*محمد نور الدين أفاية
يولّد التمازج الثقافي حالة من القلق لدى المرء، الذي لا يزال يشك في متانة مقومات هويته. وتؤدي وضعية الهجانة، بالمعنى الثقافي، إلى نوع من عدم الاطمئنان إلى الصور الذاتية التي يرنو العربي إلى التقدم بها إلى العالم. لكن، هل يعثر المرء، على طول الجغرافيا العربية، على مشروع سياسي يواجه هذه الحالة بشجاعة ويتحمل مسؤولية هذا الوجود المختلط؟
قد يبدو هذا السؤال ساذجاً إلى حد ما، قياساً إلى ما تشهده الساحات العربية من اهتزازات وتفجرات، وخراب. لكن مع ذلك لا مناص من الإقرار بأن «هوس الهوية»، الذي لا تكف الخطابات العربية المعاصرة عن صياغته، يمثل عَرضاً من أعراض الفشل السياسي في مجتمعاتنا. فهو يعبر عن ذاته من خلال الخوف الدفين على أن نصبح ما لسنا نحن، أي أن العربي يجد نفسه أمام المأزق التالي: يتعين عليه أن يحافظ على مقومات الذات، ومضطرٌّ إلى أن يتغير في الآن نفسه، إلا أنه إذا تشبّث بالمحافظة على ذاته، كما هو، فإنه يجد نفسه معرّضاً للاهتزاز، وإذا تغير فإنه يخاطر، أيضاً، بضياع بعض مكوناته.
يتعلق الأمر بـ«قلق عربي»، وهو قلق راجع إلى المحاولات الدائمة والمتجددة للانتقاص من العقل، إن لم نقل لاغتياله، أو بـ«نظرة مبتورة» كما يرى «داريوش شايغان»، تمرر آليات الانسداد والتشذر التي تشوش على تمثل الأشياء. يعبر ذلك عن تردد بين الذات وذاتها، وبين الغير وآخر الذات. وسواء تعلّق الأمر بمجرد قلق أو بتر حقيقي، بسؤال حيوي أو ذريعة، فإن جدل الهوية يتحقق، دوماً، في التوتر، ويغتني في/ وبالصراع. وبقدر ما أتبرم من الاعتقادات والتقاليد وأنماط السلوك التي لم أخترها، كلما ارتبطتُ بالـ«هنا» و«الآن»، بذاكرتي وبمحيطي الثقافي، بالرموز التي تحددني في المكان والزمان. تفرض الهوية تفاصيلها، حيث يتدخل المرء في الحاضر ويبدع، حين يتحقق ويتذوَّت.
من هذا المنطلق تتساوى كل المرجعيات والمتون والتجارب والنماذج أمام مساحة الوعي، لأن الاختيار، في هذه الحالة، لا يتم على قاعدة الانتماء العرقي أو الإثني أو الديني، وإنما استناداً إلى أسس فكرية وإلى اعتبارات جمالية. وسيكون من الوهم الاعتقاد في أن حسن الإرادة والتسامح والفضول تكفي لكي يتأسس انفتاح ما على المغايرة، لأن قبول الآخر، في اختلافه في أكثر الأحوال، نتاج مسار صعب يمر عبر الوعي اليقظ بالنزعة المتمركزة حول العرق الثاوية في نظرتنا إلى الآخر.
التثاقف وسؤال الهوية
يغدو التثاقف على هذا الصعيد، وفي تفاعله مع سؤال الهوية، انفتاحاً ورهاناً في الوقت نفسه، لأنه يقترح علينا نمطاً من التواصل يتجاوز المسبقات والصور النمطية للثقافات الأصلية. وإذا كان التثاقف يفترض فكرة التداخل العلائقي والتبادل بين الثقافات المختلفة، فإن هويتي الثقافية، في تعبيراتها المتعالية الخالصة، تكثيف لتخيل محض. فالعالم الذي نشهد على أحداثه، بفضل الاندفاعية التواصلية العارمة ذات الطبيعة التثاقفية، على الرغم منا أحياناً، لا يمثل القرية التي تحدث عنها «مارشال ماكلوهان»، لأن حركة الأجساد وهجرة الرموز وضخ الصور يعزز الوعي بالمغايرة. وسواء تعلق الأمر بحوض الأبيض المتوسط أو بالعالم في مجمله، فإن الثقافات غير الغربية، كما تقدم نفسها سياسياً في الوقت الراهن، تعبر عن ردود أفعال لهويات قلقة إزاء الاجتياح الكاسح للعولمة، يبرز هذا النوع من الاستجابات في كل مرة يحاول نمط من التراتب الانتقاصي للثقافات أن يفرض إرادته الاستثنائية للقوة، إذ لا شيء يمكن أن يدّعي الحياد، بما فيها بعض الخطابات عن التسامح أو التثاقف أو طهارة الهوية، بل وحتى العولمة الجارفة أو الادعاء التواصلي المغري. ذلك أن التثاقف كثيراً ما يخضع لرهان علاقات القوى. هنا يغدو خطاب الهوية ملتبساً، بل ومحاصراً بحسابات لا حصر لها. ففي الوقت الذي تتحرك فيه الآلة الجهنمية للعولمة، بتجلياتها المالية والافتراضية، يواجه العالم، لا سيما أكثر المناطق هشاشة فيه ولا سيما المنطقة العربية، أنماطاً من سوء التفاهم، ومن استراتيجيات الإلغاء والموت صعبة التحديد أحياناً، على صعيد أعلى مستويات ما يُدعى بالتواصل.
