكم نص ما، فإنكم تشيدون وحدكم عالمًا يتكون من ستة وعشرين حرفًا[4] وبعض علامات الترقيم. تبدؤون بعدها في الشعور بأشياء هذا العالم من حولكم، وتزورون عوالم لم ولن ترونها بطريقة أو بأخرى. تتعلم من القصص والحكايات أن في كل شخص حولك جزء منك ويحملك على التعاطف؛ وعندما تعود إلى الواقع ستجد نفسك وقد تغيرت بشكل ما بسبب ذلك. لأن التعاطف الناشئ هو أداة لإنشاء مجموعات يهتم أفرادها ببعض، ويتصرفون بعيدًا عن الأنانية والهوس الفردي. وأثناء القراءة، ستجدون المبدأ الذي يساعدكم على شق طريق كل فرد منكم في حياته، وهو:

“يجب على العالم ألا يبقى كما هو الآن، فبعض الأشياء قابلة للتغيير”.

قصة أخرى: في عام 2007 ذهبت إلى الصين لحضور أول مؤتمر حول كتابة الخيال العلمي. في لحظة ما، تحدثت مع أحد المسؤولين جانبًا عن سبب استحداث هذا المؤتمر، وأخبرني بأن الأمر وبكل بساطة هو كون الصينيين متبعين لا مبدعين أو مطورين. ولذا، فقد أرسلوا مجموعة أسئلة للعديد من المطورين في الولايات المتحدة وشركات التقنية الكبرى مثل «آبل» و«مايكروسوفت» و«غوغل» عن أنفسهم، ووجدوا أنهم كانوا قراء لكتب الخيال العلمي في صغرهم.

يستطيع السرد أن يريكم عالمًا لم تروه من قبل، وعندما تخرجون من ذلك العالم يتملككم شعور طفيف بالاغتراب وعدم الرضا والتوافق مع الواقع الذي عدتم إليه؛ وهذا في حد ذاته أمر جيد، لأنه يحثنا على تعديل عالمنا وتحسينه، فيعود مختلفًا، وبالطبع بحالة أفضل.

وبما أننا ذكرنا هذا الموضوع، فأود أن أتحدث ببضع كلمات عن مفهوم الخروج على الواقع بالكتابة. دائمًا ما أسمع الناس يتحدثون عن هذا الموضوع كما لو أنه شيء سيئ، أو أنه أحد أنواع الكتابة المبتذلة التفاؤلية التي يستخدمها مؤلفون حمقى. بينما الكتابة الجديرة بالانتشار هي الكتابة الواقعية المنمقة التي تظهر أسوأ عالمٍ ممكن ليعيش القارئ فيه؛ ولكني أريد طرح ما يفند هذا الرأي.

لنفترض أنكم في موقف سيئ مع أناس لا تحبونهم، وفي مكان لا تودون أن تكونوا فيه، وعرض عليكم أحد الأشخاص مخرجًا مؤقتًا منه.. فهل سترفضون الهروب؟

إن السرد يقوم بالشيء ذاته، فهو يقوم بإخراجك مما أنت عليه إلى عالم بهيج مشرق، مع ناس تود لقاءهم وفي أماكن تود زيارتها – ولن نختلف حول الكتب وأنها أماكن حقيقية في هذه الحالة-. لكن ما يهمنا أكثر هو أن الكتب ستمنحكم معرفة بالواقع والذات، مما سيسلحكم ويحميكم بأشياء حقيقية عندما تعودون إلى الواقع البائس، وأعني أنكم ستعودون بمهارات ومعرفة تستطيعون بها النجاح والمضي قدمًا في حياتكم. وكما يذكرنا الكاتب ج. ر. ر. تولكين[5]، بأن “وحدهم السجانون هم من يناضل ضد الخروج”.

وأيضًا، توجد هناك طريقة أخرى لتدمير حب النشء للقراءة، وهي عدم توفير الكتب أو الأماكن المخصصة. أما بالنسبة إلي، فأقر أني كنت محظوظًا، إذ كانت هناك مكتبة في حينا، وكان والداي يذهبان بي باستمرار إلى هناك. أذكر أن موظفي المكتبة كانوا ودودين للغاية ومتعاونين، ولم يبدوا أي استهجان أو احتقار لذلك الصبي الذي يذهب في ذلك الحين إلى قسم الأطفال كل صباح وهو يتوغل بين الكتب بحثًا عن كتب حول الأشباح أو مصاصي الدماء، أو يبحث في بعض الأحيان عن كتب حول السحر والصواريخ. بدأت بعد ذلك بقراءة كتب الأشخاص البالغين بعد أن أنهيت مكتبة الأطفال بالكامل.

أذكر أن القيمين على المكتبة كانوا أشخاصًا في منتهى الروعة. أحبوا الكتب، وأحبوها أكثر حينما رأوا الناس يقرؤونها. وأذكر أيضًا أنهم علموني كيفية البحث في الفهرس الإلكتروني، ولم يبدوا أي استغراب عن أي شيء أبحث عنه. وعلاوة على ذلك، كانوا يتحدثون معي عن الكتب التي أختارها، ويقترحون لي كتبًا إضافية في السلسلة ذاتها التي كنت أبحث فيها، مما كان يعني أنهم عاملوني بجدية كما لو كنت قارئًا بالغًا. لم أعتد أن يعاملني الناس وقتها باحترام، وذلك لصغر سني، ولكن المكتبات في أساسها أماكن تقوم على حرية التواصل الفكري والثقافي، وعلى التعليم – ولا أقصد البرامج التي تقيمها الحكومات، والتي تنتهي بالتخرج من المدرسة أو الجامعة – والترفيه، وعلى خلق مساحات آمنة للأفراد ووسائل تعينهم على الوصول إلى شتى أنواع المعارف.

في هذا الزمن، أخشى أن من بيننا أناسًا ممن أساؤوا فهم دور المكتبات. إن كانت المكتبات تعني لكم الصورة النمطية المنتشرة ذاتها – وأقصد المكان المليء بالرفوف التي تحتوي على العديد من الكتب -، فلربما ترون أنها شيء جميل ولكنه بائد في عصر توجد فيه جميع الكتب بصيغة إلكترونية. لكن تلك الصورة الخاطئة بالضرورة تقود إلى فهم خاطئ حول الغرض من المكتبات، وأعتقد أن ذلك يعود إلى طبيعة المعلومات المنقولة في الكتب وفي الشاشات هذه الأيام.

تحمل أي معلومة في ذاتها قيمة ما، وبعض المعلومات لها قيمة أكبر من غيرها، مما يجعلها أهم. منذ فجر التاريخ كنا نعيش في زمن يقدس المعلومة ويثمن نيلها على الدوام، فنحن استخدمنا المعلومات في الزراعة والبحث عن المفقود والمطلوب وقراءة الخرائط والبحث في التاريخ. لذا كانت أي معلومة ثمينة بشكل أو بآخر، ولم يهبها أحد دون مقابل.

حصل النقيض في العصر الحالي تمامًا، فقد انتقلنا من مجتمعات تحتكر المعرفة إلى مجتمعات تفيض بها. استنادًا إلى إيريك شميدت، المدير التنفيذي لشركة «غوغل»، ينتج العرق البشري من المعلومات كل يومين بقدر ما استطاعوا إنتاجه منذ فجر التاريخ حتى سنة 2003، وهذا يعني ما يقارب خمسة إكسا بايتات[6] من البيانات كل يوم – لمن يحب تسجيل الأرقام منكم-. أصبح التحدي يدور الآن حول إيجاد النبتة المناسبة في غابةٍ ما، عوضًا عن إيجاد أي نبتة في الصحراء قديمًا؛ وصرنا نبحث عمن يساعدنا للبحث عن المعلومة التي تفيدنا حقا في الشيء الذي نبحث عنه بالفعل.

يذهب الناس إلى المكتبات في العموم بحثًا عن المعلومات، ولكن الكتب هناك لا تشكل سوى جزء بسيط مما يهم. نعم هي موجودة، ويمكن أن تتزود بها من المكتبة بشكل قانوني وبالمجان، سواء كانت صوتية أو إلكترونية أو مطبوعة. ولكنها – وعلى سبيل المثال – أيضًا تعد مكانًا لمن لا يستطيع توفير حاسوب أو خدمة تصفح الإنترنت، حيث يأتون إلى المكتبة من أجل التصفح دون مقابل، وهذا قد يفيد الباحثين عن عمل أو المتقدمين لجهة توفر وظيفة ما. وهذه تعد ميزة إضافية للمكتبات في عصر تتجه فيه منافع الناس بشكل كبير إلى شبكة الإنترنت؛ كما يمكن للقائمين على المكتبة مساعدة روادها في أمور التصفح.