يتقدم التثاقف، في الواقع، باعتباره سؤالاً للفكر واندفاعة حيوية. يمثل رهاناً للعلاقات التذاوتية وتحدياً ثقافياً. يورّط العقلاني في المتخيل ويسمح لتعبيرات المتخيل بالحضور في تدرجات الوعي. لذلك تتعقد مهمة الفكر حين يحاول المرء استثمار الثقافات وأنظمة القيم، إذ يفترض التواصل التثاقفي، أولاً وقبل كل شيء، تدخُّل أفراد أو أشخاص قادرين على تبليغ النظام الرمزي والتخيلي لثقافتهم عبر أجسادهم ولغاتهم وأنماط حضورهم في سياق المناقشة، وبغض النظر عن ظواهر الاستعمار المختلفة، والهجرة والتمازج والاختلاط. ويغدو المعيش الفردي، في الفاعلية التثاقفية، حاسماً في كل تواصل، بل وفي كل «أخلاق تواصلية». وإذا كان التثاقف يظهر، في اللحظة الراهنة، بوصفه أفقا للفكر وانفتاحاً على العالم، على الرغم من صعوبات التعويل على تداعياته، فلأن الأبعاد الأخلاقية والجمالية تمثل مطلباً ملحاً لإعادة التفكير فيما هو إنساني، خارج كل إرادة متغطرسة للقوة أو نزعة إنسانية ساذجة. فنحن نعيش في عالم أصبح فيه التمازج الثقافي واقعاً أكيداً، يضطر فيه المرء إلى أن يحوز أكثر من أداة مفهومية، وأن يحضر في أكثر من مستوى في الوقت نفسه، وأن يمتلك شبكات معرفية متعددة. فالتمازج الثقافي هو الاعتراف الفعلي بالآخر فينا، لذلك أكون في حالة اطمئنان إلى هويتي حين أقدر على المغامرة بعرضها على التواصل، بكل ما يفترض من إمكانية مساءلتها وخلخلتها وتعديل بعض تفاصيلها.
فالتثاقف باعتباره رهاناً وانفتاحاً، والهوية بوصفها تحدياً وقلقاً، في تجلياتهما التواصلية أو التراجيدية، يمثلان موضوعاً للتساؤل بقدر ما يشكلان فضيحة. يمكن للتثاقفية أن تتقدم كأفق خارج كل تراتبية متغطرسة، كما يمكن للهوية أن تستقبل الآخر خارج كل هوس مطمئن. إن الاعتراف بالآخر، باعتباره شبيهاً ومختلفاً، يحفز المرء على التوفيق، بل وعلى التفاوض، بما يستدعيه من تبادل وأخذ ورد ومراعاة توازن العلاقات. فالتوفيق والتفاوض بُعدان محددان للمقتضيات التواصلية للنظام الثقافي. للنقد موقعه ولا شك، وللاحتجاج دوره الأكيد، غير أن التثاقفية لا يمكن ترجمتها في وقائع بعينها أو إلى معيش محدد إلا بفضل أخلاق حقيقية للتسامح. والمشكل الذي يعترضنا، في هذا السياق، من طبيعة مزدوجة: ذلك أن استقبال الآخر يمكن أن يتم بفضل منطق تواصلي واضح، لكن داخل إطار تعددي -والتعدد يصعب ضبطه مفهومياً في كثير من الأحيان- ومن جهة أخرى يضعنا مبدأ التوفيق أو التسامح في موقع معياري مُحرج، لأنه سيجنبنا مواجهة سؤال التعدد المعقد، ويرمي بنا داخل لغة البدهيات وحسن النيات. وذلك ما لا يستجيب لمطلب الفكر النقدي. فوحدها مقاربة تثاقفية نقدية يقظة، يمكن أن تشكل أفقاً للتفكير في الهوية في تعبيراتها الجمعية والتواصلية أو في لحظات انسدادها وتوترها.