لا أعتقد أن الكتب ستتحول – أو يجب أن تتحول – إلى صيغ إلكترونية، فكما وضح لي دوغلاس آدامز[7] مرة – وذلك قبل ظهور أجهزة كيندل بعشرين عامًا – أن الكتب بمثابة أسماك القرش، حيث حافظت على وجودها رغم أنها أقدم من الديناصورات، وذلك لكونها حافظت على ذاتها وتعلم كيف تكون أسماك قرش أكثر من ذاتها. ووجد آدامز أن الكتب تشبه أسماك القرش من هذه الناحية تمامًا، فهي متينة ويصعب إتلافها، كما أنها ذات ملمس ناعم وتعمل بنور الشمس. لذلك فهي لن تتغير، ولن يكون هناك مهد لها سوى المكتبات على الدوام؛ وهذا لن يعني أن للمكتبات استعمالاتها الأخرى التي تتعدد بين الدخول إلى شبكة الإنترنت والكتب الصوتية والأقراص المدمجة المرئية.

كل مكتبة تعد منبعًا للمعرفة، وهي تمنح القدرةَ لأي مواطن أن يدخل إليها مثل بقية الناس ليحوز أي معرفة عن الجسد أو العقل. خصصت هذه المكتبات للمجتمعات، وهي أماكن نشعر فيها بالأمان، بل إن الواحدة منها جنة على الأرض، وأمناء تلك الجنة موجودون بيننا.

في هذا الوقت، يجب أن نتخيل حال المكتبات في المستقبل. أرى أن في عالمنا، عالم البريد والنص الإلكتروني، نحتاج إلى القراءة أكثر من أي وقت مضى. نحن نحتاج إلى مواطنين عالميين يستوعبون ما تقع عليه أعينهم، وبعد ذلك يعبرون بحسب فهمهم وما يقدرون عليه.

من المؤسف أن أرى المكتبات هذه الأيام وقد تم التخلي عنها من الحكومات بدعوى التوفير، بينما ما يفعلونه في الواقع هو السرقة من المستقبل لأجل الحاضر؛ لأن هؤلاء يغلقون الأبواب التي يجب أن تبقى مفتوحة.

ظهرت دراسة حديثة من المركز الوطني للتطوير والتنسيق الاقتصادي تفيد بأن إنجلترا هي البلد الوحيد الذي يحظى فيه كبار السن بقدرات لفظية وكمية أعلى من الأجيال الشابة. وإن أردتم صياغة أخرى، فإن الدراسة هذه تخبركم بأن أطفالكم وشبابكم أقل ثقافة منكم، وبالتالي هم أقل إدراكًا ووعيًا بالعالم الذي يعيشون فيه، وأقل فهمًا من الجيل القديم، وبالتالي هم لا يستطيعون حل مشاكلهم بالإمكانيات ذاتها التي لدينا، فصار الآن من السهل خداعهم والتحكم فيهم، مما سيجعل هذا البلد في مصاف البلدان المتأخرة، وذلك لكونها تفتقد قوة عاملة ماهرة. وفي ذلك الوقت، بينما يكيل السياسيون لبعضهم الاتهامات، لن ينجدنا إلا حب القراءة الذي سننشئه في أبنائنا بداية من هذه اللحظات.

نحن نحتاج إلى الكتب، وإلى المكتبات، ونحتاج إلى مواطنين مثقفين. سواءً كنت تقرأ الكتاب ملموسًا أو إلكترونيًا فأنا لا أهتم. ما يهمني هو المحتوى الذي تقرؤه ومدى نفعه.

تعد الكتب طريقًا للتواصل مع من سلف وللتعلم منهم كيفية تشييد إنسانية ذات معرفة خلاقة لا تكرر نفسها. ساهمت بعض الحكايات في تطوير البلدان التي نشأت منها، وعمران الثقافات التي أنتجتها، ومازالت خالدة وتتداول حتى اليوم.

أؤمن بأن علينا مسؤولية تجاه المستقبل وأبنائه والعالم، ويجب على الكل أن يقوم بما لديه في مجال قدرته؛ وسأوضح دور كل شخص منا فيما يلي:

أؤمن بأن علينا جميعًا أن نلتزم بالقراءة لأجل المتعة، سواء كان ذلك في الأماكن العامة أو الخاصة. إذا كنا نقرأ للمتعة ورآنا شخصٌ ما وتأثر بنا، فنحن بالتالي سنتعلم، ونطور من خيالنا. بالتالي، سيرى الآخرون منا أن القراءة أمرٌ جيد وممتع، وستنتشر.

علينا التزام فيما يتعلق بدعم المكتبات. وذلك بزيارتها والانتفاع منها، وحثّ الآخرين على فعل الشيء ذاته، والتظاهر ضد غلق المكتبات في كل مرة. إذا لم تقدروا المكتبات فأنتم لا تقدرون المعلومات والثقافة والحكمة. أنتم بهذا العمل تخرسون صوت الماضي وتضرون المستقبل.

علينا التزام تجاه القراءة لأطفالنا وبصوتٍ عالٍ. يجب أن نقرأ أشياء تمتعهم، أشياء مللنا نحن من تكرارها. يجب أن نمثل بأصواتنا ونحن نقرأ، ونجعل مما نقرؤه شيئًا مثيرًا للاهتمام، ولا نتوقف لأنهم يريدون القراءة بأنفسهم. اجعلوا من وقت القراءة بصوت عال مناسبة يومية للم شمل العائلة، بحيث لا يتفقد أي من أصحاب المنزل هاتفه، ويُوضَع أي تشتيت من العالم الذي يحيطنا جانبًا.

علينا التزام تجاه استخدام اللغة، وذلك بدفع أنفسنا إلى البحث عن معاني الكلمات وكيفية توظيفها، والتواصل بوضوح وقول ما نعنيه. يجب ألا نحاول إيقاف اللغة عن النمو والتطور، أو أن نتظاهر بأنها ماتت ويجب استبدالها؛ بل يجب علينا التعامل معها على أنها كائن حي، يحلق بيننا ويستعير الكلمات، ويسمح للمعاني والضمائر بأن تتغير مع الزمن.

أما نحن الكتّاب، وخصوصًا الذين يكتبون للأطفال، فعلينا التزام تجاه قرائنا. هذا الالتزام يتعلق بأن نكتب أشياء حقيقية، وتشتد أهمية التزامنا حينما نختلقُ حكاياتٍ عن أناس غير موجودين في الواقع على أراضٍ لم يأتوا إليها، وذلك كي يعي القارئ أن الحقيقة ليست فيما يحدث، بل فيما يخبرنا عن أنفسنا. ففي النهاية، الرواية هي كذبة تقود إلى الحقيقة.

علينا التزام بعدم جعل القراء يشعرون بالملل، بل بجعلهم يقلبون الصفحات إثر بعضها تشوقًا. أحد أفضل العلاجات لقارئٍ متردد هي حكاية لا تبعثه على التوقف عن قراءتها. وبينما نضع للقراء بأيديهم أسلحة ودروعًا لمواجهة العالم، ونعطيهم مما جنيناه من حكمة أثناء إقامتنا القصيرة على هذا الكوكب، يجب علينا ككتاب ألا نعظ القراء، أو نقدم محاضراتٍ لهم في كتابتنا، أو نقحم أمثولات ورسائل ممجدة سلفًا إلى القراء كطائر يطعم فرخه دودًا ممضوغًا. وبالطبع، يجب ألا نحاول، مهما كانت الظروف، أن نكتب لأطفالنا ما لا نود نحن قراءته.

يجب أن يعي ويقدر كتّاب الأطفال أنهم يقومون بعملٍ مهم. بسبب أنهم لو أفسدوا كل شيءٍ وقاموا بكتابة كتبٍ سيئة تنفرهم من القراءة، فسنكون بذلك قد دمرنا مستقبلهم وثبتنا مستقبلنا كحاضر لهم.

لدينا كلنا التزام – أطفالاً وقراءً وكتابًا – بأن نحلم في اليقظة. يجب علينا جميعًا أن نتخيل. من السهل أن نتظاهر بأن لا أحد يمكنه تغيير أي شيء، وأننا في مجتمعات ضخمة مقابل الفرد، كذرةٍ في جدار، أو بذرة أرز في حقل. لكن الحقيقة هي أن الأفراد يستطيعون تغيير العالم بأكمله مرة تلو الأخرى. يصنع الأفراد المستقبل، وذلك على يد تخيلهم بأن الأشياء يمكن أن تتغير.

أيها السادة والسيدات، أطلب منكم النهوض والنظر من حولكم. كل ما ترونه، بما فيه المسرح والمذياع والجدران والمنصة والكراسي، كان خيالًا في أحد الأيام. تخيل شخص ما أن الجلوس في كرسي أحسن من الجلوس على الأرض، ومن ثم قرر صنعه، وها قد ظهر واستفاد منه الكل. كان على أحدهم أن يتخيل كيف أن أجمعكم في مكان واحد في لندن، وأتحدث لكم طول هذه المدة دون أن تتأثروا بالمطر المنهمر في الخارج. ظهر كل شيء تتعاملون معه في حياتكم اليومية بفضل الخيال في البدء، ولا تظنوا أن من تخيل ذلك قد سلم من الاستهجان والسخرية، حتى عندما حاولوا وفشلوا أول مرة ونجحوا بعد ذلك. لكنهم في النهاية نجحوا. كل الحركات السياسية التي ترونها بدأت عبر الخيال، وعبر أناس تخيلوا طريقة أخرى للمعيشة وتبادل المنافع.

علينا التزام تجاه تجميل هذا العالم، فلا تتركوه أبشع مما وجدناه. لا تفرغوا المحيطات بسبب الاحتباس الحراري، ولا تتركوا مشاكلنا للجيل الذي يلينا. لدينا التزام بأن ننظف ما تركناه خلفنا، وألا نترك لأطفالنا عالمًا لوثناه بأيدينا، وغيرناه بشكل ناقص ليصير مشوهًا. يجب أن نقول للسياسيين ما نريد، وأن نصوت ضد أي سياسيٍ من أي حزبٍ كان، طالما أنه لا يحمي المعرفة ويؤيد الثقافة ويشجعهما. هذه ليست مسألة أحزاب، بل مسألة تتعلق بالبشرية جمعاء.

سأل أحدهم العالم ألبرت آينشتاين عن كيفية تنمية ذكاء الأطفال، فأجاب: “إذا أردتم لأطفالكم أن يكونوا أذكياء، فاقرؤوا لهم حكايات خيالية أكثر”، ويا له من جواب حكيم وبسيط في الوقت ذاته. فقد فهم آينشتاين عبر السنين أهمية القراءة والخيال في حياة المرء؛ وآمل أن نستمر بالعطاء لأطفالنا في عالمٍ يقرؤون فيه، ونقرأ لهم فيه، ويتخيلون ويفهمون ما يقرؤونه كذلك.

شكرًا لاستماعكم.

المصدر: داخل المكتبة خارج العالم، ترجمة راضي النماصي – دار أثر.
________

الهوامش: 

[1] Enid Plyton  (1897- 1968)  روائية بريطانية، وتكتب ضمن أدب الأطفال.

[2]  R. L. Stein (1947 – الآن) كاتب أمريكي، ويكتب ضمن ما يعرف بـ«أدب رعب الطفل».

[3] Stephen King (1947-الآن) كاتب أمريكي، ويعتبر أشهر كاتب رعب في العالم. تعتبر رواية «Carrie» الأولى ضمن نتاجه.

[4] للتوضيح: هذا عدد الأحرف في اللغة الإنجليزية.

[5] J. R. R. Tolkien (1892 – 1973) جون رونالد رويل تولكين، كاتب ومحاضر أمريكي. من أشهر رواياته «الهوبيت –  The Hobbit» وسلسلة «ملك الخواتم – Lord of the Rings» التي تحولت إلى أفلام شهيرة.

[6] Exa Byte تساوي مليار غيغا بايت.

[7] Douglas Adams (1952-2001) كاتب بريطاني في مجال الخيال العلمي، اشتهر بمؤلفاته التي تنطوي على حس كوميدي بالإضافة إلى قيمتها العلمية الكبيرة، مثل “دليل الجوال في المجرة – The Hitchhiker’s Guide to the Galaxy”.
_______
*تكوين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *